السنن الإلهية والإيمان بالله تعالى
لا شك أن هناك علاقة وطيدة وعروة وثقى بين السنن الإلهية والإيمان بالله سبحانه وتعالى، فللسنن الإلهية ارتباط وثيق بالإيمان بالله وقدرته على الخلق، وحكمته في التعامل معهم، وبالإيمان بالغيب وما لا يعلمه إلا الله تعالى، من علم الساعة ونزول الغيث والرزق والموت، وغيرهم من مفاتح الغيب، وبالإيمان بالرسل وسنن الله مع أعدائهم وأوليائهم، والإيمان بالقدر الذي قدره الله تعالى على خلقه.
وهذه السنن والقوانين هي وفق إرادة الله ومشيئته النافذة، ولذلك لا تختل، ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، ويعلمنا القرآن الكريم أن للتقدم قوانينه وسننه، وأن التخلف والتأخر ليسا إلا ثمرة لغياب هذه السنن والقوانين، فليس التقدم أماني وأحلامًا للكسالى والقاعدين، حتى لو حسنت منهم النيات، وصحت لديهم المعتقدات النظرية، فحتى الإيمان الديني لا يكتمل إلا إذا جاء العمل ليجسد التصديق، وشواهد القرآن الكريم على هذه الحقيقة تتعدى اقتران الإيمان بالعمل في آياته الكريمة الكثيرة –وهو ملحظ له دلالته الكبرى– وإنما نرى هذه الشواهد في مثل قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 123 [(1).
إن معرفة هذه السنن جزء من معرفة الدين، وهي معرفة ضرورية، ومن الواجبات الشرعية؛ لأنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ، ثم إن اكتشافها وحسن التعامل معها ضروري لعملية الاستخلاف وعمارة الأرض التي كلفنا الله تعالى بها، والعصبة المؤمنة مأمورة باكتشافها وحسن التعامل معها، فهذا ذو القرنين الملك المؤمن يسر الله له أسباب التمكن والملك والسلطان، فسلك الطريق الذي يسره الله له {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} [الكهف: 84- 85].
ولما كانت السنن الإلهية طويلة المدى في تحققها وجب علينا ألا نستخرج النتائج خلال جيل أو جيلين؛ لأننا سنقع في أخطاء منهجية، لهذا وجهنا الله سبحانه وتعالى إلى تدبر التاريخ، واستخراج العبر منه؛ إذ التاريخ هو المجال الواقعي الذي تحققت فيه السنن الربانية من قبل، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: ٢٠].
ومرجع ذلك أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
فلله في الأفراد سنن، وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن، والسنن تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من نتائج كالنصر أو الهزيمة، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].
قال الشيخ ابن باديس: لله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم: يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت به وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل، وسعادة وشقاء، وشدة ورخاء، وكل محاولة لصدها عن غايتها - وهو آخذ بها- مقضي عليها بالفشل (2).
الأوامر الكونية والأوامر الشرعية:
الله عز وجل هو الذي خلق المخلوقات كلها، وهذه المخلوقات كلها تحتاج إلى أوامر، والذي ينزل من الله عز وجل من الأوامر نوعان: أوامر كونية، وأوامر شرعية، وأوامر الله الكونية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أمر الإيجاد، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالإيجاد والخلق والتكوين، وبسببه أوجد الله الكون وما فيه من المخلوقات كالعرش والكرسي، والسماء والأرض، والملائكة والروح، والشمس والقمر، والنجوم والكواكب، والجماد والنبات، والإنسان والحيوان، وغير ذلك من المخلوقات التي لا يحصيها ولا يعلمها إلا الله وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102].
الثاني: أمر البقاء، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات بالبقاء، وبسببه تبقى الكائنات كلها بأمر الله، ولولا أمر الله بالبقاء لزالت جميع الكائنات كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25].
الثالث: أمر الحركة والسكون، والحياة والموت، والنفع والضر ... إلخ، وهو متوجه من الله إلى جميع المخلوقات، فجميع المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمره كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22].
وقال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26- 27].
وجميع المخلوقات لا تنفع ولا تضر إلا بأمره كما قال سبحانه: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف: 188].
والإحياء والإماتة بيد الله، فلا يحصل منها شيء إلا بأمره: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [غافر: 68].
