النفور من الداعية الأسباب والعلاج
الدعوة إلى الله سر، لكنه سر غير خفي، ورغم وضوحه لا يُوفَّقُ إليه غير القليلين، ممن توافرت فيهم صفات كثيرة، فمن جميل هذه الدعوة أنها تعطي صاحبها طالما تَعَفَّفَ، فإذا تطلع إلى شيء من الكسب أو التكسب منها نفرت منه الدعوة، ونفر منه المدعوون، وأنها ترفعه طالما تواضع للناس، فإذا رأى لنفسه شيئًا من الفضل نبذته الدعوة، وتخلصت منه قبل المدعوين، وأنها تجعل الناس في خدمته طالما كان خادمًا للناس، فإذا طلب من الناس خدمته نفروا منه، وتركوه، ونسوا كلامه.
وأنها تجعله مطاعًا مسموع الكلام طالما كان مطبقًا لما يدعو إليه، فإذا تحول إلى مُنظِّر لا يفعل ما يقول، ولا يلتزم بما يدعو إليه، فلا سمع ولا طاعة؛ بل لا ود ولا محبة، وأنها تجعل كلامه محبوبًا طالما تجنب التشدق والتعجرف والكلام عن نفسه، فإذا طلب تنميق الكلام وزخرف القول، صار واحدًا من خطباء الكلام؛ يخاطب الأسماع، لكن كلماته لا تصل إلى القلوب(1).
من التجار من يجيد الرواج لبضاعته، فهذا تاجر ماهر يستطيع جذب المشترين، ومن التجار من لا يجيد إلا التنفير، فلا يستطيع البيع ولا الشراء، فمكانه ليس مع الناس، ولا في سوق التجارة.
هكذا ينبغي أن يكون الدعاة تجارًا مهرة، يستطيعون جذب الناس إلى دين الله، وتزيينه في أنظارهم، وتحبيبه إلي قلوبهم.
فالقدرة على احتواء الآخرين مطلبٌ تكتمل به شخصية صاحب الدعوة، وحاجةٌ من احتياجات الطريق؛ حتى تستطيع الدعوة مواصلة السير، واستيعاب الطاقات وتشغيلها، فالطريق طويل، والدعوة التي تُنفِّر الناس منها ولا تعبأ باحتوائهم لن يُكتب لها النجاح، وكيف تنجح وهي منبوذةٌ من الآخرين، مكروهة عندهم؟!
احتواء الآخرين يعني قدرة صاحب الدعوة على جذب الناس، وضمِّهم إلى سفينة الدعوة، والداعية الناجح هو القادر على الوصول بدعوته وفكرته إلى الناس، والتأثير فيهم، على اختلاف طبائعهم.
وصاحب الدعوة الذي لا يتوافر فيه الحد الأدنى من القدرة على احتواء الآخرين؛ قد لا يكون فقط عاجزًا عن جذب الناس إلى دعوته؛ بل قد يكون مسيئًا إلى الدعوة، مسبِّبًا لها الحرج، كما أن المقصد الأسمى من احتواء الآخرين عدم استعدائهم للدعوة، وتحييدهم على أسوأ تقدير(2).
أسباب النفور من الداعية:
هناك أسباب في شخص الداعية تؤدي إلى نفور الناس عنه، منها:
1- البخل:
فالبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، والمقصود بالبخل كما عرفه صاحب عقبات في طريق الدعاة، قال: هو التقتير الشديد، مع السعة في الرزق، عن كل ما تتطلبه مسئولية الإنفاق العامة والخاصة، سواء ما يتعلق منها بنفقته على المجتمع في تحقيق تكاليفه، أو ترميم كوارثه، أو دفع الاعتداء عنه.
فالبخل من الآفات القبيحة في المسلم، وخاصة إذا ظهرت في الداعية، وذلك حين يتقبل الهدية ولا يثيب عليها، ويعتاد الجلوس على الموائد، ولا يكافئ الداعين بمثلها، ويحث الناس على الإنفاق في سبيل الله، ولا ينفق في سبيل الله، وهذا الخلق، وهو الشح والبخل، يسبب النفور، ويستدعي القدح والذم، ولا سيما إذا كان الداعية محط أنظار الناس، ومعقد أملهم، ورجاء ثقتهم.
فإن الدعوة تريد منك يدًا ندية باذلة سخية، يدًا تمتد إلى كل من يحتاج العون والمساعدة من إخوانك المسلمين، أنفق ينفق الله عليك، وتقرب إلى قلوب الناس بالكرم والجود يكن له أثر وتأثير في قلوب الناس، ومن ذلك المكافأة لمن صنع لك معروفًا، فإن لم تجد فادع له(3).
2- أسلوب الشتم والتجريح:
أسلوب الدعوة عن طريق السباب والشتائم لا يأتي بفائدة، وإنما يأتي بالنتائج العكسية من النفور عن الدعوة، وعدم قبولها، كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159].
بعض الدعاة يعرضون بالناس أو ببعضهم بعد حوادث معينة، ويظنون أنهم ببعض المواراة لن يعرف أحد من يقصدون، فيتكلمون بكلام جارح فاضح، ويظنون أنهم يحسنون صنعًا، وهكذا يتناقص المستمعون حسب الظروف؛ لأن الخطيب المفوه لا يترك فرصة للتعريض بالناس والتنديد بأخطائهم.
