logo

الهجرة الدعوية


بتاريخ : الأربعاء ، 20 ذو الحجة ، 1440 الموافق 21 أغسطس 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الهجرة الدعوية

إن البقاء في موطن تحبه وتركن إليه، وتتمتع بجوه وبجماله، وتأنس بأهله وجيرانه، رغم عجزك عن الدعوة إلى معتقدك؛ بل وصعوبة إقامة شعائر دينك؛ يعتبر ظلمًا للنفس، كما قال الله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97].

قال ابن كثير: «الآية دالة على وجوب الهجرة عامة؛ فكل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة دينه، فهو ظالم لنفسه، مرتكب محرمًا بالإجماع»(1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»(2)، وفي رواية: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار»(3).

إن نظرة متأنية إلى حادث الهجرة توضح لنا هذا المفهوم الجليل والمعنى الواضح في ارتباط المسلم بعقيدة وليس بوطن، وبدين وليس بأرض، فوطن المسلم حيث يستطيع إقامة شرع الله، وأرضه هي أرض الدعوة وتبليغ الرسالة.

إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي، وليس رسالة خاصة بالعرب، إن موضوعه هو (الإنسان)، نوع (الإنسان)، ومجاله هو (الأرض) كل الأرض.

إن الله سبحانه ليس ربًا للعرب وحدهم، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم؛ إن الله هو (رب العالمين)، وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره.

والعبودية الكبرى، في نظر الإسلام، هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر، وهذه هي (العبادة) التي يقرر أنها لا تكون إلا لله، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين(4).

فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، هكذا {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} إنها الهجرة، وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته، يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس، ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل، ويهاجر إلى ربه متخففًا من كل شيء، طارحًا وراءه كل شيء، مسلمًا نفسه لربه، لا يستبقي منها شيئًا، موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء، إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.

وكان إبراهيم، حتى هذه اللحظة، وحيدًا لا عقب له، وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة، وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم، فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه(5).

ولقد كان لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضًا؛ لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، وما زالت تقدم، للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان، بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.

الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد وحفظ إيمانه، وهي أقسام:

الأول: هجر المحرمات، التي حرمها الله في كتابه، وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم على جميع المكلفين، وأخبر أن من هجرها فقد هجر ما حرمه الله عليه، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»(6)، وهذا أمر مجمل شامل لجميع المحرمات القولية والفعلية.

القسم الثاني: الهجرة من كل بلد تظهر فيها شعائر الشرك وأعلام الكفر، ويعلن فيها بالمحرمات، والمقيم فيها لا يقدر على إظهار دينه والتصريح بالبراءة من المشركين وعداوتهم، ومع هذا يعتقد كفرهم وبطلان ما هم عليه؛ لكن إنما جلس بين ظهرانيهم شحًا بالمال والوطن، فهذا عاص ومرتكبٌ محرمًا، وداخل في حكم الوعيد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:99]، فلم يعذر الله إلا المستضعف، الذي لا يقدر على التخلص من أيدي المشركين، ولو قدر ما عرف سلوك الطريق وهدايته، إلى غير ذلك من الأعذار، وقال صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله»(7)، فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافرًا؛ بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين، وأخرجوه معهم كرهًا فحكمه حكمهم في القتل، وأخذ المال، لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعًا واختيارًا، وأعانهم ببدنه وماله فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر.

ومن الهجرة الواجبة أيضًا الهجرة من بين ظهراني الأعراب المتظاهرين بالكفر والشرك، وارتكاب بعض المحرمات، وهو عاجز عن إظهار دينه، ولا قدرة له على الإنكار عليهم؛ فهذا هجرتُه فرضٌ إذا قدر عليها، فإن تركها مع قدرته واستطاعته فحكمه حكم من هو في بلدان المشركين المتقدم ذكرهم، فهؤلاء يعادَوْن ويُبغضون على ما معهم من المعصية، ويحبون ويوالَوْن على ما معهم من أصل الإسلام، وهجر هؤلاء ومن تقدم ذكرهم إذا كان فيه مصلحة راجحة، وردع لهم وزجر لأمثالهم، ولم يترتب عليه مفسدة، فهو جائز، والمسافر إليهم مرتكب أيضًا حرامًا فيهجر بقدر ذنبه.