وهذه الأوامر الإلهية لا بد من وقوعها كما أراد الله، فالله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، سبحانه هو الواحد القهار: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
وأما الأوامر الشرعية فهي الدين: وهو موجه من الله إلى الثقلين: الإنس والجن، ويتم ذلك بواسطة الأنبياء والرسل.
والأوامر الشرعية ثلاثة أقسام هي:
العبادات، المعاملات، الأخلاق، ومن الناس من يقبله فيسعد في الدنيا والآخرة، ومنهم من لا يقبله فيشقى في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} [البقرة: 38- 39].
والإيمان يزيد بامتثال الأوامر، والقيام بالأعمال، فإذا زاد الإيمان صار المبغوض محبوبًا، وصار الثقيل خفيفًا، وتحقق مراد الله من العبد بالدعوة والعبادة لربه، واطمأن بذلك قلبه، وتحركت بذلك جوارحه (3).
وظائف السنن الإلهية:
1- وظيفة هدائية:
يقول الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138)} [آل عمران: 137- 138].
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض، يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور، فهم ليسوا بدعًا في الحياة؛ فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها وأدركوا مغازيها؛ تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.
والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي: عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ومداولة الأيام بين الناس، والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين (4).
وعليه فإن من وظائف السنن الإلهية هداية البشرية إلى الطريق المستقيم، وإلى المسلك الصحيح لعبادة الله تعالى والنهوض بأمانة الاستخلاف في الأرض، ذلك بأن الإنسان المستخلفَ في الأرض، يجب عليه أن يبحث عن كل الأسباب التي تجعله أهلًا لهذه الخلافة، وأول هذه الأسباب وأعظمها هو أن يحقق العبادية الكاملة لله تعالى التي يتوقف عليها مصير الإنسان الأخروي، بل هي شرط لتحقيقِ الإنسانِ لأعلى درجات حريته وكرامته وإنسانيته، قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ذلك بأن معرفة الإنسان بهذه السنن الإلهية التي تحكم الحياة البشرية؛ والوقوف على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم والجماعات والحضارات، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، وحصدها قانونه على غفلة من الناس، تملأ قلبه إجلالًا وتعظيمًا وتوقيرًا لله جل في علاه، فيقبل على ربه فيعبدُه حبًا وخوفًا ورجاء.
2- وظيفة تربوية:
يقول الله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 141- 142].
هذا وإن وظيفة السنن التربوية تتجلى في تربية الإنسان، وتصحيح أخطائه، وإرجاعه إلى الصوابية، والأخذ بيده إلى السداد والتوفيق، فضلًا عن الترغيب في سنن الخير والسعادة، والترهيب والتحذير من سنن الشر والشقاوة، علاوة على إرشاد البشر وتعريفهم بطريق النجاة والفلاح، حتى ينتهجوا سنن الصلاح، ويبتعدوا عن سنن الضلال والهلاك.
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض.
وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب «الإنسان» الذي استخلفه في هذا الملك العريض! وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع.. يمضي أحيانًا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها- في ظل العون الإلهي- وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله.. ويمضي أحيانًا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة، فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله، وتجرب مرارة الهزيمة وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحق المجرد وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة.. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد، ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد (5).
هكذا فإن السنن الإلهية تُلهم الناس طريق الصلاح في الأرض، ذلك بأن وظيفتها الأساس هي العملُ على إصلاح المجتمع البشري أدبيًا وماديًا، والسعي لتطهيره من كل الشوائب والآفات، حتى لا يبقى فيه أثر للمساوئ والمعايب، وبذلك يتفادى الوقوعَ في الكوارث والنوائب والأزمات، ويصبح مجتمعًا صالحًا، جديرًا بأن يوصف بكونه إنسانيًا، لأنه ينهج نهجًا أخلاقيًا قيميًا ربانيًا.
3- وظيفة إيمانية:
إن السنن الإلهية تقود الخلق إلى توحيد الخالق، فالسنن الكونية تدل على وحدة الصانع المبدع الخالق لهذا الوجود، في نظام بديع ومحكم.
والسنن الإنسانية والهدائية التي تحكم حركة الإنسان في الحياة الاجتماعية والنفسية تقود الإنسان إلى وحدة المعبود، من خلال اتعاظه واعتباره بهذه السنن واستهدائه بهداياتها، وعمله بمقتضاها، وتصديقه وإيمانه بما شرعه الله من سنن هدائية توجه سيره في مسيرته في الحياة، وتضبط سلوكه وحركته.
