عوامل النهوض بالأمة

إن الحالة التي عليها أمتنا اليوم لا تخفى على أحد، فمن بعد العز والقوة والمنعة، صارت إلى الذل والضعف والهوان، وبعد أن كانت قائدة لكل الأمم، ورائدة لكل الحضارات، وسائدة لكل العالم، صارت في ذيل الركب وتراجعت وتأخرت مكانتها؛ تكالبت عليها الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، فمزقت أوصالها، ونهبت خيراتها، وشردت وقتلت الكثير من أبنائها.
بات الكثير من المسلمين مشتتين ضائعين وتائهين، لا يدرون ما وجهتهم وما أهدافهم، ضائعون بين نمط العيش الذي يتحوّل يومًا بعد يوم إلى باطل محضٍ، وفساد كبير في مختلف القطاعات، فغدا الحرام بشتى صوره في حياتنا حرية شخصية يجب احترامها، والانتماء للإسلام بات صورة شكلية لا أثر عملي له في واقع الحياة؛ إما خوفًا وإما جبنًا وإما حياءً.
أمة جعلها جاعل وصنعها صانع وأخرجها مخرج وأوجدها موجد وهو الله تبارك وتعالى، لم يخرجها لنفسها، وإنما أخرجها للناس، أخرجت للناس، لهداية الناس، لنفع الناس، لإسعاد الناس، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهي أمة تعمل للناس كل الناس، أمة عالمية، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، فهذا هو شأن الأمة الإسلامية أنها أمة عالمية، وأنها أمة وسط، وأنها أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الخير كما تؤمن بالله عز وجل، فهذه الأمة لا شك أنها من أهداف الإسلام الكبرى الأساسية.. أن يكون له أمة، وأمة ذات رسالة، وأمة تؤمن برب واحد، وتؤمن برسول واحد، وتؤمن بكتاب واحد، تؤمن بعقائد واحدة، تحتكم إلى شريعة واحدة، لها مصدر معصوم: القرآن الكريم وما بينه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
يرتبط مفهوم النهضة في الإسلام بتحقيق شروط المنهج الرباني في: العقيدة والعمل، وتحقيق معالمه الأساسية في نفسية الفرد المسلم والجماعة المسلمة لتحصيل التأهل الحضاري، والقابلية للاستخلاف وعمارة الأرض.
فالنهضة في الإسلام عقيدة راسخة، وإنسان مستخلف، ومؤسسات حاضنة، وإبداع متميز، وعبودية دائمة.
هذه هي العناصر الرئيسية التي تحدد معالم المجتمع الناهض والأمة الشاهدة القائدة في الإسلام، والمجتمع الرباني الذي وعده الله بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
وقد نبه القرآن الكريم في الكثير من آياته على أن الأمم تقوم أو تسقط بناء على سنن ثابتة لا تتغير أو تتبدل، ووفق عوامل لا تُخرق أو تختزل، ومن أهم هذه العوامل ما يلي:
1- الفكرة:
إن أشد عوامل النهوض أهمية الفكرة التي تشكل تصور الأمم لحقيقة الوجود والكون والإنسان والحياة، فهذه الفكرة في طبيعتها الفلسفية عامة، وفي طبيعتها الدينية خاصة هي المحدد الأكبر لمصير الأمم والشعوب من حيث التخلف والتقدم، والبداوة والتحضر، وذلك بحسب ما تكون عليه من تحديد في مجال تصور الوجود والكون والإنسان والحياة، ومصداق ذلك يبدو في أن كل التحولات الحضارية الكبرى التي حدثت في تاريخ الإنسان كانت ناتجة عن تحولات كبرى في تصور حقيقة الوجود والحياة، سواء كانت حضارات دينية أو غير دينية.
إن تصور حقيقة الوجود والحياة ليس كافيًا وحده ليحدث التغيير الحضاري؛ بل لا بد له من كيفية إيمانية تحول هذا التصور من نظرة نظرية باهتة تزاحمها تصورات أخرى إلى فكرة تبلغ درجة الإيمان، تملأ القلب والجوانح، وتطلق الأعضاء والجوارح، وتأخذ بمجامع الألباب، فتقوى إرادة العمل وتنمو طاقة الفعل، ويتواصل الجهد وتتضافر الطاقات؛ لتثمر عطاءً ثقافيًا وتغييرًا حضاريًا.
قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 219- 220]، فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة، فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني، وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها.
ولا ينشئ تصورًا صحيحًا للأوضاع والقيم والموازين، فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر، وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدًا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح (1).