قال علماؤنا: المقيم بين ظهراني المشركين والمسافر إليهم لأجل التجارة مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، فعقوبة المقيم أعظم من عقوبة المسافر، وهجر المقيم أغلظ من هجر المسافر؛ فيعاملون بالهجر والمعاداة والموالاة بحسب ما تقتضيه المصلحة الشرعية.

وأما الهجرة المستحبة، وهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، إذا كان مظهرًا لدينه، وقد أمن الفتنة على نفسه ودينه، فهذا هجرته مستحبة، وكذلك من هو بين ظهراني بعض البوادي الملتزمين لشرائع الإسلام، المجتنبين لما حرمه الله عليهم من سفك الدماء ونهب الأموال وغيرها، ولا يوجد عندهم من يجاهر بالمعاصي، فالهجرة حينئذ من بينهم مستحبة، وفيها فضل عظيم، وثواب جزيل؛ لتعلم الخير، وإقامة الجمعة، وغير ذلك من المصالح التي يعرفها من نَوَّر الله قلبه، ورزقه البصيرة(8).

أهداف الهجرة النبوية:

إن الناظر في كتب السيرة ليدرك جليًا أن الأهداف المنشودة من الهجرة كانت كما يلي:

– إقامة دين الله، ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله؛ ولذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله.

– حماية الجماعة التي آمنت بدين الله عز وجل، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.

– نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].

– تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب.

– الانطلاق بالإسلام إلى العالم؛ لتكون له الأستاذية، باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28](9).

- إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار؛ حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل، وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كان هذا الهدف أملًا يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب»(10).

- تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود، ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق منه الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث مصعب بن عمير إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام، وينشر دعوة الله فيها، ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثَّ أصحابه على الهجرة إليها.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعًا أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه؛ لأن الجماعة من دون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذي السير إلى أهدافها بخُطًا وئيدة.

فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله؛ هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدءوا السير في الطريق الصحيح، وبدءوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله(11).

ماذا بعد الهجرة:

هل حققت الهجرة أهدافها؟

* لقد كانت الهجرة لإقامة دين الله، ولقد تحقق ذلك، ودخل الناس في هذا الدين أفواجًا، وصدق الله القائل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر:1-3].

* لقد حفظ الله الجماعة المؤمنة الموحدة من بطش المشركين والكفار، سواء في مكة أو في المدينة، وأصبح المسلم يعيش في أمن وسكينة، وصدقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليتمن الله ذلك الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه»(12).

* لقد تم بناء المجتمع الإسلامي الموحد، والذي يسود فيه الإخاء والحب والتكافل والتضامن المترابط، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(13).

* لقد تم تأسيس الدولة الإسلامية، والتي تحكم بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية في كل نواحي الحياة، الدولة ذات المرجعية الإسلامية القادرة على تحقيق الحياة الرغدة في الدنيا والفوز برضاء الله في الآخرة.

* لقد تم انطلاق الدعوة الإسلامية إلى ربوع العالم، وأظهر الله هذا الدين على الدين كله، وصدق الله القائل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].

* لقد أتم الله هذا الدين رغم كره الكافرين، وصدق الله القائل: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [التوبة:32].

دروس وعبر دعوية مستفادة من الهجرة النبوية المباركة:

نخلص من الهجرة النبوية وبرامج تنفيذها عمليًّا، وما أسفرت عنه من نتائج، إلى العديد من الدروس التي يمكن الاستفادة بها في الوقت المعاصر للنهوض بالدعوة الإسلامية، من هذه الدروس:

– لا بد وأن يكون لكل داعية إلى الله هدف وغاية، وغاية الغايات هي إقامة هذا الدين.

– أن يخطط كل داعيةٍ إلى الله دعوته طبقًا لمجموعةٍ من السياسات المطابقة لشرع الله، ويتجنب العشوائية والارتجالية، وصدق الله القائل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123].

- أن يقرن كل داعيةٍ إلى الله التوكل على الله بالأسباب، فإنَّ تحقُّقَ التوكل الخالص لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب التي قدَّرها الله وأمر بها، وصدق الله القائل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].