إن إدراك العلاقة بين البعد الإيماني والغيبي، والسنن التي تحكم عالم الشهادة، وأهمية البعد الإيماني في الهداية إلى هـذه السنن، والتفاعل الذي يحدثه الإيمان بين هـداية السماء واستجابةِ الأرض لتحقيق الشهود الحضاري، وربط نتائج ذلك بقضية الإيمان وانتظام السنن.. يقود إلى الإيمان بالله تعالى، ويدفع الفرد إلى الإنجاز والعمل الصالح.
ذلك بأن الإنسان بمعزل عن السنن سيغفل عن أسرار الكون وظواهره ذات المعنى الإنساني، ويتناسى مقومات التسخير واستجابة الكون المعطاءة له، ويتناسى دفع الله له فعليًا وحضاريًا من داخل حركته في الحياة، ويتناسى خلقه المتكافئ مع مقومات الوجود باعتباره هو نفسه خلقه الله مكرمًا وفي أحسن صورة، ويتناسى أن فعله قائم على قدرة إلهية محفزة ومهيئة، يتناسى كلّ ذلك ويركن إلى قوة عمله ويضعها مقابل الكون، فيخسر المعنى الحقيقي لوجوده وتجربته، حيث يرد الأمر كلّه إلى مطلقه الذاتي، فيختصر نفسه في حدود الموضع الضيق قياسًا إلى الاتساع الكوني بكل أبعاده وفعاليته الوجودية الذي سخره اللهُ للإنسان، فتفقد القيم الإنسانية المقابلة للنسيج الكوني في كليته معانيها الخُلقية، ويفقد الإنسان معناه الإنساني، ويتحول إلى وحدة بيولوجية متعددة الخصائص في حدود ما تعطيه تجربة المكان من توجهات غريزية بحتة.
يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، ذلك بأن الوعي السنني لا يقف عند حدود معرفة سنن الله في الأنفس والكون والمجتمعات، بل يتجاوزها إلى ما بعد السنن من حكمة الحكمة ومقصد المقاصد، وتدبير الحكيم العليم، ومشيئته النافذة في خلقه، وقدرتِه العظيمة في التصرف في الكون وتنظيم شؤونه.. لنعرفه بها معرفة تزيدنا منه قربًا وله حبًّا، ونوحدَه ونعبده وحده مخلصين له الدين.
إن الله تعالى دعا الناس كثيرًا أن ينظروا في هذا الكون ليقفوا على سننه ويستثمروها في حياتهم، وحضهم بقوة أن يقرؤوا صحيفة هذا الوجود ليصلوا من الكون إلى مكونه وليستدلوا بالوجود على موجده ولينتفعوا أبلغ انتفاع بتلك القوى العظيمة التي خلقها لأجلهم وسخرها لنفعهم قال تعالى في سورة الجاثية: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية: 12- 13](6).
4- وظيفة اجتماعية حضارية:
إن فقه السنن الإلهية لا يشكل لنا الوقاية من الأزمات الاجتماعية والحضارية فقط، وإنما يشكل دليلًا هاديًا في إدارة الأزمات، واكتشاف عوامل البناء الثقافي والفكري والعمراني للأمة في سائر مراحلها التاريخية، وفي جميع عصورها.
ومن ثم فإن الأمة بما أتاح لها الوحي من سنن النهوض قادرة على تجاوز مشكلاتها وتحدياتها، واستشرف مستقبلها، وبناء عمرانها الحضاري، إن هي وعت هذه السنن وسخرتها وعملت بمقتضاها، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
ومن ثم تتجلى الوظيفة الاجتماعية الحضارية لفقه السنن في حماية رحلة الإنسان من الخلل والخطأ والانحراف، وامتلاك الرؤية على تصويب الخلل وتجنب الإصابات، واكتشاف أفق جديد للنهوض الحضاري للأمة، فضلًا عما تمدنا به من فقه سديد للتعاطي مع الأزمات واقتحام العقبات، وفهم الظواهر النفسية والاجتماعية والكونية.
أضف إلى ذلك أننا بفقه السنن الإلهية نعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف والانحطاط والتخلف والدمار، على أن هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذًا أتى بالأمر واجتنب النهي، ووقف عند حدود الله، أصاب خير السنة الربانية، إذا أهمل الأمر وخالفه، وارتكب النهي عنه، ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية.