2- الإنسان:
الإنسان هو هدف الحضارة ووسيلتها، وهو محل الثقافة وحاملها، لذلك لا يُتخيل وجود حضارة لا تركز على الإنسان: اهتمامًا بواقعه، وتحسينًا لأحواله الصحية والتعليمية والمعيشية، وحلًا لمشكلاته واحترامًا لحقوقه الأساسية حتى ينشط للحركة ويتطلع للريادة ويعمل للتغيير.
إن المعيار الذي يمكن أن تقاس به الحضارات هو موقع الإنسان فيها، وتصورها عنه، وطبيعة القيم التي يلتزم بها ومدى احترامها لإنسانيته ومقوماتها.
إن الذين يسعون لاستيراد تصوراتهم عن الإنسان وحقوقه من الحضارة الغربية يقعون في خطأ كبير، ذلك أن الحضارة الغربية رغم ما أعطت الإنسان من تطور مادي ورفه معيشي فقد أخطأت في فهم الإنسان وطبيعته ومعرفة خصائصه؛ لأنها أسقطت الجانب الروحي فيه، وأبعدت الدين عنه نتيجة لصراعها مع الكنيسة، كذلك تمادت الحضارة الغربية في خطئها بعدم بحثها عن العلة الحقيقية في قلق إنسانها وإمعانها في إيجاد حلول مادية لملء الفراغ الروحي الحادث في مجتمعاتها.
أما العقيدة الإسلامية فقد جعلت الإنسان مدار الحركة التغيرية ومحورها، وأوكلت إليه مهمة التغيير والبناء، وكلفته بتحقيق الخلافة على هذه الأرض، ولفتت نظره إلى كيفيات التعامل مع الكون والحياة، واستغلال ما على ظهر الأرض واستخراج ما في باطنها، مستفيدًا من عنصري الزمن لإنتاج الحضارة واستعمار الأرض، حملًا لأمانة الاستخلاف وتحقيقًا للعبودية التي خلق لأجلها.
وهذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها.. سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية، وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية، إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق.. لأنها كلها سواء من صنع العمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده، ولا تلتزم- من ثم- بعهد الله وشرعه، ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه.
إن المسلم يرفض- بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق- كل منهج للحياة غير منهج الله، وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي، وكل وضع كذلك سياسي، غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده (2).
إن الرؤية الحضارية الإسلامية للإنسان تتمثل في إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، إذ إنها تنظر إلى الناس بمقياس واحد لا تفسده القومية أو الجنس أو اللون {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]، وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والناس بنو آدم وآدم من تراب» (3).
3- العلم:
إن مؤسسات التعليم والعمران والتزكية والحكمة والصناعة التي تعد كل أنواع القوة البشرية والمادية والمعنوية؛ لهي أهم مؤسسات النهضة التي تمثل الحاضنات لأفكار وعقائد وقيم الأمة المجسدة لها واقعًا وعملًا، والتي تخرج إنسان النهضة الصالح المصلح، وتنشئ مجتمع التراحم الإيماني، مجتمع العزة والكرامة الإنسانية والشهود الحضاري، والتي تعمل على إبداع والتقاط كل جديد يخدم غايات الأمة والغرض من إخراجها للناس.
إن هذا التخلف الذي نعانيه ليس ذاتيًا فينا، وليس أبديًا؛ فيجب أن نضع خطة للخروج من سجن التخلف، ويجب أن نفترض أن أول أسباب تخلفنا انتشار الأمية في بلادنا العربية والإسلامية وهذا أمر لا يليق، نحن أمة الكتاب وأول آية نزلت في كتابنا {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، وكُررت مرتين {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]، والقراءة مفتاح العلم، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]، والقلم هو أداة نقل العلم من فرد إلى فرد ومن أمة إلى أمة ومن جيل إلى جيل، والقرآن أقسم بالقلم، قال تعالى {ن ۚوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
ولا يمكن للمسلمين أن يستعيدوا ريادتهم الحضارية إلا بالعلم، وأهم ما يجب أن يتسلح به المسلم لبناء دور حضاري رائد من العلم هو ما يلي:
أ- العلم بواقعنا المعاصر: إذ إن واقعنا تسيطر عليه حضارات تمتلك رصيدًا ماديًا ضخمًا لكنها تعاني فراغًا روحيًا كبيرًا، يتطلب من المسلمين معرفة المدخل الحضاري المناسب لتقديم الحاجة المفقودة لاستعادة إنسانية الإنسان، وللتحول من الاهتمام بأشياء الإنسان وهي مهمة بلا شك إلى التوجه لترقية خصائص الإنسان وتحقيق سعادته، لأنه معيار الحضارة الحقيقي، ومن الأمور المهمة التي ينبغي علينا أن ندركها أن الوراثة الحضارية باتت لا تعني التعاقب أو التداول والنفي والإقصاء بعد ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا، بمقدار ما تعني القدرة على التحرك من داخل الحضارة لتغيير وجهتها، إذ لم تعد الحضارة حكرًا على أحد وإنما هي مشترك إنساني وإرث عام وتراكم معرفي، والأصلح هو الأقدر على تحديد وجهتها.
