إنْ عليك إلا البلاغ
هذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مبلغ عن الله فقط، أما النفع والضر، والنصر والرزق، والحياة والموت فهذا لا يملكه أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
إن على الناصح إلا البلاغ المبين وهداية الدلالة، وأما هداية التوفيق فذاك أمر لا ينبغي لأحد من البشر، يدلك على ذلك أن خوطب خير البشر صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] وخوطب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
فالأصل أن يدعو إلى الإسلام، وأن يبدأ الداعية دعوته إلى توحيد الله عز وجل؛ تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تبارك وتعالى أول ما بعثه أمره بدعوة الناس إلى التوحيد، فلبث فيهم عشر سنين لا يسمعهم شيئًا إلا «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»(1)، وبعد عشر سنين كلفه الله تبارك وتعالى ومن آمن معه بالصلاة، كما هو معلوم.
فعلى دعاة المسلمين أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح، بلاغًا يقطع العذر، كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تقوم الحجة على الناس إلا بهذه الدعوة الصحيحة البينة الظاهرة، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، ويقول سبحانه: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، ولا يكون البلاغ مبينًا قاطعًا للعذر إلا إذا فهمه المدعو، وبأن يبلغهم بلغتهم التي يفهمونها(2).
والداعي إلى الله إن لم يتحقق هدفه الأول ويهتدي من يدعوه إلى الله تبارك وتعالى؛ فلا يظنن أن عمله قد ذهب سدى؛ بل قد أدى واجبه الحقيقي، وهو إقامة الحجة لله، وقطع عذر هذا المعاند أمام ربه يوم القيامة(3).
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164].
إن أهل القرية منهم من صاد السمك وأقدم على ذلك الذنب، ومنهم من لم يفعل ذلك، وهذا القسم الثاني صاروا قسمين: منهم من وعظ الفرقة المذنبة، وزجرهم عن ذلك الفعل، ومنهم من سكت عن ذلك الوعظ، وأنكروا على الواعظين، وقالوا لهم: لم تعظوهم مع العلم بأن الله مهلكهم أو معذبهم؟(4).
وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر ليكون معذرة، وإقامة حجة على المأمور المنهي، ولعل الله أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي(5).
ولو كان كل من دعوته استجاب لما كان لك الفضل في أن يستجيب الناس، إنما فضلك الذي ترجو ثوابه عند الله أن تتحمل، ومهمتك هي البلاغ، والمشكلة والغلط أنك تظن أنك إذا دعوت فيجب أن يسمع هذا، ويفهم الناس ذلك، فرسل الله عليهم الصلاة والسلام جميعًا ليس مهمتهم إلا البلاغ، ليس عليهم الهدى، بمعنى التوفيق والإلهام، أبدًا، لا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أفضلهم، ولا غيره من الأنبياء.
والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فمهمتك أن تبلغ، وحينما تبلغ لا يعني أنك تبلغ مرةً واحدة؛ بل تبلغ في كل حين، وليس مهمتك أن يهتدي الناس(6).
نعم، أنت أجير عند الله، كيفما أراد أن تعمل عملت، وقبضت الأجر، لكن ليس لك ولا عليك أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، ذاك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير، وحسبك أن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، ومعه الرجلان، والثلاثة، ويأتي من ليس معه أحد: {لَيْس عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272]، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48](7).
قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]؛ أي هذه هي مهمتك، فهذا كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] أو قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7]، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أو قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35] إلى غير ذلك من الآيات، فحصر مهمة الرسول بالدعوة، قد يموت الرسول أو الداعية ولم يستجب له أحد، ولم يغير من الواقع شيئًا يذكر، والنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان، فهذا لا يعني أنه فشل.
إن نجاحه في قيامه بما أوكل الله تعالى إليه، فإذا قام بدعوته فسواء استجاب الناس أو ردوا، صدقوا أو كذبوا، استطاع الرسول أن يقيم له دولة ودعوة، وأن يتبعه الناس، وأن يتغلب على أعدائه، فهذا من فضل الله، وإن لم يستطع فهذا قضاء الله وقدره، والدنيا ليست مقياسًا، ولهذا الله تعالى في هذا الموضع وقبله أيضًا يقول: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41](8).
والآيات في هذا المعنى مستفيضة؛ بل إنها من أكثر المعاني تكرُّرًا في القرآن:
قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20].
وقوله سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
وقال جل شأنه: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99].
وقوله: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
وقوله: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12].
