logo

الثقافة البنّاءة


بتاريخ : السبت ، 21 ذو القعدة ، 1444 الموافق 10 يونيو 2023
بقلم : تيار الاصلاح
الثقافة البنّاءة

الثقافة هي نهاية الرحلة التي تبتدئ بالمعتقدات والتصورات، التي تحدد القيم والأولويات، والتي تترجم بدورها إلى سلوكيات إذا طال عليها الأمد صارت ثقافة.

يقول الأستاذ مالك بن نبي في تعريف الثقافة: مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته (1).

وهي على هذا التعريف تشمل كل ما يسهم في شخصية الفرد من الجوانب المادية أو المعنوية، وتعم كل ما يتلقاه من مجتمعه الذي يعيش فيه، وتكون هذه القيم بمثابة رأس المال في حياة الفرد الذي يضرب به في الأرض مُتاجِرًا.

ويعرفها المجمع اللغوي بأنها: جملة العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها (2).

فهذا التعريف جامع يشمل العلوم والصنائع والفنون التي تصنع شخصية الفرد، بغض النظر عن حكمها الشرعي.

لنأخذ على ذلك مثالًا حضارتنا الإسلامية، حيث بعث الله سبحانه وتعالى نبينا عليه الصلاة والسلام في مجتمعٍ جاهليٍ يعاني من إشكالياتٍ كبيرةٍ على كافة المستويات، فعلى مستوى المعتقدات والتصورات كان ذلك المجتمع يؤمن بأن بعض الحجارة يضر وينفع! وأن المرأة في مكانةٍ أقل من الرجل، وأن الله معه آلهة شركاء، وأنه ليس بعد الموت بعثٌ ولا نشورٌ ولا حساب، وقد نتج عن هذه المعتقدات الفاسدة وغيرها جملةٌ من القيم؛ كالمتعة الحسية، والتفاخر بالأنساب، والاستعلاء على الآخر، ثم ترجمت إلى سلوكيات؛ كالإسراف في شرب الخمر وفي الميسر، وفي أصناف شتى من أنواع الأنكحة المحرمة، وفي وأد البنات، وفي غزو القوي للضعيف، ليتحول كل هذا إلى ثقافة عند العرب الجاهليين.

جاء الإسلام ليواجه كل هذه المنظومة؛ فبدأ من المعتقدات والتصورات فصحّحها، فأرسى الإسلام عند أبنائه في الفترة المكية جملةً من المعتقدات والتصورات الجديدة، فالأصنام حجارةٌ لا تضر ولا تنفع، والنساء شقائق الرجال، والناس سواسية كأسنان المشط، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم للناس، ومهمة الإنسان في هذه الدنيا أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وعلاقته بكل مخلوقاته قائمة على الرحمة، وفي ضوء هذه المعتقدات بدأت جملةٌ من القيم تظهر في نفوس المسلمين، فعلت قيمة العبادة وقيمة الرحمة وقيمة الإحسان، وترجمت هذه القيم إلى سلوكيات عديدة.

نستطيع أن نقول إذًا: إنّ من طرق تغيير الثقافة هو تحديد المعتقدات والتصورات والقيم الخاطئة، ثم إسقاطها وإرساء المعتقدات والقيم الصحيحة والبنّاءة وتحويلها إلى ثقافة.

والأمثلة على هذا كثيرةٌ قديمًا وحديثًا، منها مثلًا: نهضة اليابان ونهضة ماليزيا التي تمت هندستها بوضوح بنفس النسق الذي ذكرناه.

لكن هذا عمل من يريد أن يغيّر الثقافة المتخلفة إلى ثقافةٍ بناءة.

لا شك أننا كمسلمين نعيش اليوم حالةً من التخلف يستوجب منا أن نقوم بالنهوض، ويكون ذلك بالطريقة التي ذكرناها آنفًا، لكن علينا أن نتنبّه إلى أننا أثناء محاولتنا النهوض ومحاولتنا القيام بالتغيير الثقافي المطلوب أنّ هنالك من يحاربنا في نفس الساحة (الساحة الثقافية) فيريد غزونا ثقافيًا ومنعنا من التحوّل إلى الثقافة البنّاءة.

