logo

الدعوة بين الأصالة والمعاصرة


بتاريخ : الجمعة ، 26 رجب ، 1436 الموافق 15 مايو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعوة بين الأصالة والمعاصرة

مما يجدر بالخطيب أن يراعي الأهم فالمهم من الأمور والموضوعات، صحيح أن بعض الأمراض الاجتماعية مشتركة في كل العصور، وفي كل الأجيال، لكن يبقى لكل بيئة خصائصها، ولكل زمان معطياته، وكلما جمع الخطيب بين الأصالة والمعاصرة، وبين فقه الواقع وسعة الاطلاع كان أعظم بصيرة، وأوسع تأثيرًا في النفوس.

 

ويقصد بالأصالة: المحافظة على جوهر الدعوة باستنادها إلى الأصول والأدلة الشرعية، والتمسك بمبادئها الأساسية.

 

والمعاصرة هي: تكافؤ الدعوة مع العصر الذي تعيش فيه، بحيث تعالج واقعه وتلبي متطلباته.

 

فدعوة الناس بلسانهم ولغتهم معاصَرة, واختيار الأسلوب الدعوى المناسب لموقف من المواقف معاصَرة، واستخدام الوسائل المتوفرة في عصر من العصور لنشر الدعوة معاصرة، وسيرته صلى الله عليه وسلم في تمسكه بأصالة دعوته لا يحيد عنها، ولا يقبل مساومة فيها، وفى ذات الوقت معالجته واقع عصره، وتخيره الأساليب النافعة لدعوته، واستخدام جميع أنواع الوسائل المشروعة المتوفرة في عصره، غير زاهد بشيء منها؛ أمر لا يخفى على من اطلع على سنته صلى الله عليه وسلم، وقد سار الصحابة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهجه، كما في جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للقرآن.

 

ولا شك أن مفهوم الأصالة والمعاصرة يختلف من منظومة حضارية إلى منظومة حضارية أخرى، ففي المعاجم العربية نجد أن الأصالة في الرأي: جودته، والأصالة في الأسلوب: ابتكاره، والأصالة في النسب: عراقته، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه، ومنشؤه الذي ينبت منه، وأصول العلم: قواعده التي تبنى عليها أحكامه، وبناءً على ذلك فالأصالة في الدعوة اعتمادها على القواعد والأسس الأصيلة التي تقوم عليها، والأرض التي تنبت فيها، وأصالة الدعوة تعني أن يجيء التفكير الدعوي بجميع ألوانه وأنماطه متسقًا مع التصور الإيماني لحقيقة الألوهية وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة، فهذه هي القواعد التي تقيم نظم الدعوة، وتهدي إلى مثلها، وطرائقها وأساليبها.

 

أما المعاصرة في الدعوة فهي تحقيق الدعوة لأهدافها في زمن معين، وفق معطيات الزمان والمكان وحاجات الناس في ذلك الزمن، ومع استخدام ما توافر لها من الوسائل والأدوات في ذلك الزمن.

 

وهناك من النظم الدعوية ما يتغير مع العصر انطلاقًا من قواعده الأصيلة، وأسسه الثابتة، وذلك كالدعوة الإسلامية التي تعمل على هداية الإنسان المسلم والمجتمع في كل زمن؛ انطلاقًا من قواعدها الربانية، مع استخدام كل ما هو مفيد ونافع من معطيات الإنسان والزمان والمكان(1).

 

يقول الحافظ ابن حجر: «وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله عليه وسلم»(2)، وكذلك موقفهم رضي الله عنهم من إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو موقف تتجلى لنا دقة الموازنة فيه بين الأصالة والمعاصرة، فما أشار الصحابة رضوان الله عليهم، وفيهم عمر بن الخطاب، بعدم إنفاذه إلا خوفًا منهم على مصلحة الدعوة، ورأيًا منهم بأن الظروف قد تغيرت، والمصلحة تقتضي بقاء هذا الجيش العظيم في عاصمة الدولة وحول الخليفة، وقد هددها ما هددها من عدو ماكر لدود، ولم يجدوا في ذلك معارضة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنفاذ الجيش؛ وإنما هي مصلحة قد طرأت، وظروف قد تغيرت يمكنها أن تقيد ذلك الأمر.