وهذا الأمر مع وضوحه البالغ فإن البعض ينصرف عنه جهلًا أو تجاهلًا، فتراه لا يكتفي بالبلاغ، الذي لا يمكن أن نسميه بليغًا؛ بل يريد أن يأطِر الناس على الدين أطرًا، ويحملهم عليه حَملًا، بأية وسيلة كانت، وهؤلاء، وإن كان محمودًا لهم حرصهم، فقد أتوا البيوت من غير أبوابها.
وربما دفعه حرصه هذا على تجاوز حد الرحمة بالناس، فليعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس بالناس، وأن أهل السنة في الخلق هم أرحم الناس بالناس، وأن أرحم الناس من يرحم من لا يرحم نفسه.
إن الناصح ليستريح ويطمئن نفسًا، ويهنأ بالًا إذا أيقن أنه مأجور على البلاغ لا على النتيجة، وليعتبر بأنصح البشر (أنبياء رب البشر)؛ إذ يأتي أحدهم يوم القيامة وليس معه أحد، لا عن تقصير في البلاغ، وإنما عن إرادة رب القلوب.
وثمة معنيان حقيقان بالتذكر والتفكر؛ أولهما: أن البلاغ، وإن أطلق، فالمقصود به البلاغ المبين، وهو الذي تقوم به الحجة، وتتضح به المحجة، فليس كل من تحدث بلغ، وليس كل من ارتقى الـمنبر وعظ.
وأما المعنى الثاني: فإن من تمام البلاغ أن يكون الناصح الداعية متحققًا بصفة: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، ومن علامة ذلك ألا ينفك يدعو الله للناس، كل الناس، بالهداية والتوفيق، ومن أخص علاماته أن يحب لهم ما يحبه لنفسه من الخير، وإن جاءهم من طريق غيره، وإن أحب أن يكون من طريقه فليس إلا لما فيه من الأجر لا أن ينسب إليه الفضل، فالفضل أولًا لـمن أقامه على طريقة الأنبياء، والفضل ثانيًا لـمن وضع له القبول وجنبه الإعراض والجفاء، والفضل آخرًا لمن أجزل له المثوبة والجزاء.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} «أي: البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، وما عدا هذا، من آيات الاقتراع ومن سرعة العذاب، فليس إلينا، وأن وظيفتنا هي البلاغ المبين، قمنا بها، وبيناها لكم، فإن اهتديتم فهو حظكم وتوفيقكم، وإن ضللتم فليس لنا من الأمر شيء»(9).
من مقتضيات البلاغ المبين:
أ- عدم التقصير في البلاغ: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، يقول القرطبي رحمه الله: «وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم وتأديب لحملة العلم من أمته، ألا يكتموا شيئًا من أمر شريعته»(10).
ب- توفر عنصر الوعي لدى المبلغ: قال صلى الله عليه وسلم: «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها، فرّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه...»(11)، استفاد الخطابي من هذا الحديث كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي بالفقه، وعلى هذا فإن الوعي يكون بحفظ النص وأدائه كما قيل، ويكون للفقيه بمحافظته على المعاني المستفادة.
ج- ومن مقتضيات البلاغ المبين البلاغة: وتتضح البلاغة المقصودة في قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، ويقصد بها أن يكون الكلام حسن المعاني، واضحًا في ألفاظه، مع تجنب وحشي الكلام وغريبه، ولا يقصد بالبلاغة التكلف والتشدق والتفيهق، فهذا مخالف لمنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، فقد مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤلف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف؛ بل كانوا يلقون الكلام على عواهنه، ولا يبالغون كيف في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس(12).
د- ومن فقه البلاغ المبين كراهة الخوض فيما لا ينبني عليه عمل: يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعًا، والدليل على ذلك استقراء الشريعة، فإنا رأينا الشارع يُعرِض عما لا يفيد عملًا مكلفًا به، ففي القرآن الكريم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فوقع الجواب بما يتعلق به العمل.
ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال؛ لأنه مظنة السؤال عما لا يفيد، وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل.
ويترتب على ذلك: أن العلم الشرعي وسيلة إلى عبادة الله، وذلك أن روح العلم هو العمل، وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، قال سفيان الثوري: (إنما يتعلم العلم ليُتَّقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره لأنه يُتقى الله به)»(13).
وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصودًا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل.
هـ- وعلى المبلغ تحديد الهدف من بلاغه بدقة: والبدء بالمهم فالأهم، وأن يعرف كيف يبدأ، وما هو مضمون دعوته، وأن يعرف رسالته بدقة، فالرسالة رسالة إحياء وبعث، ولن يتم الإحياء إلا بتصحيح مفهوم العقيدة، وتصحيح مفهوم التوحيد بمعناه السلفي الشامل، توحيد الأئمة وسلف الأمة، وأن يدعو الناس على أن يقيموا حياتهم على قبول شرع الله ورفض ما سواه.