وإيّاك أن تظنّ أن الغرب يريد أن يغزونا بثقافته فيجعلنا نتحلّى بها، وننتقل من ثقافتنا الإسلامية إلى ثقافته الغربية، بل الأمر أسوأ من ذلك بكثير، فالغرب يختار لنا من ثقافته ما يريد ويمنع عنا ما يريد، ليعطينا بذلك مسخًا من الثقافة لا تعدو بنا أن نكون عبيدًا في سلطانهم.

ولعلّ هذا صار اليوم من الواضحات خاصةً بعد ثورات الربيع العربي، فالديمقراطية قيمةٌ غربيةٌ؛ بل تحوّلت عندهم إلى ثقافة، أما المسلمون والعرب فلا يجوز أن يصلوا إليها؛ بل كلما انتصرت الديمقراطية في بلدٍ استنفر الغرب للقضاء عليها وما مصر منا ببعيد.

وليس الحديث هنا عن نظرتنا كمسلمين إلى الديمقراطية، فليس هذا محلّه، بل الحديث عن نشر الغرب لما يريد ومنعه ما يريد.

أمّا قيمة الإباحية الجنسية التي تزلزل المجتمعات وتهدمها فيا حيّهلا بها للعرب والمسلمين، يصدرونها ويروّجون لها، بل ويعملون على فرضها.

وهكذا تحجب قيمّ وتمرّر أخرى، وتمنع قيمٌ وتصنّع أخرى للوصول بأمتنا إلى الثقافة التي يريدونها.

فاستهداف المعتقدات والتصورات بشكل مباشرٍ وصادم يؤدي إلى نفور من المستهدفين، وربما إلى استنفارهم للانتصار لدينهم ومعتقداتهم، وكذلك الحال بالنسبة للقيم، أما الغزو على مستوى السلوك والثقافة فإنه لا يذعّر المستهدفين.

وهذا ما فعله الغرب من خلال انتشار منتجاتهم الأدبية والثقافية بيننا، كالروايات والفنون والأزياء والأفلام والأغاني وغير ذلك من منتجات ناعمةٍ لا تثير حفيظة المستهدفين.

لكن علينا أن نتنبّه هنا إلى أن منتجات الأمم تكون دائمًا محمَّلةً بقيمها، أي إننا عندما نأخذ هذه المنتجات فعلينا أن نكون واعين بالقيم الكامنة فيها وعلى حذرٍ منها، وعلينا أن نعلم أنّ هذه القيم الكامنة ستتسرب من هذه المنتجات إلى داخل نفوسنا دون أن نشعر.

فمن يكثر القراءة في كتب النجاح الغربية التي تصوّر النجاح على أنّه النجاح الماديّ فقط؛ ستعظم قيمة الثروة في نفسه رغمًا عنه ودون شعور منه بهذا التحول البطيء.

وعندما تضعف القيم كثيرًا وتتبدل بقيم أخرى فاعلم أن المعركة قد وصلت إلى المستوى الأول مستوى المعتقدات والتصورات، واعلم حينها أن الغزو الثقافي لم يبق ثقافيًا فقط؛ بل وصل إلى الحصن الأخير، وصارت المعركة معركة عقيدة، وأنّ من انهزم في مستوى السلوك والثقافة، ثم في مستوى القيم، فإنه يخشى عليه كثيرًا أن ينهزم في معركة العقيدة الأخيرة، والعياذ بالله (3).

أما عن أقسامها، فإننا نجد الثقافة تقسم بحسب ما أضيفت إليه؛ فقد تكون ثقافة دينية؛ إما إسلامية، أو يهودية، أو نصرانية، أو بوذية.. وهلم جرًّا.

وقد تكون عِرقية؛ كالثقافة العربية، أو الأمازيغية، أو الفارسية، وقد تكون إقليمية خاصة بحيز جغرافي معين؛ كالثقافة الإفريقية، أو تكون زمانية؛ كالثقافة الإغريقية أو الأندلسية.

