النفاق الاجتماعي
ظاهرة منتشرة وبكثرة في مجتمعاتنا، والتي تندرج تحتها الكثير من الأفعال؛ كالتصنع والتلون في العلاقات، والكذب والخداع، وحب الشهرة، وطلب المناصب، والصعود على ظهور الآخرين من أجل المصالح الشخصية، حيث تحل الأنانية أمام الشعور بالآخرين واحتياجاتهم، فضرورة الوصول للمظاهر والمفاتن والمراكز الاجتماعية جعلت من الكماليات أساسيات، وطغت فيها الماديات على المعنويات، وأصبح الشخص يبحث عن نفسه في عيون مجتمعه؛ ليصبح بعدها إنسانًا محكومًا عليه بدرجة في سلم اجتماعي يرثه الشخص جيلًا عن جيل، لاغيًا بذلك تميزه ودوره كفرد في جماعة، وكإنسان ميزه الخالق باختلافه عن الآخرين.
ومن المؤسف أن هذه الظاهرة أصبحت شعبية ومن المسلمات، خاصة مع الانفتاح وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعتبر المنصة الأولى لعرض صور النفاق الاجتماعي.
من صور النفاق الاجتماعي الشائع في زماننا التلون في العلاقات، وعدم الوضوح في المواقف والمبادئ والأحاديث؛ لغرض الإفساد أو الانتفاع الشخصي.
فالنفاق الاجتماعي يتعلق بسلوك المجتمع، وعلاقات أفراده، وهو مرض اجتماعي، يؤثر في قوة المجتمع وتماسك أفراده، ويظهر خطره في أن النفاق عمومًا مذموم ومنبوذ، والمنافقون مكروهون مزيفون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه»(1).
وذو الوجهين هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها؛ فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، كما قال ابن بطال: «يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم، ويظهر لأهل الحق مثل ذلك؛ ليرضى كل فريق منهم، ويريه أنه منهم، وهذه المداهنة المحرمة على المؤمنين»(2).
قال المناوي: «قال القرطبي: إنما كان شر الناس لأن حالَه، حالة المنافق إذ هو يتملق بالباطل وبالكذب، مَدْخَلٌ للفساد بين الناس، وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاقٌ محضٌ وخداع بحت، وتحيل على الاطلاع على أسرار الفريقين، وهي مداهنة محرمة، أما بقصد الإصلاح فمحمود»(3).
وذو الوجهين هو الذي يأتي إلى طرفين؛ كالرئيس والمرءوس، أو جارين متخاصمين، أو طائفتين متنافرتين، إما لعصبية نسبٍ أو مذهب ديني، فيُظهر للطائفة الأولى المحبة والمودة والموافقة لمذهبهم، ويمتدح فعلهم، ويقدح في فعل الطائفة الأخرى ويظهر مخالفتهم، ثم يذهب للطائفة الأخرى ويظهر لهم المودة والمحبة والموافقة ويمتدح عملهم، ويقدح في الطائفة الأخرى ويظهر مخالفتهم؛ لأجل أن يفسد بينهما، وقد يكون مقصده الاطلاع على أسرار كل طائفة؛ لأن الناس عادة لا يظهرون أمورهم الخاصة ومعايبهم إلا لمن يظهر لهم المحبة والموافقة، ويأمنون جانبه، ويحسنون فيه الظن، وذو الوجهين لا يتمكن من ذلك إلا بإظهار الإخلاص والموالاة لهم.
وذو الوجهين يكون مع قوم على صفة ومع غيرهم على صفة أخرى، فإذا عاشر أهل الصلاح أظهر لهم الصلاح والتقوى والوقوف عند حدود الله، وإذا عاشر الفساق أظهر لهم الفجور والفواحش وتباهى بالسيئات، يستميل كل قوم بما يحبون لينال عندهم حظوة، خلافًا للمؤمن الثابت على صفة واحدة.