ب- التخصص في شُعب المعرفة: إن استعادة الريادة الحضارية لا يمكن أن تُتصور في غياب إشاعة التخصص الدقيق في شتى مناحي المعرفة، لأن التخصص قد غدا من فروض الكفاية، وهو متعيَّن فيمن تهيأ له ويؤدي إلى تقسيم العمل وتجويده وإحسانه وبلوغ الثمرة المرجوة منه.
ج- العلم بالسنن: فمعرفة سنن الله في النفس والمجتمعات عامل رئيس في الوصول إلى الشهود الحضاري، ذلك أن الله وضع للبشر سننًا من حفظها حفظته ومن ضيعها ضيعته، غير أن كثيرًا من المسلمين حولوا أنظارهم من اتباع السنن إلى خرقها، ومن التفاعل مع السنن الجارية إلى إضاعة الوقت والجهد في سبيل تخطيها، مثل: سنن التغيير، والتداول الحضاري، والتدرج، والتدافع، وسنن السقوط والبناء.
د- الاجتهاد الفكري: من الشروط الواجب توافرها لتحقيق الريادة الحضارية إطلاق النظر الاجتهادي من قيود الجمود والتقليد، وتوسيع دائرة الحراك الفكري على أوسع مدى واحترام التخصص والخبرة وتقديم أهل الخبرة والرسوخ.
ذلك أن الاجتهاد وتحريك العقول، وتوسيع دائرة الرأي والتشاور والتفاكر والتحاور مع الذات والحوار مع الآخر هو الذي يحرك رواكد الأمة، ويطلق طاقاتها المعطلة ويثير فاعليتها، ويشحذ همتها، ويذهب بغثائها ويثبت صوابها وينقلها من موقع التلقي والأخذ إلى موقع المساهمة والعطاء الحضاري.
ه- الوقت: الحضارة تُبنى بالاستغلال الأمثل للوقت وبحسن إدارته، ذلك أن إدارة الوقت من الحكمة التي عرَّفها ابن القيم بقوله: هي فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، ويكون الاستغلال الأمثل للوقت بالتخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة، اتخاذ القرارات (4).
4- العقيدة الفاعلة:
وهي في منطق الإسلام عقيدة التوحيد المستمدة من القرآن والسنة التي تؤهل الفرد والمجتمع للتفاعل مع الكون ومكونه، وتلبي أشواقه الروحية وتطلعاته الأخروية تنتج عنها ثقافة واحدة موحدة تجمع أبناء الأمة وتوجههم الوجهة الصحيحة تجاه غاياتهم النهائية الربانية المتمثلة في الخلافة الراشدة المحققة للعدل والحرية.
عقيدة تجعل المسلم يعرف موقعه من الكون وهدفه في الحياة وأثره في الوجود.
عقيدة نقية صافية تجعل المسلم يعبد إلهًا واحدًا لا إله غيره، ويكفر بكل المعبودات الأخرى التي يهلك في أوديتها الناس.
عقيدة واضحة سلسة لا مكان فيها للرموز والإشارات الباطنية والأسرار والخواص والكهنوت.
عقيدة تجعل المسلم يستحضر دينه وربه أمام ناظريه في كل عمل يقوم به، وكل خطوة يخطوها في هذه الحياة.
ووظيفة العقيدة الصحيحة هي تصحيح تصور الإنسان لإلهه، وتعريفه بالإله الحق الذي لا إله غيره، تعريفه بحقيقته وصفاته، لا تعريفه بوجوده وإثباته، ثم تعريفه بمقتضيات الألوهية في حياته- وهي الربوبية والقوامة والحاكمية- والشك في حقيقة الوجود الإلهي أو إنكاره هو بذاته دليل قاطع على اختلال بين في الكينونة البشرية، وعلى تعطل أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية فيها، وهذا التعطل لا يعالج- إذن- بالجدل، وليس هذا هو طريق العلاج (5).
5- الخلافة في الأرض:
وهو في منطق الإسلام الإنسان الخليفة المؤمن المجاهد في سبيل الله، فالحياة في الإسلام عقيدة وجهاد بالنفس والمال.