ولا تعني نسبتها إلى دين أو غيره أن تطرح هذه الثقافة، بل واقع السيرة النبوية يفند ذلك، ومن خلال تتبع الهدي النبوي أمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام؛ ثقافة هدامة، ثقافة بناءة، ثقافة مترددة بين الهدم والبناء.

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الثقافة الهدامة:

المتتبع لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان صارمًا في رفض كل ثقافة تهدم الدين وتعود على مبادئه بالإبطال، سواء تعلق الأمر بأصول الدين أو فروعه أو آدابه، ويمكن التمثيل لهذا بما يأتي:

أولًا: قراءة الكتب السابقة:

لا شك أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم متممة لدعوة الأنبياء قبله، فكلهم جاء بالإسلام، ودعا إلى التوحيد، مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وهو ما أوضحته السنَّة؛ فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجلٍ بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، فجعل الناس يطيفون به يقولون: ما رأينا بنيانًا أحسن من هذا، إلا هذه اللَّبِنة، فكنت أنا تلك اللبنة» (4).

فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين؛ فشريعته ناسخة لكل الشرائع السابقة، وكيف لا وقد أخذ الله تبارك وتعالى العهد والميثاق على الأنبياء من قبله أنهم إن أدركوه اتبعوه؟! واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} [آل عمران: 81- 82].

المتأمل لهذا النص القرآني يدرك مدى تشديد الله تعالى في أمر متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستفاد هذا من تسميته عهدًا وميثاقًا، وإشهاد الله تعالى لنفسه على هذا العهد، وكذا الأنبياء، وهم الصفوة من خَلْقه، ثم بيانه أن النكول عن مقتضى هذا العهد فِسْقٌ.

وإذا كان هذا شأن الشريعة، فكتابها كذلك؛ فهو الحاكم على الكتب السابقة؛ فالحلال ما أحل والحرام ما حرَّم، والمُحكَم ما أحكم، والمنسوخ ما نسَخ.

قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] الآية.

وعلى ضوء هذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم منع كل ما يخل بهذا الأصل؛ فمنع النظر في الكتب السابقة؛ فعن جابر بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، وقال: «أمُتهوِّكون فيها يا بن الخطاب؟! والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيةً، لا تسألوهم عن شيءٍ فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطلٍ فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا، ما وَسِعه إلا أن يتبعني» (5).

وسبب هذا المنع يرجع إلى أمرين:

أولهما: أنها نُسِخَتْ بالقرآن الكريم.

والثاني: أنه طالها من التحريف ما طالها، وهو ما تشهد به النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والوقائع التاريخية، ولا يُخِلُّ بهذا ما ورد في قصة الرجم؛ فعن نافعٍ: أن عبد الله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بيهودي ويهوديةٍ قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهودَ، فقال: «ما تجدون في التوراة على من زنى؟»، قالوا: نُسوِّد وجوههما، ونحملهما ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: «فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين»، فجاؤوا بها فقرءوها، حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلامٍ وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْه فليرفع يده، فرفعها، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه (6).

ومجمله أنه ورد في مقام الإلزام بتشريع سابق، وهو محكم في شريعتنا.

ثانيًا: السِّحر والكهانة:

حظي السحرة والكهان بوجاهة عند العرب، بل عند غيرهم من الأمم المتحضرة، وخاصة المصريين؛ فهم الطبقة العليا من العلماء، وهذه هي النكتة في خطابهم لموسى بالساحر، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف: 49].

قال ابن كثير: أي: العالم، قاله ابن جرير، وكان علماء زمانهم هم السحرة، ولم يكن السحر عندهم في زمانهم مذمومًا، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم؛ لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك، وإنما هو تعظيم في زعمهم (7).

إذًا، فلم يقصِدِ المصريون الإساءة إلى موسى عليه السلام، وإن كان تكذيبهم بالرسالة أعظم إساءة، ومثلُ الساحرِ الكاهنُ، وهو الذي يدعي معرفة الغيب، ولا أدل على هذا من أن فرعون قتل أطفال بني إسرائيل بناءً على رأي الكهان.