وهذه الصفة من كبائر الذنوب التي ورد فيها الذم والوعيد؛ لما تشتمل عليه من الكذب والخداع، وهي من صفات النفاق، وقد ورد في سنن أبي داود: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار»(4)، والمؤمن له وجه واحد ولسان واحد في الدنيا والآخرة.
وذو الوجهين منافق في العلاقات الاجتماعية، كاذب ومخادع في علاقاته ومبادئه، متلون في مواقفه ومشاعره.
والمتلون ذو الوجهين يظهر لكل طائفة في وجه ليحقق مصالحه الشخصية ويتقي شرهم، فإذا ظهرت دولة الطائفة الأولى وقويت شوكتهم أثنى عليهم وأظهر الولاء والوفاق لهم؛ ليصيب دنياهم، وإذا ظهرت دولة الطائفة الأخرى فعل معهم كما فعل مع الطائفة الأولى؛ ليفوز بغنيمة الدنيا وبئست الغنيمة.
وذو الوجهين ليس له شخصية ثابتة، وليس له مبادئ أو قيم، مهزوم من الداخل، نشأ على الكذب والخداع والمراوغة، كاذب اللهجة، متأرجح، يتمايل على حسب المصالح، تافه ووضيع وإن تزين واكتسى بالعباءة، محتقر في نظر الرجال، أمره مكشوف عند أهل الفراسة والعقل وإن تخفَّى وراء الأقنعة المزيفة، وسيفضحه الله يوم القيامة في أعظم مشهد.
وذو الوجهين من أهل الخيانة لا يُولَّى ولاية ولا يؤتمن في مسئولية؛ لأنه لا يقيم العدل والأمانة مع الآخرين؛ ولذلك ورد في الأدب المفرد للبخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا»(5).
أما من دارى الطائفتين وتودد لهم لقصد الإصلاح بينهما؛ فستر القبيح في كل طائفة، وأظهر الخصال الحسنة فيهما، ونقل كلامًا طيبًا ومشاعر حسنة ليؤلف بينهما، فهذا من الإصلاح ومن الأعمال الجليلة، وقد ورد فيه ثواب عظيم، وليس هذا من التلون المذموم؛ ولذلك فإن الشارع رخص في الكذب لأجل الإصلاح بين الناس، كما ثبت في الصحيحين: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا أو يقول خيرًا»(6).
أوقات يقوم الإنسان بهذا التصرف لذكائه، أو لمصلحة دنيوية، ويدخل في ذلك المصالح الاجتماعية أو مصالح العمل، وقد ينوي بذلك عدم التعادي من الناس، فيرضي ذلك ويجامل هؤلاء، وهو في الأصل لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام»(7).
يعني أصنافًا وأنواعًا وأشكالًا مختلفة؛ منهم من يكون بصراحته مزعجًا، ومنهم من تتقبل صراحته لجمال أسلوبه، ومنهم اللبق، ومنهم المداهن.
وقوله: «تجدون الناس معادن»؛ أي أصولًا مختلفة، والمعادن جمع معدن، وهو الشيء المستقر في الأرض، فتارة يكون نفيسًا، وتارة يكون خسيسًا؛ وكذلك الناس، قوله: «خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام» وجه التشبيه: أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه ولا تتغير صفته؛ فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها؛ بل من كان شريفًا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمر شرفه وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية(8).
قال أناس لابن عمر: «إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم»، قال: «كنا نعدها نفاقًا»(9).
وجاء في مسند أحمد أن عبد الله بن عمر لقي ناسًا خرجوا من عند مروان، فقال: «من أين جاء هؤلاء؟»، قالوا: «خرجنا من عند الأمير مروان»، قال: «وكلُّ حقٍّ رأيتموه تكلمتم به وأعنتم عليه، وكل منكرٍ رأيتموه أنكرتموه ورددتموه عليه؟»، قالوا: «لا والله؛ بل يقول ما يُنْكَر، فنقول: قد أصبتَ أصلحك الله، فإذا خرجنا من عنده قلنا: قاتله الله، ما أظْلَمه وأفْجَرَه!!»، قال عبد الله: «كنا بعهد رسول الله صلي الله عليه وسلم نَعُدُّ هذا نِفاقًا لمن كان هكذا»(10).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا»(11).