و- ومن مقتضيات البلاغ المبين كذلك: إيجاد (واقع) دعوي يؤمن بفكرة الداعية لا بشخص الداعية، وغني عن القول أن نذكر أن فكرة الداعية حتمًا وأن تكون نابعة من أصول وتصورات أهل السنة والجماعة...، فالداعية حين يجد من يؤمن بفكرته وتصوره تزداد همته، ويزداد وضوح الفكرة في قلبه وعقله، ويزداد إقبال الناس على الأفكار لوجود (واقع) عملي لها.
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ينادون كل صاحب سُنة ويدعونه إلى إقامة (واقع) له على منهج أهل السنة والجماعة، فروى ابن وضاح عن غير واحد أن أسد بن موسى المسمى (أسد السنة) كتب إلى أسد بن الفرات: «اعلم، أي أخي، أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدعة، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم.
فاغتنم ذلك وادع إلى السنة؛ حتى يكون لك في ذلك فئة وجماعة يقومون مقامك إن حدث لك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة».
فإن نجاحنا في الإقلاع بالأمة مرهون بمدى أدائنا للبلاغ المبين الواضح الناصع القوي الواسع الانتشار، وذلك أداء لأمانة الدعوة(14).
أما حين يستجيب المدعوون للدعوة، ويقبل الناس على الإسلام؛ فعلى الداعية تعليمهم دينهم، والسعي لتطبيق هذا الدين في حياتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع من استجاب له في مكة المكرمة؛ حيث كان يجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم ليعلمهم دينهم ويزكيهم، وكما كان يفعل إذا أسلم شخص عنده، فيقول لأصحابه: «فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن».
ولقد قَصَر بعض إخواننا الدعاة عملهم على جانب حتى عُرفوا به، ظانين أنه عمل الأنبياء فحسب؛ بل نظر بعضهم إلى غيرهم من الدعاة الذين يعنون بالعلم والتعليم، أو بالتطبيق والتنفيذ نظرة استخفاف ونقد، كما نظر بعض المعتنين بالعلم والتعليم، أو التنفيذ والتطبيق لأولئك المبلغين نظرة استخفاف أيضًا، فوجهوا لهم النقد الشديد في توجههم ودعوتهم، دون أن يفهم بعضهم بعضًا، ويقدر بعضهم قدر بعض؛ مما زاد المسلمين بعدًا وفرقة.
ولو علم هؤلاء وهؤلاء أنه يسع الداعية أن يعمل في الميدان الذي يختاره، والعمل الذي يناسبه من أعمال الدعوة، مراعيًا في ذلك إمكاناته واستعداداته من جهة، أو مقدمًا أولوية على غيرها في نظره من جهة أخرى، على ألا يقصر مفهوم الدعوة الإسلامية على عمله واختياره، أو ينظر إلى من خالفه في ذلك نظرة ابتداع أو خروج عن عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فالميدان الدعوي واسع، وجوانب العمل متعددة، والمسئولية أكبر من أن تقوم بها جماعة من الجماعات، والثغرة أوسع من أن يسدها عمل من الأعمال،
فلو علم الطرفان هذه الحقيقة، وفهموها فهمًا متوازنًا، لشكر بعضهم جهد بعض، ونظر كل طرف إلى العاملين الآخرين في أي مجال دعوي نظرته إلى أعوانه وشركائه.
ولا نستطيع أن نصـل إلى مثل هذا التوازن، في النظرة إلى الآخرين، إلا إذا فهمنا الدعوة الإسلامية فهمًا واسعًا شاملًا لجميع أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم.
المدخل إلى علم الدعوة:
{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، وهكذا تتجلى طبيعة الرسالة وحدود الرسول، إنما هو منذر, ليس عليه إلا البلاغ، وليس له إلا أن يتلو ما أوحي إليه, وما كان له أن يأتي بخارقة إلا بإذن لله، ثم هو عبد لله, الله ربه, وإليه متابه ومآبه; وهو بَشَر من البشر؛ يتزوج وينسل، ويزاول بشريته كاملة بكل مقتضيات البشرية; كما يزاول عبوديته لله كاملة بكل مقتضيات العبودية.