وإذا كان هذا حال الساحر والكاهن في بني إسرائيل، فما بالك بمنزلته عند العرب، وهم أمة تعيش البداوة، وتحيا على هامش التاريخ؟! ونستشف هذا من خلال حادثتين قريبتي العهد بزمن البعثة، فالأولى: مخاصمة عبد المطلب لقريش في بئر زمزم، لكاهنة بني سعد، والقصة مشهورة (8).

والثانية: احتكام عبد المطلب في ذبح ولده عبد الله إلى عرافة، وفاءً لنذره (9).

فكيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذه الثقافة المستحكمة في المجتمع العربي؟

والجواب أن منهجه منهج القرآن، الذي حسم الأمر في هذه الثقافة؛ فحكم على السحر بأنه كفر؛ قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].

وقرر أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى؛ فقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].

وقرَّر ضلال الكهان والسحرة، في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} [النساء: 51- 52].

وقد فسر الجِبْت بالسِّحر والكهانة؛ فعن عمر بن الخطاب: أنه فسر الجِبْت بالسحر، وعن الشعبي أنه الكاهن (10)، فكان من جملة ما استحقوا به اللعن إيمانُهُم بالجِبْتِ.

من أجل هذا جاءت السنَّة مقررة لهذا الحكم؛ فعد السحر من السبع الموبقات؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (11).

وجعل سؤال الكهنة قادحًا في التوحيد؛ فعن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى كاهنًا أو عرَّافًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمدٍ» (12).

وعن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافًا فصدقه بما يقول، لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعين يومًا» (13).

ثالثًا: الأعياد:

تعد الأعياد من أهم المظاهر الثقافية التي تميز كل أمة؛ ولهذا منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعياد الجاهلية؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: «ما هذان اليومان؟»، قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفِطر» (14).

 ومن حديث عائشة قال صلى الله عليه وسلم: «إن لكل قوم عيدًا، وإن عيدَنا هذا اليوم» (15).

بل نجد أنه منع من النذر -وهو عبادة جليلة- إذا كان في فعلها مشابهة للكفار في أعيادهم الجاهلية؛ عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجلٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلًا ببوانة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلًا ببوانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟»، قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم»، قالوا: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوفِ بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم» (16).

والحاصل أن هديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نسفُ كل ثقافة تتضمن نسفَ ثوابت الأمة ومقوماتها.

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الثقافة البنَّاءة:

إذا كان موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حازمًا مع كل ثقافة هادمة لثوابت الأمة، فإننا نجده على صورة مغايرة تمامًا مع ما يخدُمُ الدِّين؛ فألفيناه حريصًا على توظيفها، بل ويصبغها بالصبغة الإسلامية التي تميزها عن سائر الأمم، ويبدو هذا من خلال الأمثلة التالية:

أولًا: اتخاذ الخاتم:

بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم في هُدنة مع قريش عقب صلح الحديبية، وحقق نصرًا سياسيًّا كبيرًا، بانتزاعه لاعتراف ضمني بدولته من قِبَل قريش؛ ولَّى وجهه شطر العالم من حوله؛ لبثِّ رسله إلى خارج الجزيرة العربية، محملين برسائل داعية إلى الإسلام، وآمرة بالخضوع لهذه الدولة الفتية.

فلما همَّ بإرسال الرسل، ناقشه بعض أصحابه في الأمر، وبينوا له أن كتبه خالية من الختم، وقد تعارفت الدول على ختمها، وهذا ما ورد عن أنس بن مالكٍ قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا، أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا مختومًا؛ فاتخذ خاتمًا من فضةٍ، نقشه: محمدٌ رسول الله، كأني أنظر إلى بياضه في يده (17).

فأنت ترى أنه لم يخالف هذا العرف الدولي، ورأى موافقته؛ لأنه ثقافة بناءة، ولكنه في نفس الوقت طوَّعه للسنة المحمدية؛ فكان نقشه: محمد رسول الله.

عن أنسٍ: أن أبا بكرٍ رضي الله عنه لما استخلف، بعثه إلى البحرين، وكتب له هذا الكتاب، وختمه بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطرٍ: محمدٌ سطرٌ، ورسول سطرٌ، والله سطرٌ (18).