- يقوم أي عمل عظيم على التضحية بكل شيء عزيز، فالنصر يحتاج إلى جهاد، وكل جهاد يحتاج إلى تضحية، فلا كسبَ بلا جهد، ولا جهد بلا كسب، يقول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]؛ ولذلك يجب ألا نبخل على الدعوة بأي تضحيةٍ مهما كانت عزيزة.

- تقوم الدولة الإسلامية على مقومات أساسية، منها: المؤسسات الدينية، والمؤسسات المجتمعية، والمؤسسات الاقتصادية، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم: بناء المسجد، بناء المجتمع، بناء السوق، وكل هذا مسخر لخدمة دعوة الله.

- الحذر الشديد من اليهود ومكايدهم وكرههم الشديد للمسلمين، فلا يرقبون في مسلم إلًّا ولا ذمة، يقول الله عز وجل فيهم: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ} [التوبة:10]، فيجب على رجال الدعوة الإسلامية الحذر الشديد من مخططات الصهيونية، وليس ما يحدث في فلسطين منَّا ببعيد.

– الإيمان العميق بأن النصر من عند الله، وإنْ التزمنا بشرع الله فسوف ينصرنا الله؛ مصداقًا لقوله عز وجل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة:40]، فيجب على رجال الدعوة تجديد النية مع الله.

- من الدروس المستفادة من الهجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له استراتيجية واضحة المعالم، خَطَّطَ وأعد لها، ونفَّذها حتى تحققت أهداف الدعوة الإسلامية، ونزل قول الله تبارك وتعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].

لذلك يجب على رجال ومنظمات الدعوة الإسلامية، على مستوى كل قطر وعلى مستوى الأمة الإسلامية، أن تكون لهم استراتيجيات محددة وواضحة، بدلًا من أن تكون جهودهم آنية في ضوء الأحداث المستجدة، وبدلًا من أن تكون أعمالهم رد فعل تكون وفقًا لاستراتيجية، يتعاون الجميع لأن يكون عملهم وفقًا لها.

- ألم يأن لرجال الدعوة أن يهجروا التفرق والاختلاف، ويعتصموا حول استراتيجية عامة، ويطبقوا المبدأ الدعوي: نعمل فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه ما دام في إطار الدين.

- ألم يأنِ للمنظمات الإسلامية العالمية أن يكون لها خطة استراتيجية في الدعوة الإسلامية العالمية؛ نحو الانتقال من منهجية الدفاع عن الإسلام واستجداء الحضارات الأخرى، بأن تكف عن تشويه صورته، إلى تقديم الإسلام إلى الناس بعزةٍ وكرامة.

- ألم يأنِ للمسلمين أن ينصروا الله حتى ينتصروا، وصدق الله القائل: {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].

يجب أن يكون لدعوتنا:

– أهداف استراتيجية.

– سياسات استراتيجية.

– خطط استراتيجية.

– برامج أداء استراتيجية.

– نظم متابعة وتقويم وتطوير استراتيجي.

وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تحققت غاية الغايات، وهي إقامة الدين(14).

إن النفوس إذا تُركت وشأنها لا يمكن أن تزكو وتترحّل إلى العالم المنشود، الذي يحتفل بفلاحها ونجاحها، البتة، هذه طبائع النفوس، وعلى مثل هذه الأحوال جُبلت، والمعالي كم هي بحاجة إلى جهاد وتضحيات كبيرة جدًا، ويمكن بعد ذلك أن تترحل النفوس إليها راضية مطمئنة.

إن التربية، بعد توفيق الله تعالى، هي الكفيلة بصنع الإنسان الذي يتغلّب على مشاعر الخوف والرهبة والدعة والكسل؛ لتصنع منه إنسانًا يواجه الجبال فيركلها كأنها ركام رمل، أو عثرات في الطريق فيبعثرها كأنها خشاش الأرض، لقد تم في مكة إعداد الإنسان الذي يصنع التاريخ، ويدير دفة الأحداث في ثناياه، غير آبه بكل ما يعترضه من عراقيل، هذه التجربة التي صنعها الأنبياء في أممهم، وهذه هي النتيجة التي وصلوا إليها بعد بناء عريض استنفذ كثيرًا من الزمن، وأكثر منه من الجهد والتضحيات، وينبغي للدعاة أن يقتفوا آثار أنبيائهم سواءً بسواء، وفي ظل العولمة التي تبهر الناس اليوم ببريقها وزيفها، وما تكنه في ثناياها من معاول هدم، نحن في أمس الحاجة إلى تربية قوية، تستطيع أن تواجه هذه الآثار ولا تبالي بها.