إنه إنسان النهضة الحامل لهذه العقيدة صاحب الإرادة الصادقة والعزيمة القادرة على العمل من أجل حمل لواء هذه الدعوة والإيمان بها وتبليغها وتحقيقها واقعًا في حياته الخاصة والعامة ونشرها بين بني الإنسان قاطبة؛ لأن الجميع مطالب بالقيام بهذا الدور الريادي، الخليفة في الأرض مما يدفع الناس جميعًا لاعتناق مبدأ المسئولية الجماعية في النهوض.
فمشروع النهضة يحتاج إلى جهد كل أبناء الأمة، بحيث يكون كل جهد مبذول أو عمل صالح أو علم ينتفع به أو خير يقدمه المسلم لغيره أو لأمته بمثابة اللبنة في جدار النهضة والإصلاح، وبالعكس فكل عمل من شأنه أن يكون ضارًا وسيئًا وغير نافع، فهو بمثابة نقض لهذا الجدار، أو بمعنى آخر نظرية الحبل المشدود والتي تشبه منظومة الإصلاح بحبل مجدول مكون من الملايين من الشعيرات الدقيقة، وإن كل مسلم يقوم بعمل صالح وجيد ونافع يضع شعيرة في هذا الحبل، وبالمقابل فإن كل عمل فاسد ومعصية أو يقصر في واجب عليه ينسل شعيرة من هذا الحبل، ويظل التنازع بين الإضافة والحذف حتى يصير الحبل إلى القوة والمتانة أو يصير إلى النحل ثم الانقطاع، وذلك أوضح تفسير للآية الفذة الجامعة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7- 8].
6- التجديد:
ونعني فيه التجديد الديني والدنيوي والخروج من ربقة التقليد الذي كان أحد أسباب الجمود والتخلف الحضاري، فالأمة التي تبحث عن النهوض، دومًا متجددة في دينها وأمور دنياها.
عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (6).
والاجتهاد في المنظومة الإسلامية مستمر ولا حدود له ضمن أصول الفقه وحدود القطعيات الشرعية لتجديد الدين والدنيا، ومواكبة العصر، والانفتاح على قضايا الإنسان في كل زمان ومكان، وفى جميع أحوال الرخاء والشدة، ملبيًا أشواق المجتمع الروحية مساندًا حاجاته المادية.
فالتجدد الديني والاجتهاد الشرعي لا يعرف الجمود ولا الإعنات، وهو كذلك لا يعرف الخلل والانفلات، فليس كل أحد يمتلك حق الاجتهاد في الدين والدنيا، فالعارفون والمتخصصون وحدهم من يملك هذا الحق وفق الضوابط والشروط التي وضعها أهل العلم، وإلا فالأمة قد واجهت كثيرًا من الدعوات المشبوهة للانسلاخ دينها باسم التجديد والاجتهاد.
7- التطهير والنقاء:
وذلك بالتوبة الدائمة، أفرادًا وجماعات، بحيث تتحول التوبة المطهرة من الآثام والأوزار إلى شعار المجتمع المسلم الذي يعلن أنه في مراجعة مستمرة لأعماله وأقواله، تجديدًا لإيمانه، وصولًا إلى أقصى حالات الرضا الإلهي؛ ليحافظ على ربانية توجهه، وحريصًا على تصويب الخطأ وتدارك النواقص.
والعصر الذي نحيي فيه الآن يتميز بكثير من التنوع والتداخل بين مكوناته وعناصره، مما جعل التعقيد هو السمة الرئيسية لهذا العصر، فجهات كثيرة ومتنوعة تعمل بصورة متضادة ومتقاطعة من أجل تحقيق مصالحها ومنافعها الخاصة، مما يجعل الكثير من التغييرات السلبية والسيئة تنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية، أبرزها شيوع النمط الاستهلاكي لدى قطاعات واسعة من الناس، والتركيز على المتع واللذات واللهث وراء فنون اللهو المتجددة.
ولن نتخلص من هذه السلبيات إلا بالمراقبة المستمرة واليقظة لنمط الحياة ونوعيتها، ورصد التغيرات السلبية فيها، وبلورة المعايير والمواصفات السوية للحياة الطيبة النافعة التي لا يحدث بها أمثال هذه المزالق والمطبات الأخلاقية والسلوكية التي حدثت في الأمم المتقدمة التي انتهجت سمت الحياة المفتوحة، وهذه الأمور لن تتم إلا عبر المحافظة على التوبة والجمع بين النصح والمراقبة، والوعي والإرشاد، والمقاومة والتصدي لكل وافد فاسد، ورصد الظواهر السلبية في المجتمعات المسلمة، مثل ظاهرة التدخين وتعاطي المخدرات، والإسراف في المباحات والملذات، والتفنن في إضاعة الأوقات وقتل الملكات، وإن رصد الواقع وقراءته عن طريق المسح والإحصاء، لهو من الأمور الهامة في القضاء على سمة الفساد في هذا العصر، والتي تعتبر من أكبر معوقات النهضة (7).