ونلحظ عليه ملحوظتين:

الأولى: اصطباغه بالصبغة الإسلامية، وهو ما تدل عليه الشهادة بالرسالة.

الثانية: أنه باللسان العربي، خلافًا لما نجده في بعض بلاد المسلمين؛ حيث يوقع بعض المسؤولين على قرارات سيادية بأحرف أعجمية.

ثانيًا: وسائل الحرب:

المتتبع لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يلحظ أنه كان مبدعًا في جانب الحروب؛ فهو لا يفتأ يباغت عدوه بأساليبَ حربيةٍ لم يعهدها؛ من ذلك: استخدامه أسلوب الصفوف في غزوة بدر، والأمثلة في هذا الصدد كثيرة، والذي يعنينا منها في هذا المقام هو انفتاحه على ثقافة غيره، ويتجلى ذلك في موقفين:

أحدهما: ما حصل في غزوة الأحزاب حين حوصرت المدينة من قِبَل لفيف من القبائل العربية من قريش وغطفان وأحلافهما، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم استشار الناس، فقال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا (19)، فاستخدم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الخطة الفارسية، ولم يتحرج من إعمالها، فكانت أحدَ أهم عوامل النصر.

وثانيهما: بعد أن فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، كانت العرب منه على فريقين؛ فريق خضع لسلطانه، وفريق أخذته الحمية الجاهلية، فأبَوْا أن يخضعوا لنبي من قريش؛ فكانت غزوة حنين، التي أعقبها حصار الطائف، ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مدركًا لطبيعة المرحلة، فأرسل في أثناء ذلك بعروة بن مسعودٍ وغيلان بن سلمة إلى جرشٍ يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور (20)، وهي أدوات تستعمل في الحصار لم تكن تعهدها قريش في حروبها.

ثالثًا: الأعراف الدبلوماسية:

كانت العرب وغيرها من الأمم تتعارف على ثقافات في الدبلوماسية، ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع بعضها بالقبول، ومدركه أنها ثقافات تبني وتخدم القيم التي جاء داعيًا إليها، وخاصة الوفاء بالعهد، وتجنُّب الغدر، ويظهر هذا جليًّا فيما رواه نعيم بن مسعودٍ الأشجعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهما حين قرأ كتابَ مسيلمة: «ما تقولان أنتما؟»، قالا: نقول كما قال، قال: «أما والله لولا أن الرسل لا تُقتَل، لضربتُ أعناقكما» (21).

فأنت ترى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُطبِّق على الرجلين حدَّ الردَّة مع فداحة ذنبهما وتجرئهما على مقام الرسالة، وكل هذا منه رعاية لهذا العرف في التعامل مع الرسل.

رابعًا: التعامل مع اللغات الأجنبية:

دعوة الإسلام دعوة عالمية، وهذا ما يقتضي وجوب التواصل مع الأمم الأخرى بلغاتها؛ إقامةً للحجة، وإظهارًا للمحجة، ونجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عُنِيَ ببعض اللغات، ومن ذلك ما جاء عن زيد بن ثابتٍ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات كتاب يهود، قال: «إني والله ما آمن يهودَ على كتابٍ»، قال: فما مر بي نصف شهرٍ حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته، كان إذا كتب إلى يهودَ كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم (22).

فتأمل كيف انفتح على لغة اليهود وهم ألد أعدائه؛ لما تضمنه هذا من مصالح عظيمة، وعوائد عميمة على الأمة المحمدية، بل إننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم العربي ينطق بغير لغة العرب في حادثة فريدة في السنة النبوية وهذا في حدود علمي بقصد إفهام طفلة لقنت غير اللسان العربي؛ فعن أم خالد بنت خالدٍ: أُتِي النبي صلى الله عليه وسلم بثيابٍ فيها خميصةٌ سوداء صغيرةٌ، فقال: «من ترون نكسو هذه؟»، فسكت القوم، قال: «ائتوني بأم خالدٍ»، فأتي بها تحمل، فأخذ الخميصة بيده، فألبسها، وقال: «أبلي وأخلقي»، وكان فيها عَلَمٌ أخضر أو أصفر، فقال: «يا أم خالدٍ، هذا سناه»، وسناه بالحبشية: حسنٌ (23).