وهكذا تنقلنا السنن الإلهية من الهداية الفردية إلى الفعل الحضاري:
أي تجعل قراءتنا لكتاب الله المسطور (القرآن الكريم) مقترنةً بقراءة كتاب الله المنشور (الكون) بمختلف أبعاده ومكوناته، إذ إن هذا الكون هو مجال تطبيق الهداية البشرية ومحور الاستخلاف والعمران الذي يهدف إليه القرآن الكريم، فكل قراءة للوحي منفصلة عن العلوم الكونية (سنن الكون) ستؤدي إلى الانفصام بين الدنيا والآخرة، ومن ثم إلى تعطيل مهمة الإنسان في الكون، فتكون الهداية المحصَّلة منغلقة عن الذات، أنانية، مخالفةً للهداية القرآنية المنفتحةِ التي تعطي ثمارها الطيبة للإنسانية جمعاء.
هذا ومن شأن هذه السنن الإلهية أيضًا أن توقفنا على دعائم النهوض الحضاري للأمة ومقوماته، وعوامل التمكين وأسبابه، وأن تساعدنا على إدراك المقاصد وإبصار الحلول وتحصيل المؤهلات وامتلاكِ وسائلِ النجاح في مسيرتنا العمرانية، ومن شأنها أن تمكننا من تصويب الحاضر وإدراك أسباب تغيير المجتمع والرقي به للاهتداء إليها والاتعاظ بها لمعالجة أمراضنا وبناء مستقبلنا.
5- وظيفة تنبؤية:
يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إن الوظيفة التنبؤية للسنن تتجلى في بناء توقعات مستقبلية تستند إلى المقدمات والأسباب، فضلًا عن أهميتها في التخطيط للمستقبل، وصناعة القرارات.
وإذا كان الوحي يفيدنا في معرفة الواقع والماضي، فكذلك يفيدنا في معرفة المستقبل، وبالتنبؤ بما سيكون عليه الكون، سواء أكان ذلك في الآفاق أم الأنفس أم المجتمع.
عن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم» (7).
ومجمل القول: إن الوظيفة الكبرى للسنن هي تمكين الإنسان من القيام بمَهمة إعمار الأرض، وأداء واجب الاستخلاف الذي كلف به بموجب آيات الاستخلاف والعهد والميثاق، وتحقيق العبادة الكاملة الخالصة لله تعالى (8).
سُنن الله تعالى وإرادته وأقداره:
وإذا كان القدَر مجموع الأوامر ومجمل الأحكام الإلهية التي وقع تقديرها وحسابها ووضعها ضمن خطة مضبوطة قيامًا لوظيفة الخلافة الربانية، فإن استيعاب الخطة وتنفيذها وتجسيدها على أرض الواقع بمراحلها المختلفة لا يتم إلا عبر مستلزمات، هذه المستلزمات هي السنن الإلهية.
من هذا المنظار يمكن تشبيه العلاقة بين القدر والسنن الإلهية بمصطلحين معاصرين: الفكرة والتصميم، الفكرة هي المرادف المشبه للقدَر، والتصميم هو المرادف المشبه للسنن الإلهية.
صاحب المشروع والمخطط له: الحق تعالى، ومصمم المشروع ومهندسه: الحق تعالى، والتصميم: مجموع السنن الإلهية التي تستوعب المخطط، وبها يكون التنفيذ على أحسن وجه.
هذا إذا نظرنا إلى مسألة السنن الإلهية من زاوية مشروع الخلافة الربانية، أما إذا نظرنا إليها من زاوية موازاتها بالنظريات العلمية والقوانين الطبيعية، فسيتراءى أن السنن الإلهية بمثابة القوانين الربانية والنواميس المطردة الممثلة والمجسدة واقعًا لقدر الله تعالى؛ وأن القدر هو روح تلك القوانين والنواميس وجامعها في إطار واحد خدمة لقضية واحدة (9).