إن الجماهير الهادرة لا تحمي منهجها، ولا تستطيع أن تواجه عدوها ما لم تتربَّ على معالم التربية الإسلامية، وتستنير بنورها، وحينئذ يكتب الله تعالى لها ظهورًا كظهور أعلامها السابقين.

وفي الهجرة درس عظيم يدلك على روح الجندية لدى ذلك الجيل الذي تربى بمفاهيمها، وأدرك أسرارها ومضامينها، إن هذه الروح تخبر عن آثار القائد في النفوس، وفي الوقت ذاته تخبر عن روح الجندية الفاعلة لدى هذه النفوس الرائعة، وإذا تخلّت هذه المعاني من نفوس الأتباع فلا تسل عن الآثار المترتبة على ذلك.

إن الدعاة يجهدون لدين الله تعالى، وحسبهم آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم أمناء على رسالة الله تعالى لأهل الأرض، وعليهم أن يدركوا أنه لا سبيل للخروج بها إلى بر الأمان مع تحقيق مكاسبها التي جاءت من أجلها إلا بتشريع التخطيط منهجًا وأسلوبًا وعملًا لتحقيق نجاحها المنتظر.

إن الدعاة قبل أن يخططوا للدعوة نجاحها هم في أمس الحاجة إلى التخطيط لأنفسهم نماءً وزكاءً، وإذا لم يستطع الداعية أن يكتب لنفسه بهذا المنهج تاريخًا على ظهر الأرض فقد لا يكون قادرًا على تحقيق آثار دعوته المباركة على وجه الأرض.

إنه حين يحتاج أحد الدعاة إلى إخوانه، فضلًا عن الناس، ينبغي أن تكون كلمة «بالثمن»هي منهج حياته، وحين يجد ودًا أو صدقًا من مثل أعوانه إلى الفضيلة فليردها أو ليرد أحسن منها، اقتداءً وامتثالًا بمناهج الأنبياء.

إن الأزمات فقط هي كير العقيدة الحقة في قلوب الرجال، وحين يقف الداعية في مواقف الأزمات ثم تجد قلبه يمتلئ ثقة في ربه فاعلم أن ما سوى ذلك من التوحيد هباء لا فائدة فيه.

إن كثيرًا من المتشدقين بكلمة التوحيد في مواقف النعم هم أول من يخسر في مواقف المحن.

إن العقيدة تصنع من المضغ الصغيرة حجارة صلبة، لا تدكها الأحداث مهما كانت كبيرة أو قوية، إن هذا المنهج الذي يضربه لنا القدوة هو أعظم منهج في حياة الدعوات، وعلينا إذا أردنا النجاح أن نستعد بكل ما يمكن من أدوات النجاح الحسية، ثم علينا أن ننطرح بين يدي الله تعالى، ذلًا وخشوعًا وضعفًا، طالبين النصرة، داعين بالثبات والتوفيق.

إن الصراع أكبر من لحظة، وأوسع من أرض قام عليها؛ بل هو الزمن كله، والأرض بعامتها، لا انفكاك إلا حين تدبر الدنيا بأسرها، وننتقل إلى عالم الآخرة المنتظر؛ ذلك أن جزاء الدعوة والجهاد ليس اليوم، وإنما هناك على عرصات الجنان في عالم الآخرة.

تعتبر الهجرة النبوية كنزًا دعويًّا كبيرًا، يقبل عليه الدعاة يستخرجون جواهره، ويلتقطون نفائسه، وفي هذا السياق كانت هناك الكثير من الرؤى التي حاول بعض العلماء توضيحها للدعاة؛ حتى يمكنهم استثمار المنهج الدعوي للهجرة النبوية في مجالات دعوتهم العصرية، مؤكدين على أن عطاء الهجرة لا ينتهي، وأنها وإن كانت حدثًا حدث وانقطع، فإن عطاءها ودروسها لا تنتهي.