ولكن ينبغي التنبه إلى أن هذا الانفتاح مشروط بعدم الإخلال بشأن اللسان العربي؛ لأن لغة كل أمة رُوحُ ثقافتها، وهذا ما انخرم في واقع المسلمين اليوم حين ضيعوا لغتهم، وانغمسوا في ثقافة غيرهم، بل صار بعض المسلمين يفخر بغير لسانه، وهؤلاء المخذولون فيهم القابلية للاستعمار؛ كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله.

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع ثقافات مترددة بين البناء والهدم:

هناك بعض الثقافات التي لا تتمحض إلى جهة من الجهات؛ فيمكن تصنيفها ضمن الثقافات الهدامة أو البناءة باعتبار ما تفضي إليه؛ ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حذِرًا في التعامل معها، فنجد أنه يفعلها في صورة دون أخرى، فيفعلها في حال تحقيقها لمصالح راجحة، ويعطلها إن غلبت مفسدتها، ويمكن إيضاح ذلك من خلال الأمثلة التالية:

أولًا: الوقوف للتعظيم:

نسفت الشريعة كل تعظيم ينافي التوحيد؛ فمنعت القيام لغير الله تعالى؛ تعظيمًا لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

وقد ألفَيْنا النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة ينهى عن القيام إذا كان على سبيل التعظيم؛ فمن ذلك ما جاء عن أبي مجلزٍ قال: خرج معاوية فقام عبد الله بن الزبير وابن صفوان حين رأوه، فقال: اجلسا؛ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يتمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار» (24).

بل صح عنه نهيُه لهم في بادئ الأمر عن القيام خلفه وهو في الصلاة لما صلى قاعدًا لعلَّة ألمت به؛ فعن جابرٍ قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعدٌ وأبو بكرٍ يُسمِعُ الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلم قال: «إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعودٌ، فلا تفعلوا، ائتمُّوا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا» (25).

والملاحظ على هذه الأحاديث وغيرها أن النهي منصبٌّ على علة التعظيم لغير الله تعالى، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع القيام بفعله، وإقراره من فعله في صلح الحديبية، وذلك إبان المفاوضات الجارية بينه وبين قريش، وفي الحديث: فقام عروة بن مسعودٍ ..، وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المِغْفَر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخِّرْ يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم (26).

فانظر كيف أنه صلى الله عليه وسلم أقر أصحابه على القيام حواليه؛ لأن المقصد هنا إرهاب العدو وكبته؛ فاستفاد من هذه الثقافة في تقوية شوكة المسلمين.

وهذا ما وعاه الصحابة رضي الله عنهم، فأحسنوا تطبيقه؛ فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خرج إلى الشام فرأى معاوية رضي الله عنه في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله، وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك، قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزًّا، فقال له عمر: إن هذا لكيدُ رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب (27).

فانظر كيف أقر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه واليه معاوية رضي الله عنه على تلك المواكب التي لا تخلو من قيام الجند بأسلحتهم وهو محدقون بالأمراء؛ لأن المقصد كبتُ العدو وإرهابه.

ثانيًا: التصوير:

يعد التصوير إحدى أهم الثقافات القديمة، وقد تواردت النصوص النبوية على تحريمه، ومن ذلك ما صح عن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباسٍ رضي الله عنهما إذ أتاه رجلٌ فقال: يا أبا عباسٍ، إني إنسانٌ إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباسٍ: لا أحدثك إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، سمعته يقول: «من صور صورةً، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخٍ فيها أبدًا»، فربا الرجل ربوة شديدة، واصفر وجهه، فقال: ويحك! إن أبيت إلا أن تصنع، فعليك بهذا الشجر، كل شيءٍ ليس فيه روحٌ (28).

فهذا الحديث يدل على حرمة تصوير ذات الأرواح، وهو دال بظاهره على عموم النهي عن الصور، سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة، ويشهد له ما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وفي البيت قرامٌ فيه صورٌ، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: «من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور» (29).