السُنن الإلهية والتوكل:
علمنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف نتوكل على الله في كل أمور الحياة، وتسليم الأمور كلها للخالق، الرازق واهب الحياة، وقد تعددت وتنوعت توجيهات ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لدفع المسلم إلى عقيدة التوكل حتى يجني مكاسبها ويستفيد من عطائها، فالمسلم المتوكل على الله توكلًا صحيحًا غير مختلط بالتواكل سيعيش حياته راضيًا قانعًا مطمئنًا يضع نصب عينيه دائمًا أن الله عز وجل الذي يقدر له الخير والشر يحب المتوكلين، كما أخبرنا سبحانه في كتابه العزيز، وأن كل ما يصيب الإنسان مكتوب ومقدر، وشأن المسلم دائمًا أن يردد قول الحق سبحانه {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]، فالتوكل على الله هو أبرز صفات وخصائص المؤمنين الصادقين، يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] (10).
ويزعم البعض أنه من تمام التوكل ترك الأسباب، وأن من تمام التوكل ألا يحمل المتوكل الزاد في سفره فيدخل إلى الصحراء بلا زاد ولا ماء اتكالًا على الله تعالى.
قال ابن تيمية: إن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة.
فمن ظنَّ أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها فهو غالط (11).
فالقيام بالأسباب محض العبودية، وليُعلم أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل، بل إن التوكل نفسه من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل (12).
فالتوكل هو الاعتماد الكامل على الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (13).
فهذا دليل على مشروعية العمل للكسب والأخذ بالأسباب.
قال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعقلها -أي ناقته أو بعيره- وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل» (14)، فالصادق في توكله هو من يباشر الأسباب للحصول على مقصوده.
إذا فهمنا التوكل بهذا الفهم فلن يتعارض تعليق التمكين بمشيئة الله مع وجود الأسباب والأخذ بها؛ لأن النواميس التي تصرِّف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة المطلقة، وقد أرادت هذه المشيئة أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات، والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات خارجية، هي الأسباب الأرضية، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الربانية الطليقة، فمن تلمسها تحققت له السيادة، ومن ضيعها ضاع في ركام الدنيا وبات لا يساوي شيئًا.
السُنن الإلهية والتقوى:
قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 124- 125]، فمدد الملائكة للمؤمنين كان بسبب تقواهم؛ لأن صبرهم من جملة تقواهم؛ لأن التقوى كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: التقوى تجمع فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه (15).
والصبر من جملة ما أمر الله به، ثم إن مدد الملائكة للمؤمنين لتحقيق نصرهم على الكفار، فكانت التقوى -تقوى الله- من العوامل المؤكدة لنصر المؤمنين حسب سنّة الله تعالى (16).
وقد بين القرآن العظيم أن من سنن الله تعالى التي أجرى نظام المجتمع في ظل سلطانها أنه إذا اعتصم المجتمع أي مجتمع بحبل الإيمان، واستمسك بالتقوى، واستقام في منهج حياته على طريق الخير والحق تنزلت عليه بركات الله ورحماته وإنعاماته من السماء، وتفتحت له الأرض عن خيراتها وكنوزها فقال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]، أما إذا أمالت بهم شهواتهم عن مهيع الإيمان والاستقامة فإن الله تعالى يأخذهم بذنوبهم وإفسادهم في الأرض، ولهذا اختتمت الآية بهذا الإنذار المرعب والإخبار المهلك {وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] (17).
السُنن الإلهية والخوارق:
هناك لله سبحانه وتعالى سنن جارية وهي المعروفة بين الناس بما يعرف بالقوانين، وهناك سنن خارقة وهي استثنائية، الأصل في حياة الناس هي السنن الجارية، السنن الخارقة تأتي لتأييد نبي كمعجزة، وتأتي لتأكيد أو مساندة ولي ككرامة؛ وهذه موجودة في القرآن الكريم فيما يتعلق بالأنبياء مثلما قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: 69- 70]، فمعروف أن النار تأكل الإنسان وتقضي على الأوكسجين ويموت الإنسان ولكن هذه معجزة لإبراهيم عليه السلام لإقامة الحجة على قومه، مثل أيضًا {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65)} [الشعراء: 63- 65]، فكون أن العصا بضربة من سيدنا موسى عليه السلام ينفلق البحر، ويكون كل فرق كالطود العظيم كالجبل العظيم فهي معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى أجراها على يد موسى عليه السلام، ومثل يونس عليه السلام في أعماق البحر في بطن الحوت لما قال الله سبحانه وتعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87، 88] فكون السنن الخارقة موجودة وأجراها الله سبحانه وتعالى (18).