وتتجلى هذه الصفة عند بعض الأشخاص في السكوت عن الخطأ بنية الحصول على مصالح شخصية، أو خوفًا من فقدان ثقة المُجَامل، يقول الحسن البصري: «تولى الحجاج العراق وهو عاقل كيس، فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمق طائشًا سفيهًا»، وهذا أثر من الآثار الجمة لسلوك النفاق الاجتماعي، أنه يغير سلوك هؤلاء الأشخاص، ويصدقون ما وصلوا إليه من المجاملات.
يقول ابن القيم في كتابه الفوائد: «علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق»(12).
ورحم الله الإمام أحمد حيث قال: «إذا أجاب العالم تقية والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟»(13)، فالرد على المخالفين من أصول الإسلام ولا شك.
فتأمل مقدار فَهم هذا الإمام العظيم للأمانة الجسيمة الملقاة على عاتق العلماء، وقارن هذا الموقف الرباني بما يقع فيه كثير من العلماء المعاصرين من تهافت على موائد السلطان، وتكالب على فتات الدنيا، وتطويع للنصوص والقواعد الشرعية الراسخة للأهواء والأمزجة(14).
وصدق الإمام أحمد رحمه الله، فإنه ما وقع اللبس والغبش في الأمة إلا بمداهنة العلماء، وتجرؤ الجهال بالإفتاء بلا علم.
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين؛ تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة»(15).
يعني الذاهبة إلى هذه مرة وإلى هذه مرة، لا تستقر في إحداهما، وكذلك المنافق يصير إلى المسلمين باللفظ ويعود إلى المشركين بالعقد(16).
قال الطيبي: «شبه تردده بين الطائفتين من المؤمنين والمشركين تبعًا لهواه، وقصدًا لغرضه الفاسد، وميلًا إلى ما يبتغيه من شهواته؛ بتردد الشاة العائرة وهي تطلب الفحل فتتردد بين الثلتين، فلا تستقر على حال، ولا تثبت مع إحدى الطائفتين، وبذلك وصفهم الله في كتابه فقال عز من قائل: {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء:143]»(17).
وفي تشبيهه بالشاة الطالبة للفحل إعلام بأنه ليس غرضه إلا الغرض الحيواني البهيمي في متابعة هواه(18).
قال محدث المغرب أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله: «أما الذين يسارعون إلى إباحة بعض المحرمات، ويصدرون فتاوى يرضون بها رؤساء بعض الحكومات، وقد تختلف فتاواهم بالتحليل والتحريم حسب اختلاف الأغراض والشهوات، فهؤلاء مجتهدون في محو الدين، مجدون في تغيير أحكامه، ولن يفلتوا من عقاب الله تعالى، ولا من شديد انتقامه، وما الله بغافل عما يعملون»(19).
والنفاق الاجتماعي علامة من علامات قيام الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع»(20)؛ يعني العبيد والسَّفِلَة من الناس.
قال الزمخشري: «هو بالرفع اسم يكون معدول عن اللكع، يقال: لكع الوسخ عليه لكعًا فهو لكع، إذا ألصق به إلى الرجل اللئيم، كما عدلت لكاع للمرأة اللئيمة، ثم استعمل للأحمق والعبد واللئيم، وأريد به من لا يعرف له أصل، ولا يحمد له خلق من الأسافل والرعاع»(21).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استعمل رجلًا من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين»(22).
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلًا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين»(23).