 

وما أبى أبوبكر رضي الله عنه، وهو الإمام، ذلك الإباء الشديد، وحزم ذلك الحزم إلا وهو يرى المصلحة في إنفاذ ذلك الجيش، وأنه أمر منه صلى الله عليه وسلم يلزمه ويلزم المسلمين، وقال قولته المشهورة: «والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيشًا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وكان الخير والصواب في تصرف أبي بكر رضي الله عنه.

ضوابط الأصالة والمعاصرة:

 

لا بد من التعرف على ضوابط الكلمتين؛ حتى لا يساء فهمهما فتصاب الدعوة بالجمود، أو تقع في التنازلات والتجاوزات، فليست الأصالة تحجرًا في العقول، وليست المعاصرة أيضًا ميوعة في المواقف، ولا ذوبانًا في الشخصية، وليست الغاية من الدعوة إرضاء الناس وتحقيق رغباتهم، وإنما هي هدايتهم ودلالتهم على الصراط المستقيم، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120].

 

ومن أهم هذه الضوابط:

 

1. المحافظة على الأصول الشرعية محافظة تامة، والتمسك بالسنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين، والعض عليها بالنواجذ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].

 

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ»(3).

 

والاتباع والتأسي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين رضوان الله عليهم، يشمل أقوالهم وأفعالهم، كما يشمل سيرتهم العملية، ومناهجهم التطبيقية، والاتباع في المناهج والأساليب مقدم في الأهمية على الاتباع في الأقوال والأحكام.

2. اجتناب البدع اجتنابًا كاملًا، والحذر منها كل الحذر: ففي الحديث: «وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»(4)، وفى الحديث أيضًا: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»(5)، ولا بد هنا من حمل الأحاديث المطلقة على المقيدة؛ وذلك ليصح فهمها، والعمل بالمنطوق والمفهوم خير من العمل بأحدهما، كما في جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس في صلاة التراويح، ثم قوله بعد ذلك: «نِعْم البدعة هذه»(6).

 

فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، وأخرج البيهقي عن الشافعي أنه قال: المحدثات ضربان: ما أحدث يخالف كتابًا، أو سنة، أو أثرًا، أو إجماعًا فهذا بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئًا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة.

3. التمييز بين المناهج الدعوية الثابتة وبين الأساليب والوسائل المتطورة، فمن المناهج ما هو رباني ثابت، لا يجوز أن يطرأ عليه تحويل أو تغيير، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، ومن الوسائل ما هو بشري متطور، يضعه الدعاة بما يتناسب مع المدعوين، مجتهدين في ذلك مقتبسين له من منهج الله تعالى.

 

وهذا النوع من الوسائل يتطور ويتغير بحسب المدعوين، وتبعًا لظروفهم وأحوالهم ومستوياتهم، وإذا كان الأصل في المناهج الربانية الثبوت والاستمرار وعدم التحول، فإن الأصل في الأساليب والوسائل والمناهج البشرية التطور والتحول إلى ما يناسب كل عصر وبيئة.

4. المحافظة على شرعية المناهج والأساليب والوسائل، وتجنب مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة)، فعلى المسلم أن يتجنب الحرام ولو توهم أن فعله قد يوصله إلى خير، كما عليه أن يفعل الواجب وإن توهم أن تركة يدفع عنه شرًا، فإن الشر لا يأتي بالخير، ولا يتعارض هذا مع ما ورد من ترخيص بالكذب في بعض المواطن، كاستثناء من حكم عام، كما في الحديث: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمى خيرًا أو يقول خيرًا»(7).

 

وفي رواية لمسلم بزيادة قالت أم كلثوم: «ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها»(8).

5. مراعاة الاختلاف في الأحكام الشرعية، فلا ينزل الأمر المختلف فيه منزلة الأمر المتفق عليه، يقول سفيان الثوري: «إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه»، ويقول: «ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدًا من إخواني أن يأخذ به»، وقديمًا قالوا: وما كل خلاف جاء معتبرًا.

 

وعلى الإنسان أن يفرق بين الأحكام الشرعية القطعية التي لا يُختلف فيها، وبين الأحكام الاجتهادية المختلف فيها، فيعمل بما ترجح لديه فيها، إن كان أهلًا للترجيح، ثم السلامة والحيطة لا يعدلها شيء، يقول ابن تيمية: «... نعم، من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع»(9).