السُنن الإلهية والدعاء:
إن الدعاء من أعظم ما يستعين به المؤمن على تحقيق مطلوبه وتحصيل مبتغاه، وليس أعظم من الهداية يسألها المؤمن من ربه تبارك وتعالى، كما أرشدنا الله عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم» (19).
وقد بين ابن تيمية رحمه الله: السر في دعاء المسلم ربه الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة بقوله {اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقيمَ} [الفاتحة: 5]، حيث قال: ولما كان العبد في كل حال مفتقرًا إلى هذه الهداية، الهداية إلى الصراط والهداية فيه، في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية فهو محتاج إلى التوبة منها، وأمور هُدي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها هو محتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات، فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله، وهي الصلاة، مرات متعددة في اليوم والليلة (20).
فهذا يونس عليه السلام وهو في شدة الكرب والهم والغم دعا هذا الدعاء قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فاستجاب الله له قال سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي الكرب والضيق الذي كان فيه: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي: وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا [الأنبياء: 88].
السُنن الإلهية والشرك:
إن ما وقع فيه العرب ومن قبلهم يقع فيه غيرهم بعدهم إذا ما جهلوا مثلهم أصول الدين وبالغوا في التبرك بالصالحين؛ فإن الله يقول: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، وعلماء الاجتماع يقولون: التاريخ يعيد نفسه، والمتكلمون يحكمون بأن ما جرى على المثل يجري على المماثل؛ فإذا كان مجموع المسلمين قد انتهوا في الدين إلى جهالة المشركين؛ فمحاولة تبرئتهم من الشرك غش وتضليل، وجحد للشريعة وتعطيل (21).
يقول الله عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا} أي إنه سبحانه سيحكّم في أعدائكم الكافرين سننه ويلقى في قلوبهم الرعب بسبب إشراكهم بالله أصنامًا ومعبودات لم يقم برهان من عقل ولا نقل على ما زعموا من ألوهيتها، وكونها واسطة بين الله وخلقه، وإنما قلدوا في ذلك آباءهم الذين ضلوا من قبل، ومن ثم كانوا عرضة لاضطراب القلب، وإتباع خطوات الوهم، فهم يعدّون الوساوس أسبابًا، والهواجس مؤثرات وعللًا، ويرجون الخير مما لا يرجى منه الخير، ويخافون مما لا يخاف منه الضّير (22).
وفى الآية إيماء إلى بطلان الشرك، وسوء أثره في النفوس، إذ طبيعته تورث القلوب الرعب، باعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرًا غيبيًا وراء السنن الإلهية، والأسباب العادية، فالمشركون الذين جاهدوا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، بغيًا وعدوانًا يرتابون فيما هم فيه ويتزلزلون إذا شاهدوا الذين دعوهم ثابتين مطمئنين، ولا يزال ارتيابهم يزيد حتى تمتلئ قلوبهم رعبًا (23).
***
-------------
(1) هل الإسلام هو الحل لماذا وكيف (ص: 39).
(2) تفسير ابن باديس (ص: 350).
(3) فوائد من فقه الخلق والأمر/ الكلم الطيب.
(4) في ظلال القرآن (1/ 478).
(5) في ظلال القرآن (1/ 484).
(6) مناهل العرفان (ص: 322).
(7) أخرجه ابن ماجه (4019).
(8) الوظائف العامة للسنن الإلهية/ مركز الشهود الحضاري، بتصرف واختصار.
(9) السنن الإلهية وعلاقتها بقضايا العقيدة - إسلام أون لاين.
(10) التوكل على الله والأخذ بالأسباب/ موقع الخليج.
(11) مجموع فتاوى (1/ 529- 530).
(12) مدارج السالكين (1/ 114).
(13) أخرجه الترمذي (2344).
(14) أخرجه الترمذي (2517).
(15) مجموع الفتاوى (18/ 250).
(16) السنن الإلهية وعلاقتها بقضايا العقيدة/ إسلام أون لاين.
(17) سنن الله في المجتمع من خلال القرآن (1/ 14).
(18) علي الصلابي/ الجزيرة.
(19) أخرجه مسلم (2577).
(20) شفاء العليل لابن القيم (1/ 819).
(21) رسالة الشرك ومظاهره (1/ 163).
(22) السنن الإلهية وعلاقتها بقضايا العقيدة/ إسلام أون لاين.
(23) تفسير المراغي (4/ 96).