وبهذه النصاعة الكاملة في العقيدة الإسلامية تنتهي تلك الأوهام والأساطير المهومة في الفضاء والظلام, حول طبيعة النبوة وطبيعة النبي, وتخلص العقيدة من تلك التصورات المحيرة، التي حفلت بها العقائد الكنسية، كما حفلت بها شتى العقائد الوثنية؛ والتي قضت على المسيحية، منذ القرن الأول لها أن تكون إحدى العقائد الوثنية في طبيعتها وحقيقتها, بعد ما كانت عقيدة سماوية على يد المسيح عليه السلام; تجعل المسيح عبدًا لله; لا يأتي بآية إلا بإذن الله.
إن أمر هذا الدين ليس إليه صلى الله عليه وسلم, ومآل هذه الدعوة ليس من اختصاصه! إنما عليه البلاغ وليس عليه هداية الناس، فالله وحده هو الذي يملك الهداية، وسواء حقق الله بعض وعده له من مصير القوم أو أدركه الأجل قبل تحقيق وعد الله, فهذا أو ذاك لا يغير من طبيعة مهمته (البلاغ)، وحسابهم بعد ذلك على الله، وليس بعد هذا تجريد لطبيعة الداعية وتحديد لمهمته، فواجبه محدد، والأمر كله في هذه الدعوة وفي كل شيء آخر لله.
بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله، إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر، ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس, ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمهتدين وللمكذبين، ليس لهم أن يقولوا: لقد دعونا كثيرًا فلم يستجب لنا إلا القليل; أو لقد صبرنا طويلًا فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء، إن عليهم إلا البلاغ، أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد، إنما هو من شأن الله، فينبغي، تأدبًا في حق الله واعترافًا بالعبودية له، أن يترك له سبحانه, يفعل فيه ما يشاء ويختار،
والسورة مكية، من أجل ذلك تحدد فيها وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، ذلك أن الجهاد لم يكن بعد قد كُتِب، فأما بعد ذلك فقد أُمِر بالجهاد، بعد البلاغ، وهذا ما تنبغي ملاحظته في الطبيعة الحركية لهذا الدين.
فالنصوص فيه نصوص حركية، مواكبة لحركة الدعوة وواقعها، وموجهة كذلك لحركة الدعوة وواقعها، وهذا ما تغفل عنه كثرة الباحثين في هذا الدين في هذا الزمان، وهم يزاولون البحث ولا يزاولون الحركة، فلا يدركون، من ثم، مواقع النصوص القرآنية, وارتباطها بالواقع الحركي لهذا الدين.
على أن البلاغ يظل هو قاعدة عمل الرسول, وقاعدة عمل الدعاة بعده إلى هذا الدين، وهذا البلاغ هو أول مراتب الجهاد، فإنه متى صح, واتجه إلى تبليغ الحقائق الأساسية في هذا الدين قبل الحقائق الفرعية؛ أي متى اتجه إلى تقرير الألوهية والربوبية والحاكمية لله وحده منذ الخطوة الأولى; واتجه إلى تعبيد الناس لله وحده، وقصر دينونتهم عليه وخلع الدينونة لغيره، فإن الجاهلية لا بد أن تواجه الدعاة إلى الله, المبلغين التبليغ الصحيح بالإعراض والتحدي, ثم بالإيذاء والمكافحة، ومن ثم تجيء مرحلة الجهاد في حينها, نتاجًا طبيعيًا للتبليغ الصحيح لا محالة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]، هذا هو الطريق، وليس هنالك غيره من طريق.
فلما كان التحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجًا لبيان الحكمة في ذلك بينت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس، وليس ذلك لغير الله من الناس، فما عليك إلا البلاغ؛ أي فلا تيأس من هدايتهم، ولا تتجاوز إلى حد الحزن على عدم اهتدائهم؛ لأن العلم بمن يهتدي ومن يضل موكول إلى الله، وإنما عليك التبليغ في كل حال، وهذا قول فصل بين فريق الحق وفريق الباطل(15).
وذهب الجمهور إلى أن معناه: وإن لم تبلغ جميع ما أُنزل إليك من ربك بأن كتمت بعضه، فكأنك لم تبلغ منه شيئًا قط; لأن كتمان البعض ككتمان الجميع، فهو من قبيل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْر نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَل النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32](16).
ولا يشترط في المغير أن يتيقن أن تغييره المنكر مفض إلى أثر، في من يغير منكره، فليس عليه أن ينظر تقبل وعظه، أو الاستجابة لأمره ونهيه، فإن الله عز وعلا ما كلفنا أن يكون لدعوتنا أثر في الآخرين: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى:48](17).