ومن أهم تجليات النفاق الاجتماعي هو السكوت عن الخطأ والتملّق لنيل الرضا؛ خوفًا من الفقدان والخسارة لمن هم في مواقع السلطة وصنع القرار، سواءً في الأسرة، أو في العمل، أو في الدولة، فيطغى المديح بصفات مغايرة للحقيقة على الرغم من تعدد الأخطاء والسلبيات، حيث يحيط بالمسئول شرذمة من المنافقين، يمطرونه بوابل من المديح الممجوج، يوصله لدرجة من التجلّي فيتوهّم بأنه (سيد البلاد والعباد)، ومعبود الجماهير، وبأنه معصوم من الخطأ، الأمر الذي يورطه في سرداب التعالي والتكبر على مرءوسيه، ويسرف في سياساته الفاشلة، ويزيده تجبّرًا وطمأنينة، في الوقت نفسه، أن معارضيه هم الأقلية من المنافسين والحسّاد له على ما وهبه الله من تلك النعمة، وهو الدافع الرئيس لتقريب الأذناب من المناصب العالية لضمان صونها من شوائب الأقلية، على اعتبار أن الأكثرية هم الأحباب والمصفقين والمطأطئين رءوسهم لأصحاب السلطة والقوة؛ فيودي هؤلاء بالمجتمع إلى الهاوية.
وهذه القاعدة الشاذة للارتقاء عبر النفاق الاجتماعي تنطبق على كل المجاميع، صغيرها وكبيرها، ابتداءً من مؤسسة الأسرة، مرورًا بمؤسسات المجتمع المختلفة، وصعودًا إلى مؤسسة الدولة، مع العلم أن قاعدة الهرم تدبّ فيها هذه الآفة ربما أكثر من قمته.
وقد جاء الخطاب العربي الإسلامي الثقافي جليّا في شأن المنافق، فنبه إلى خطورة هذه الآفة النفسية الاجتماعية عندما جاء النصّ القرآني صارمًا في منزلة المنافق، فجعل مرتبته في الدرك الأسفل من النار؛ وذلك لأن المنافق أشدّ خطرًا من العدو نفسه.
وقد صدق الغزالي عندما قال: «ذو اللسانين من يتردّد بين متعاديين، ويكلّم كلًا بما يوافقه، وقلّ من يتردّد بين متعاديين إلّا وهو بهذه الصفة، وهذا عين النفاق»(24).
والمؤمن الحق لا يطبع قلبه على التلون والنفاق والكذب؛ بل يكون على صفة ثابتة ومبدأ واضح، وموقف لا يتغير ولا يتبدل لأجل عرض الدنيا، ولا يضمر السوء بالمسلمين حتى مع المخالفين، وليس بالضرورة أن يميل إلى إحدى الطائفتين، فقد يرجح طائفة على أخرى لأجل ما ظهر له من اتباع الحق، ويظهر ذلك، وقد يكون محايدًا بينهما، وقد يكون مخالفًا لهما جميعًا، المهم أنه صادق اللهجة، ناصح واضح المواقف والمشاعر، لا ينافق ولا يخادع فيظهر وجهًا وهو يبطن وجهًا آخر.
إن ذا الوجهين له ضرر عظيم على المجتمع، ويفسد كثيرًا بين الناس، خصوصًا بين الراعي والرعية، وبين القبائل المتنافرة، وبين أهل الخصومات والمشاحنات، عن طريق المدح الكاذب والتملق الفاجر والنميمة الفتاكة وتأجيج الفتن، وقد جر ذلك ويلات على المجتمع، ووقعت إحن ومصائب عظيمة.
وقد وجدت هذه الصفة الذميمة في واقعنا، في وظائفنا وأسواقنا وصحافتنا وقنواتنا، وكثر التلون والكذب في المواقف والأحاديث، وهذا سببه ضعف التدين وقلة الورع، والفتنة بزينة الدنيا والغفلة عن الآخرة، وقلة احترام حقوق المسلمين؛ ولذلك تجد الموظف يعتدي على حق أخيه لأجل علاوة أو منصب أو انتداب، وتجده يظلم أخاه الموظف ليقف في صف المسئول ليتقاسم معه مصلحة معينة، أو يحصل على ترقية، وهكذا للتلون صور ونماذج في كثير من المجالات والميادين، والله المستعان(25).