يجب على الدعاة أن يأخذوا من الهجرة النبوية العطاء الفكري والروحي والإيماني؛ لأن الهجرة النبوية كان لها أكبر الأثر في بناء الدولة الإسلامية منذ اللحظات الأولى، كما أنه من الضروري أن يستفيد الداعيةُ من الهجرة التحملَ والصبرَ وعدم اليأس من الدعوة، مهما تعرض لأذى، ومهما عانى ومهما واجه من تحديات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل تحملوا في سبيل الله ما شاء الله لهم أن يتحملوا، وصبروا على ما أوذوا، ولقد كانوا في تحملهم قدوة لغيرهم.

فعلى الدعاة أن يفهموا أن رب العزة كان يستطيع بقدرته أن ينقل رسوله إلى المدينة بيسر وسهولة، كما نقله في الإسراء والمعراج دون تعب أو إيذاء لأصحابه، أو الحاجة إلى الاختفاء عن أعين المشركين، لكن الله أراد أن يجعل الرسول قدوة للهداة والمصلحين والدعاة من بعده في التخطيط والتحمل.

إن في الهجرة دروسًا عديدة؛ من أهمها، فيما يتصل بجانب الدعوة، الصبر والجلد وتحمل المشاق في سبيل تبليغ الدعوة، وذلك واضح من خلال الهجرتين الأوليين إلى الحبشة لبعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان وزوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ظلال الهجرة على نفس الداعية:

إن الداعية لكي يُفعِّل ذكرى الهجرة النبوية في نفسه؛ لا بد له أن يلتزم بعدة أمور، أهمها أن يكون زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، مُجِلًا لمبادئه، مستعدًا للتضحية من أجل دعوته إذا اقتضى المقام التضحية، مستثمرًا الفرصة المناسبة لتحقيق الغرض الدعوي بغير تعجل وبغير اندفاع، مصاحبًا من يعينه على دعوته، ويقتنع بمبادئه، ويفيده بمشورته، فلا يتصرف وحده، ولا يتحرك بغير تخطيط محكم، ولا يتجه إلا إلى غاية محددة، على طريق ثابت.

إن الداعية إذا لم يخلص لدعوته فإنها لا يمكن أن تحقق غرضها، وستخضع لمساومات وتنازلات حتى لا يبقى من أصولها شيء، ثم تضيع.

إن مناسبة الهجرة أكبر حافز للدعاة بأن ينشطوا في الدعوة بكل الأساليب الممكنة، ولا يمكن للداعية أن يستثمر معاني الهجرة النبوية في تكوين نفسه والآخرين إلا إذا عرف الأسس التي قامت عليها الهجرة، والأغراض التي كانت مقصودة منها؛ فالأسس التي قامت عليها الهجرة هي الاقتناع بالرسالة، والتصميم على نشرها، بناءً على المعرفة بألوان الكفر المختلفة.

الأمر الثاني هو الوصول إلى الإقناع العقلي الذي لا يُلزم بالهداية القلبية للإسلام، وإنما يُلزِم بالإنصاف بألا يعاند غير المسلم الحق؛ ومن أجل ذلك كانت الدعوة قائمة على أساس علمي متجرد يوصل للحق، سواء دخل الإنسان الإسلام أو لم يدخل(15).

***

_______________

(1) تفسير القرآن العظيم (2/ 343).

(2) أخرجه أبو داود (2479).

(3) أخرجه النسائي (4172).

(4) في ظلال القرآن (3/ 1434).

(5) المصدر السابق (5/ 2994).

(6) أخرجه أحمد (6912).

(7) أخرجه أبو داود (2787).

(8) الإيمان والرد على أهل البدع، ص135.

(9) الهجرة واستراتيجيات الدعوة، حسين شحاتة، موقع: إخوان أون لاين.

(10) أخرجه البخاري (3622).

(11) الهجرة النبوية من الدعوة إلى الدولة، موقع: الرأي.

(12) أخرجه البخاري (3612).

(13) أخرجه مسلم (2586).

(14) الهجرة واستراتيجيات الدعوة، حسين شحاتة.

(15) التطبيقات الدعوية للهجرة النبوية، موقع: إسلام أون لاين.