السب محرم في ذاته؛ لأنه بذاء مذموم، وسبب للشحناء والعدوان، وقد نهى الله تعالى عن سب معبودات المشركين؛ لئلا يسبوا معبود المؤمنين، فقال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام:108]، ولا يخفى أن حرمة الكتابي أعظم من حرمة المشرك، واتقاء تنفيره أهم، وأن إيذاءه إذا كان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا محرم بالإجماع، وأنه لا يصح أن يجعل لعن الفاسقين ذريعة إلى تنفيرهم عن فسقهم؛ كأن يحضر مجلس السكارى، ويلعن شاربي الخمر على مسمع منهم؛ لأن الإرشاد يجب أن يكون بالمعروف واللين؛ هذا وإنَّ لعن صنف من الكفار أو الفساق في حضرة أفراد من الصنف هو بمثابة لعن الأشخاص، فهو معصيتان؛ لأنه سب علني من جهة، ولعن لأشخاص معينين من جهة أخرى.
واعلم أيضًا أن السب والشتم والمهاترة في العرض، والمشاجرة في الأنساب هي أسلحة لا يحملها إلا كل ضعيف جبان، قد قصر باعه في العلم؛ فضعف مزاجه في الدين، وخارت عزيمته في العمل، وإنه من سقط المتاع.
ويرى أبو حامد الغزالي رحمه الله أن للاحتساب (الإنكار) درجات، هي:
1- التعريف.
2- النهي.
3- ثم الوعظ والنصح.
4- ثم السب والتعنيف.
5- ثم التغيير باليد.
6- ثم التهديد بالضرب.
7- ثم إيقاع الضرب، واتخاذ القوة المناسبة(4).
أي أن الإنكار يسير بالتدريج؛ بدءًا بالتلطف، وانتهاء بالتعنيف والشدة، على أن لا يترتب على الإنكار منكر أعظم أو مساو، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجب، وفُعل محرمٌ؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم(5).
3- العجب والغرور:
الغرورداء وبيل، وشر مستطير، وإذا كان الغرور منهيًا عنه لسائرالبشر، فالنهي عنه بالنسبة للدعاة بطريق الأحرى، فهم ورثةالأنبياء، الذي ينبغي أن تنطوي قلوبهم على الطهر والنقاء، والود والصفاء، لا علىالكبر والغرور والأنانية، وتورم الذات.
والمغرور هو إنسان يرى نفسه مفخّمة وأكبر من حجمها، وأكبر من غيرها، فيداخله العجب، ويشعر بالزهو والخيلاء لخصلة يمتاز بها، أو يتفوّق بها على غيره،وهذا يعني أن نظرة المغرور إلى نفسه غير متوازنة، ففي الوقت الذي ينظر إلى نفسه بإكبار ومغالاة، تراه ينظر إلى غيره باستصغار وإجحاف، فلا نظرته إلى نفسه صحيحة، ولا نظرته إلى غيره سليمة.
والمعجب بنفسه قد عرَّض نفسه بصنيعه هذا لبغض الله له، ومن أبغضه الله أبغضه أهل السماوات وأهل الأرض، فترى الناس ينفرون منه، ويكرهونه ولا يطيقون رؤيته؛ بل ولا سماع صوته، جاء في الحديث: «إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبَّه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادى في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضْه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادى في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض»(6).
4- الغلو والتشدد في الدين:
بعض العاملين قد يقبل على منهج الله فيغلو وتشدد، وبعد فترة من الزمان ينظر حوله فيرى غيره من العاملين يسلكونالمنهج الوسط؛ فيظن، لغفلته أو عدم إدراكه طبيعة هذا الدين، أن ذلك منهم تفريطأو تضيع، ويتمادى به هذا الظن إلى حد الاحتقار والاستصغار لكل ما يصدر عنهمبالإضافة إلى ما يقع منه؛ وذلك عين الغرور.
ولعل ذلك هو بعض السر في دعوة الإسلام إلى الوسطية؛ بل وتحذيره من الغلو أو التشدد في الدين؛ إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلمللرهط الذين عزموا على التبتل واعتزال الحياة: »أنتم قلتم كذا وكذا، أماوالله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوجالنساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني«(7)، »إياكم والغلو في الدين؛فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين«(8)، »إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدإلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا«(9)... الحديث.
5- ضعف الخبرة وقلة التجربة:
الإنسان يولد ولا علم له بشيء في هذه الحياة كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل:78].
إن قلة العلم، أو عدم صحته تشكل أكبر عائق يعيق الإنسان عن الإبداع والتفوق والتطوير؛ لأن قلة العلم تدلل على علو الجهل البسيط، الذي هو: انتفاء إدراك الشيء، وعدم الإدراك للمعلومة يشكل العائق الأكبر للإبداع والتطوير؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وشتان ما بين العالم والجاهل، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وأما إدراك المعلومة على غير وجهها الصحيح فهو شر من الجهل البسيط؛ لأن صاحبه لديه جهل مركب، وهو: اعتقاد جازم غير مطابق للواقع، فصاحب هذا النوع ينتفي منه الإبداع؛ لأنه أدرك المعلومة على غير حقيقتها، فكيف يولد منها حقيقة علمية؟ ولذلك فإن التعلم من أهم وسائل