وإذا نظرنا في مسيرة التاريخ الإنساني لوجدنا أن النفاق هو العامل الأخطر في تقويض الدولة الإسلامية؛ لأن النفاق يدب في جسد الأمة كما يدب السرطان في جسد الناس، ولا يشعرون به إلا وهم جثة هامدة، انهارت قواهم، وفقدوا مناعتهم، بما أحدثه من نقص في المناعة، وهذا بالضبط ما يحدثه النفاق في وحدة الأمة الإسلامية؛ حيث يجعلها جثة هامدة عن طريق إحداث الفتنة والاضطرابات والفرقة، والعمالة مع أعداء الإسلام في هدم الإسلام والمسلمين.
قال الإمام النووي رحمه الله: «ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره(26)، كما يبرر المتملقون للحكام المنكرات، ويبيحون المحرمات، ويقننون للفساد، تبعًا للأغراض والشهوات.
وبذلك أصبح المتملقون والمنافقون هم أصحاب المكانة القريبة من المسئولين، وأصبح المخلصون العاملون الجادون، الذين لا يجيدون العزف على وتر النفاق، ولا يحسنون الضرب على أعواد المداهنة، أصبحوا لا نصيب لهم في المنح؛ بل والوظائف؛ لأن الأمة تجامل على حساب المصلحة، والنفاق الاجتماعي أصبح أحد المؤهلات الضرورية للوصول إلى المناصب، والتقرب من الرؤساء، ومن لا يجيد هذا النوع من النفاق لا مكان له إلا في ذيل القائمة إذا وجد لها ذيل!! والتمادي في هذا النوع من النفاق يؤدي إلى خرق السفينة، حيث يتصدر لكع ابن لكع المشهد.
والنفاق الاجتماعي علامة من علامات قيام الساعة، وتصدر هؤلاء لعظائم الأمور مع إبعاد من هم أحق تضييع للأمانة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: (متى الساعة؟)، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: (سمع ما قال فَكَرِه ما قال)، وقال بعضهم: (بل لم يسمع)، حتى إذا قضى حديثه قال: (أين السائل عن الساعة؟)، قال: (ها أنا يا رسول الله)، قال: (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: (كيف إضاعتها؟)، قال: (إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة)»(27).
إن أهل النفاق الاجتماعي لا يعيرون اهتمامًا لأصحاب الكفاءات، وإنما يعتمدون على من يطاوع نفاقهم؛ مما يؤدي إلى هجرة الكفاءات، وهم محملون بالحقد على مجتمعهم الذي تربوا فيه، فتفقد الأجيال ولاءها وانتماءها للأوطان، ويرتمون في أحضان الأوطان التي هاجروا إليها؛ مما يتسبب في إحداث ازدواجية في الناشئة التي ستخرج من هذه الأجيال المهاجرة؛ بسبب أن المناصب القيادية في المؤسسات والهيئات لأهل التملق والنفاق، وهذا يؤدي إلى تفاقم الأزمات وظهور الفشل.
واجب الأمة تجاه ظاهرة النفاق الاجتماعي:
يجب على الأمة تعرية هؤلاء المنافقين؛ لأنهم يبالغون في مدح الناس بالباطل من أجل المآرب والمصالح الشخصية، وقد يبالغون في المدح إلى حد الإطراء، فيصنع هؤلاء المنافقون فراعين يذلون الناس ويستعبدونهم، كما أنهم يمهدون لغيرهم صناعة الفراعين! فكلما رحل فرعون جاء فرعون جديد، يعتمد على سحرة أهل النفاق، عن طريق لحن القول وتزييف الحقائق، فتنزلق الأمم في الهاوية.