6. التوسط والاعتدال في التمسك بالدين، والبعد عن الغلو والتشدد، وتجنب التقصير والتساهل، وفى الحديث: «هلك المتنطعون، قالها ثلاثًا»(10)، قال النووي: «المتنطعون: المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد»، وفى الحديث أيضًا: «إن الدين يسر، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»(11)، قال ابن المنير: «في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا، ورأى الناس قبلنا، أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منه طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل»(12)، وفى الحديث الذي رواه ابن ماجه: «يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم»(13)(14).

7. الرجوع في حكم المسائل المستجدة إلى أهل العلم والاختصاص؛ لتحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]، وفى الحديث: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»(15).

إن بعض الناس قد يحيطون مؤسسة ما، وخاصة إذا عُمرت طويلًا، بهالة من التقديس، وعندئذ فإن انتقادها أو التدخل في شئونها يعتبر ضربًا من التطاول على الحرمات والانتهاك للمقدسات!، وفي مثل هذه الأحوال فإن صبّ تيار جديد قوي لدفع التيار الأول يكون من الصعوبة بمكان، مع أن هذا يعطي الدعوة حيوية وقوة، ولو عمر المؤسسون الأوائل لغيَّروا كثيرًا من اجتهاداتهم؛ لأنهم سيعاصرون أحداثًا لم تكن في أوائل الدعوة، ولا يعارض التجديد في مثل هذه الظروف إلا غبي مشغوف بعبادة الأشخاص، أو انتهازي يريد بقاء الوضع على ما كان ليستفيد هو شخصيًا من هذا البقاء، وقد تكون لهم مصلحة أكيدة في قيام بعض العادات وترسيخها؛ لأنهم يستمدون من هذه العادات قوتهم وسلطتهم، ولذلك كان من حظ البشرية أن ينبغ فيهم بين الفينة والأخرى من يحملهم على التفكير حملًا.

 

إن تيار الحياة متدفق متجدد، والذي لا يلاحظ التغيرات سيعيش بعيدًا عن عصره، بعيدًا عن واقعه، يتقوقع على نفسه مرددًا ما سمعه من عشرات السنين.

 

إن التحدي الذي يواجه المسلمين في هذا العصر، ويحتاج إلى التجديد في طرائق الفكر والعمل هو: كيف ننفذ منهج أهل السنة ونستفيد من منتجات هذا العصر دون التنازل عن الفكرة والمبدأ؟

 

أما تغيير حقائق الدين باسم العصرنة فهذا هو الباطل، وتغيير حقائق الدين وإباحة المحرمات ونسف قواعد الدين؛ مثل سد الذرائع وغيرها باسم العصرنة، فهذا هو الباطل الذي لا يقبل، وهو مرفوض.

 

فالتقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أو بعبارة أخرى: بين الثابت والمتغير؛ ثابت يجب الحفاظ عليه، ويتضمن اللغة والتاريخ وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر، مع خلق المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.

 

إن التغيير شيء محتوم، ومعادلته الجمعُ بين الأصالة والمعاصرة، وإن علينا أن نرشِّده بدل أن نقاومه، وترشيده يكون من خلال المراقبة الدقيقة والمتابعة والمراجعة، فنضع الخطوط الحمراء في وجه كل تغيير يمس الأصول والثوابت، والأهداف الكبرى، والمبادئ العليا للأمة، ونرحب؛ بل ونبدع في الوسائل والأدوات، ونجدد الأساليب والآليات التي تساعدنا على تنشيط وظائف نظمنا الدعوية والاجتماعية، وتوظيف كل طاقاتنا وإمكاناتنا على طريق تحقيق آمالنا وأهدافنا السامية في هذه الحياة، التي هي مسرح الابتلاء والتدافع،{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40](16).

_______________

(1) مناهج التربية، أسسها وتطبيقاتها، علي أحمد مدكور، ص32.

(2) فتح الباري، لابن حجر (9/14).

(3) رواه الترمذي (2676).

(4) رواه مسلم (867).

(5) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

(6) رواه البخاري (2010).

(7) رواه البخاري (2692)، ومسلم (2605).

(8) رواه مسلم (2605).

(9) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (24/172).

(10) رواه مسلم (2670).

(11) رواه البخاري (39).

(12) فتح الباري (1/94).

(13) رواه ابن ماجه (3029).

(14) الأصالة والمعاصرة، د. سعيد عبد العظيم، موقع: الشبكة الإسلامية.

(15) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(16) الأزمة ومنهج التغيير، د. محمد أمحزون، مجلة البيان، العدد: 230.