هذا، والذي يظهر من خلال تتبع الأحاديث: أن علة تحريم التصوير هي المضاهاة لخلق الله تعالى؛ فالمصور يتشبه بالخالق جل جلاله في خَصيصة من أهم خصائص ربوبيته، وهي التصوير، ويستفاد هذا التعليل من حديث أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي؟! فليخلقوا ذرةً، أو ليخلقوا حبةً، أو ليخلقوا شَعيرةً» (30).

ويؤيد هذا ورود الترخص في التصوير إذا انتفت عنه هذه العلة، وأفضت إلى مصلحة راجحة، وأبرز مثال لما ذكرت: إباحة لعب الأطفال؛ وذلك لما تتضمنه من ترويض للطفل على أعمال الكبار؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر، وفي سهوتها سترٌ، فهبت ريحٌ، فكشفت ناحية الستر عن بناتٍ لعائشة لُعبٍ، فقال: «ما هذا يا عائشة؟»، قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاعٍ، فقال: «ما هذا الذي أرى وسطهن»، قالت: فرسٌ، قال: «وما هذا الذي عليه؟»، قالت: جَناحان، قال: «فرسٌ له جناحان؟!»، قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحةٌ، قالت: «فضحك حتى رأيت نواجذه» (31).

فتأمل إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم للعب أم المؤمنين بالصور المجسمة، والحكمة من الترخص في هذه الثقافة هو ما تتضمنه من تعليم وتأديب للطفلة على شؤون البيت، قال أبو الطيب العظيم آبادي: ... وخُصَّ ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع لعب للبنات؛ لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن، ...(32).

ثالثًا: الشِّعر والخطابة:

العرب أمة أمية، غلب عليهم الجهل بالقراءة والكتابة، ولا يعني هذا تخلُّفَ الفصاحة عنهم، بل هم أبين الأمم لسانًا، بما حباهم الله تعالى به من اللسان العربي.

قد عُرِفوا بقرض الشعر؛ فكان الشاعر مكينًا في مجالسهم، فلو قال كلمة في نهاره، سارت بها الركبان في ليله، وقد غلب على الشعراء الكذبُ، والإخبار بخلاف الواقع؛ فالشاعر يرفع الوضيع، ويحط الشريف، ويقذف النسيب، وينزه الزنيم، ويقول ما لا يفعل، قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء: 224– 226].

ولما بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم، عالج هذه الثقافة السائدة بترياق الشرع؛ فأبطل ما كان منها باطلًا، وأقر ما كان منها حقًّا، وكان من جملة ما نسفه: انشغال الناس بالشعر، واهتبالهم بأبياته؛ فمنع الاشتغال به إذا كان على حساب القرآن والسنة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلئ جوفُ أحدكم قيحًا، خيرٌ له من أن يمتلئ شِعرًا» (33).

فعلى هذا حمل أهل العلم الوعيد الوارد في الحديث، قال أبو عبيدٍ: وجهه أن يمتلئ قلبه حتى يشغَلَه عن القرآن وذِكرِ الله؛ فإذا كان القرآن والعلم الغالب، فليس جوف هذا عندنا ممتلئًا من الشِّعر، وإن من البيان لسحرًا (34).

كما نهى صلى الله عليه وسلم عن كل شِعرٍ تضمَّن ما يضاد الشرع؛ مِن كفر، وقذف، وهلم جرًّا، وأقر من الشِّعر ما كان حقًّا وصدقًّا؛ فعن أبي بن كعبٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشِّعر حكمةً» (35).

وحض على ما فيه نصرةٌ للدين، وانتقاص لدين المشركين؛ فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشقٍ بالنبل» (36).

وعلى نفس المنوال كان منهجه مع الخطابة؛ فالخطيب صِنْوُ الشاعر عند العرب؛ فالمعهود عندهم أن لكل قبيلة شاعرًا وخطيبًا، وهما لسانان ناطقان يذبان عن القبيلة كل رذيلة، ويلصقان بها كل فضيلة؛ ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم الخطابة بالسِّحر؛ فعن ابن عمر قال: جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان سحرًا» (37).