تبليغ الدعوة واستقصاء مجالات النصح الصادق له دور في تمكين دعوة الحق، وإهلاك أعدائها فقط دون غيره، ولقد ذكر القرآن عدة أمم لم يجاهدوا ولم يفعلوا شيئًا تجاه الكفار إلا البلاغ والمداومة عليه حتى أهلك الله أعداءهم؛ مثل أمة نوح المؤمنة، وأمة صالح وهود عليهم الصلاة والسلام(18).
أولًا: يجب أن تعلم أولًا أن فعل الغير لا تكليف به، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى, فهذا نوح عليه السلام ما ضره كفر ابنه وزوجه، ولوط عليه السلام ما ضره كفر زوجه، وإبراهيم الخليل عليه السلام ما ضره كفر أبوه؛ بل ولا يخفاك كفر أبي طالب، الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأنه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، ولقد كان فرعون أعتى أهل الأرض وأبعده، فوالله، ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها، لِتعْلم أن الله حَكَمٌ عدل، لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه.
ثانيًا: على المسلم النصيحة والبلاغ، أما الهداية فهي على الله، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}.
ثالثًا: يجب أن تعلم أن إثم ترك الاحتساب الواجب المتعين شيء، ومخالفة وإثم المحتسب عليه شيء آخر, فمعصية العاصي شيء ومداهنة العاصي شيء آخر, ومجرد السكوت على المنكر لا يعد إقرارًا لصاحبه بإطلاق، حتى ولو أثم الساكت لتفريطه مع القدرة وكانت المصلحة في الإنكار، فإنه لا يكون له حكم فاعل المنكر من كل وجه, علمًا بأن الإثم يكون بالرضى بالمنكر أو بالمتابعة عليه.
رابعًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث العموم واجب، لكن من حيث الأفراد قد يكون واجبًا وقد لا يكون؛ ولذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الزائد عن الإنكار القلبي، لا يكون واجبًا إلا في حال واحدة مشروطة بستة شروط مجتمعة:
أولاها: أن يكون المأمور به واجبًا أو المنهي عنه محرمًا، أو يكون المأمور به مستحبًا وتواطأ أهل بلد على تركه، أو يكون المنهي عنه مكروهًا وتواطأ أهل بلد على فعله.
وثانيها: رجاء النفع؛ أي أن تكون مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعظم من مفسدته.
وثالثها: ألا تخشى الضرر على نفسك أو على غيرك، وليس كل ضرر يكون معتبرًا في إسقاط الوجوب عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاللوم اليسير لك، والوقوع في عرضك بالغيبة، ولمزك أمام أحد من الناس، وتجهيلك أو تحميقك ونحو ذلك لا ينبغي أن يصرفك شيء من هذا عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ورابعها: أن يكون المنكر ظاهرًا للمحتسب بغير تجسس، أو يكون المنكر مستترًا لكن ضرره متعدٍ(19).
تحديد مهمة الرسل جميعًا، وهي القيام بالبيان والبلاغ، قال سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، فكانت وظيفة الرسل العظمى البلاغ عن الله، وإعلام الخلق بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، قال سبحانه: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وهكذا كان شأن النبي عليه الصلاة والسلام أيضًا، قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، فالبيان والإبلاغ محور مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام التي أُمِر بها، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فقام عليه الصلاة والسلام بالتبليغ حق قيام، وأوضح دعوته أتم توضيح وبيان(20).
***
___________
(1) أخرجه ابن خزيمة (159).
(2) أصول الدعوة، جامعة المدينة، ص176.
(3) الأصول العلمية للدعوة السلفية، ص43.
(4) مفاتيح الغيب (15/ 392).
(5) تيسير الكريم الرحمن، ص307.
(6) دروس للشيخ صالح بن حميد (78/ 25)، بترقيم الشاملة آليًا.
(7) دروس للشيخ علي القرني (32/ 68)، بترقيم الشاملة آليًا.
(8) دروس للشيخ سلمان العودة (123/ 40)، بترقيم الشاملة آليًا.
(9) تفسير السعدي، ص694.
(10) تفسير القرطبي (6/ 242).
(11) أخرجه أحمد (16754).
(12) دروس للشيخ سلمان العودة (9/ 25)، بترقيم الشاملة آليًا.
(13) الموافقات، ص77.
(14) رؤية في مسيرة العمل الإسلامي، مجلة البيان (العدد:155).
(15) التحرير والتنوير (14/ 333).
(16) تفسير المنار (6/ 387).
(17) فقه تغيير المنكر، ص100.
(18) عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين، ص206.
(19) فقه الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص5.
(20) صور الإعلام الإسلامي في القرآن الكريم، ص54.