8- الشهود الحضاري:
ويقصد به وجود الأمة فكرًا أو علمًا وثقافة بكل ما تحتمله هذه المفاهيم من معاني في ساحة الحياة، فالإسلام لا يستعيد أمجاده الأولي إلا إذا استعادت أمته فقهها في علوم الأرض كما تستعيد فقهها في علوم السماء، وإلا إذا جودت شئون العمران كما تجود التفسير والحديث، إن هذه المعارف الضرورية لبناء الأمم وإقامة الحضارات فرائض مؤكدة، أسبق في حياة المسلم من نوافل الأذكار، والقراءات فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة.
فالمسلمون متخلفون في صناعة الدواء، وهم في هذا الميدان عالة على غيرهم من الأمم الشيوعية والصليبية، أتظن أنهم بعد هذا التخلف يسدون إلى دينهم أو إلي أنفسهم جميلًا، أم أنهم بهذا التخلف يهزمون مبادئهم ومثلهم العليا في أول معركة مع عدوهم؟
تصور أنهم متخلفون في ميدان الطباعة أتراهم يستطيعون السيطرة على وسائل النشر وإبراز الحقائق وإغراء ألوف القراء بمطالعتها أو الإقبال عليها؟
ونقصد من وراء ذلك أن تزدهر هذه المعارف وغيرها في المجتمع الإسلامي، وأن تبلغ براعة المسلمين في هذه الميادين حد التفوق، فإذا قورن بهم غيرهم في النواحي المدنية والعسكرية كانوا أرجح كفة وأهدي سبيلًا، وأماني المسلمين من غير عمل أو زعمهم في هذه المجالات من غير بذل وجد وعطاء وتضحية لا تفيدهم شيئًا؛ لأن سنن الله في كونه لا تغلبها المزاعم والأماني، ولا طريق لمجد الحياتين إلا أن تباشر كل عمل وهي تحس أن الله عليها شهيد، وأنها يجب أن تبلغ به مداه وفق ما شرع من وحي سماوي، أو وفق ما وضع من قوانين طبيعية.
9- الوحدة والترابط:
الوحدة مسبب من أسباب النصر، وعامل من العوامل التي تؤهل الأمة للازدهار، وهذه الأيام نحن أحوج ما نكون فيها إلى الوحدة والتواد، وأمامنا من المواطن التي نلتقي فيها صفًا واحدًا كثير من الأصول الثابتة، كما أن أمامنا مكر أعداء يودون لنا العنت ولا يألوننا خبالًا، ويري أن المسلمين وقعوا في هذا التشرذم والتفرق، وانقسموا في أرجاء الأرض على أكثر من خمسين دولة أو دويلة ليست لها في سياسة العالم وزن يذكر، ولا في توجيه شئونه رأي يسمع.
إن المسيحيين نسوا الحروب الدينية التي اتقدت نارها منهم خلال القرون الوسطي، وأخرجوا الخلافات الكبيرة التي تباعد بينهم أحيانًا في أصول العقيدة، وقرروا أن يلقوا أن يلاقوا الإسلام وأهله صفًا واحدًا وقوة مشتركة، والجامعة التي تلم شمل المسلمين لا تزال حلمًا، والصفاء الذي ينبغي أن ينير طريقهم لا يزال بعيدًا (8).
قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، ولا تغني الكثرة شيئًا مع الاختلاف؛ لأن الاختلاف لَا يكون فيه القوة على العدو، ولكن يكون بأسهم بينهم شديدًا، فحربهم على أنفسهم لَا على أعدائهم (9).
قال السعدي رحمه الله: ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجمع والصلوات الخمس والجهاد، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها وعدم التفرق (10).
----------
(1) في ظلال القرآن (1/ 231).
(2) في ظلال القرآن (4/ 2076).
(3) أخرجه الترمذي (3956).
(4) عوامل النهوض الحضاري/ إسلام ويب.
(5) في ظلال القرآن (3/ 1823).
(6) أخرجه أبو داود (4291).
(7) الأمة الإسلامية بين عوامل النهوض وأسباب السقوط/ ملتقى الخطباء.
(8) أسباب ازدهار الأمة في نظر الشيخ الغزالي/ مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.
(9) زهرة التفاسير (6/ 3091).
(10) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 754).