وحقيقة السحر: التخييل، وصرف الشيء عن ظاهره؛ ولهذا ألفينا الرسول صلى الله عليه وسلم يقر من الخطابة ما كان حقًّا، ويبطل منها ما كان باطلًا، ونموذج ذلك ما جاء عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيلٍ اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ، فأصاب بطنها وهي حاملٌ، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية ما في بطنها غرةٌ؛ عبدٌ أو أمَةٌ، فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهان» (38).

فهذا الرجل وظف خطابته في نصرة الباطل، وشقق الكلام حتى يري الباطل في مظهر الحق؛ فشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالكهان؛ لأن من عادتهم تشقيق الكلام، وتزيين الباطل.

أما إذا وظفت الخطابة في الحق، فهذا ما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحوادثه كثيرة في السيرة؛ منها: خطبة العباس في منًى يوم بيعة العقبة، ومنها: خطبة سعد بن معاذ قبل غزوة بدرٍ، والشواهد على هذا كثيرةٌ معلومة.

الخاتمة:

تبين لنا من خلال هذه المداخلة أن مصطلح الثقافة بمفهومه المعاصر لم يظهر إلا في هذا العصر تأثرًا بالثقافة الغربية، وقد اخترت تعريفه بما عرفه به مجمع اللغة العربية، وهو: جملة العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها.

وظهر لنا أن الثقافة تتنوع بحسَب الدين والجنس والزمان والمكان، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عايش ثقافات متعددة في حياته، وقد استقرأنا منهجه في التعامل، فألفيناه على ثلاثة أضرب:

فالضرب الأول يرفضه، وهو كل ثقافة تهدم ثوابت الأمة، وتنسف مقوماتها.

والضرب الثاني يقبله ويصبغه بالصبغة الإسلامية، وهو كلُّ ثقافة تفضي إلى تثبيت دعائم الأمة.

والضرب الثالث، ثقافة يُعملها في مجال، ويُلغيها في مجال، ومناط الإعمال أو الإلغاء إفضاؤها إلى مصلحة راجحة، أو مفسدة راجحة، وقد مثلنا لكل نوع بأمثلة (39).

----------

(1) شروط النهضة (ص: 83).

(2) انظر: دراسات في الثقافة الإسلامية (ص: 8).

(3) صراع القيم الحرب الثقافية ومعركة العقيدة/ مجلة رواء.

(4) أخرجه البخاري (3534)، ومسلم (2286).

(5) أخرجه أحمد (15156).

(6) أخرجه البخاري (3665)، ومسلم (1699).

(7) تفسير ابن كثير (4/ 165).

(8) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 143).

(9) انظر: سيرة ابن هشام (1/ 153).

(10) انظر: تفسير ابن كثير (1/ 682).

(11) أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).

(12) أخرجه أحمد (9536).

(13) أخرجه أحمد (23222).

(14) أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود (1134).

(15) أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).

(16) أخرجه أحمد (27066)، وأبو داود (3313)، وابن ماجه (2131).

(17) أخرجه البخاري (65)، ومسلم (2092).

(18) أخرجه البخاري (3106).

(19) المغازي (1/ 145).

(20) انظر: سيرة ابن هشام (2/ 477).

(21) أخرجه أحمد (3761)، وأبو داود (2761).

(22) أخرجه أحمد (21618)، وأبو داود (3645)، والترمذي (2715).

(23) أخرجه البخاري (5823).

(24) أخرجه الترمذي (2755).

(25) أخرجه مسلم (413).

(26) أخرجه البخاري (2732).

(27) انظر: تاريخ الطبري (5/ 331).

(28) أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2210).

(29) أخرجه البخاري (6109)، ومسلم (2107).

(30) أخرجه البخاري (5953)، ومسلم (2111).

(31) أخرجه أبو داود (4932).

(32) عون المعبود (13/ 192).

(33) أخرجه البخاري (6154)، ومسلم (2258).

(34) أخرجه أبو داود (5009).

(35) أخرجه البخاري (6145).

(36) أخرجه مسلم (2490).

(37) أخرجه البخاري (5146).

(38) أخرجه البخاري (5758).

(39) كيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثقافة عصره؟ الألوكة.