فمن الذي كوى الأمة كلها بنار الفرقة والتشرذم؟ ومن الذي قسم البلاد ووضع الحدود المصطنعة؟ ما حدث ذلك إلا بتمهيد ومباركة من أبناء عبد الله بن أبي ابن سلول، المربي الأول لطابور النفاق على مر العصور، وهو الشخصية الحقيقية الرمزية بعد ذلك، والنموذج الذي يسير على دربه أحفاده، إنها ذرية بعضها من بعض، تتجمل وتتصنع بزخرف القول غرورًا، فيجب على الأمة بعد تعريتهم أن يفعلوا معهم فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث وضعهم في مكانتهم التي يستحقونها، وهي الوضاعة والخسة، بدلًا من تمجيدهم وإضفاء الألقاب العالية عليهم، يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب»(28)؛ أي المبالغون في مدح الناس في وجوههم، والمادحون لهم بالباطل، وبما ليس فيهم.
ومن واجب الأمة كذلك تجاه خطر النفاق الاجتماعي تحذير الأجيال منهم، وتنشئة المجتمع تنشئة اجتماعية سليمة، بعيدة عن التملق والخداع؛ لأنه أسلوب انتهازي رخيص، وليس من أخلاق أهل الإيمان والشرف.
ويجب على الأمة بيان خطر النفاق عن طريق إظهار خطره في الآخرة، فكما أن هذا اللون من النفاق يدمر صاحبه والمجتمع كذلك، فإنه يعرضه للعقاب الأليم؛ وذلك لأنه خائن لله ورسوله(29).
كيفية التغلب على ظاهرة النفاق الاجتماعي:
- يبدأ ذلك من الأفراد أنفسهم، بالرجوع إلى القيم والمبادئ الدينية التي تحرم النفاق وتتوعد المنافقين بالعذاب، كما بتعليم النفس الرضا والقناعة والإيمان بأن الأرزاق بيد الله، وأن الإنسان محاسب لما في يده، مع الابتعاد عن المقارنات والحسد تجاه الآخرين.
- التركيز على المضمون وترك الماديات، فالفكر السليم ومكارم الأخلاق وحسن التربية والتعامل هي من تفرض احترام الآخرين، وتحدد مستوى الفرد عند من حوله.
- نشر الثقافة والعلم، والتركيز على الإنجازات التي تفيد البشرية، والابتعاد عن حصر التفوق بالجمال أو بالجاه والمال(30).
***
_________________
(1) أخرجه البخاري (6058).
(2) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (8/ 250).
(3) فيض القدير (3/ 230).
(4) أخرجه أبو داود (4873).
(5) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (313).
(6) أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605).
(7) أخرجه البخاري (3493)، ومسلم (2526).
(8) فتح الباري، لابن حجر (6/ 529).
(9) أخرجه البخاري (7178).
(10) أخرجه أحمد (5373).
(11) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (313).
(12) الفوائد، لابن القيم، ص61.
(13) الجامع لعلوم الإمام أحمد- العقيدة (3/ 471).
(14) شرح منظومة الإيمان، ص134، بترقيم الشاملة آليًا.
(15) أخرجه مسلم (2784).
(16) كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 597).
(17) فيض القدير (5/ 516).
(18) التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 540).
(19) خواطر دينية وبحوث غالية، لابن الصديق الغماري، ص161.
(20) أخرجه الترمذي (2209).
(21) فيض القدير (6/ 417).
(22) أخرجه الحاكم (7023).
(23) مجموع الفتاوى (28/ 247).
(24) الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 40).
(25) النفاق الاجتماعي (ذو الوجهين)، موقع: صيد الفوائد.
(26) آداب الفتوى، للنووي، ص37.
(27) أخرجه البخاري (59).
(28) أخرجه مسلم (3002).
(29) النفاق الاجتماعي وخطره على الأمة، موقع: طريق الإسلام.
(30) النفاق جرعة للتعايش، موقع: بشرى حياة.