logo

المواساة وقود الحياة


بتاريخ : السبت ، 20 صفر ، 1446 الموافق 24 أغسطس 2024
المواساة وقود الحياة

 قال إبراهيم بن بشار: أمسينا مع إبراهيم بن أدهم ذات ليلة وليس معنا شيء نفطر عليه ولا لنا حيلة، فرآني مغتمًا حزينًا، قال: يا إبراهيم بن بشار، ماذا أنعم الله على الفقراء والمساكين من النعم والراحة في الدنيا والآخرة لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة، ولا حج، ولا صدقة، ولا عن صلة رحم، ولا عن مواساة، وإنما يسأل ويحاسب عن هذا هؤلاء المساكين أغنياء في الدنيا، فقراء في الآخرة، أعزة في الدنيا، أذلة يوم القيامة، لا تغتم، ولا تحزن فرزق الله مضمون سيأتيك، نحن والله الملوك الأغنياء، نحن الذين تعجلنا الراحة في الدنيا، لا نبالي على أي حال أصبحنا وأمسينا إذا أطعنا الله، ثم قام إلى الصلاة وقمت إلى صلاتي فما لبثنا إلا ساعة، وإذا نحن برجل قد جاء بثمانية أرغفة وتمر كثير، فوضعها بين أيدينا وقال: كلوا رحمكم الله، قال: فسلم ثم قال: كل يا مغموم، فدخل سائل فقال: أطعمونا شيئًا فأخذ ثلاثة أرغفة مع تمر فدفعها إليه وأعطاني ثلاثة وأكل رغيفين، وقال: المواساة من أخلاق المؤمنين (1).

المواساة أصل عظيم من أصول الإسلام، وخلق كريم من أخلاق القرآن، ومبدأ أصيل من مبادئ الدين، وينبوع متجدد من ينابيع الإيمان، المواساة وقود الحياة وروح الأمة، فإذا صحت الروح عاشت الأمة قوية عزيزة مرهوبة الجانب، وإذا فسدت الروح تهاوت الأمة وخارت قواها وأصبحت مطمعًا للطامعين، وهدفًا للأعداء والمتجبرين المتسلطين.

والمواساة خلق وشعور يؤدي بصاحبه إلى سلوك تفاعلي مع المصاب، وتألم لحاله، وسعي على تخفيف أحزانه وآلامه.

قال ابن مسكويه: المواساة: معاونة الأصدقاء والمستحقين ومشاركتهم في الأموال والأقوات (2). 

والمواساة تدور في معناها حول المشاركة والمعاونة، فالمواساة مشاركة المصاب في مصابه لتفريج همه أو تخفيف آلامه وأوجاعه.

المواساة تباذل لا تخاذل، تقارب لا تباعد، ود وحب لا كره وبغض، تجانس وتعاون لا تشتت وتغابن، في زمن كثرت فيه الشدائد، وادلَّهمت فيه الخطوب، وانتشرت فيه النوازل، المجتمعات في حاجة ماسة إلى المواساة، والأسر في حاجة ماسة إلى التماسك، والبيوت في حاجة إلى التعاون، لتتسع قيم التعاون والتعاضد، وتعم قيم المودة والمحبة، وتتألق قيم الموالاة والمواساة، وتنتشر قيم التسامح والتصالح، لتجتمع في المجتمع الكلمة، ويتوحد فيه الصف، وترتفع له الراية، وتعود العزة المفقودة، وترجع الكرامة الضائعة، وينبت من جديد الشموخ الموجوع (3). 

وهي أنواع كما قال ابن القيم: المواساة للمؤمن أنواع: مواساة بالمال ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، فكلما ضعف الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت (4).

وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين بالمواساة حين أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، ورغبهم في فعل الخير عامة، فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، والبر معناه: التوسع في فعل الخير، وإسداء المعروف إلى الناس، وقال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وفعل الخير يشمل كل قول وعمل يرضى الله تعالى، وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26].

كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه وقد مكن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضًا على ذلك (5).

ووصف الله عباده الأبرار الأخيار الذين استحقوا الفوز بالجنان فكان من صفاتهم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 8- 9].

فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه، ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكرًا، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء، كما تتقي بها يومًا عبوسًا شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء.

ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة؛ إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة؛ ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوي الكريم، وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلًا على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين. 

إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب، والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه، فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين، ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم (6).

ومن أعظم صور المواساة في القرآن، مواساته سبحانه للمؤمنين بعد وقعة أحد، وبعد أن حدث فيها ما حدث، فأنزل سبحانه يواسيهم في مصابهم قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 139- 142].

قال القرطبي: عزاهم وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم ونهاهم عن العجز والفشل فقال: {وَلَا تَهِنُوا} أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم، {وَلَا تَحْزَنُوا} على ظهورهم، ولا على ما أصابكم من الهزيمة والمصيبة {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي لكم تكون العاقبة بالنصر والظفر {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي بصدق وعدي (7). 

المواساة في السنة:

فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمد يد الرأفة والعطف ليسمح بها دمعة الباكي ويخفف بها لوعة الشاكي، ولكي يفتح باب الأمل لكل مصاب، ويثبت يقين كل مرتاب، فعلمنا صلى الله عليه وسلم الصبر على الشدائد وحبب إلينا ثواب الصابرين تصديقًا لقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 155- 157].

عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» (8).

ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه، في حديث النعمان بن بشير: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (9).

المؤمن يقف بجوار أخيه المؤمن عند الشدائد، ويكون معه في السراء والضراء، إن أصابه خير هنأه، وإن أصابته مصيبة عزاه، وإن احتاج أعطاه.

وفيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك بين أصابعه (10).

التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء، وهي صدقة معنوية، فيسمع الأصم، ويهدي الأعمى، ويدل المستدل على حاجته، ويسعى في حاجة اللهفان المتسغيث، ويتعاون بذراعيه مع الضعيف، ويهدي الضال، فهي صدقة نفسية، ومبادئ إنسانية سامية، تربط المجتمع بالحب والتعاون والإخاء والمودة، والوحدة والترابط، فلا فرق بين الضعيف والقوي، ولا بين السليم السوي والعاجز المعان، ولا بين البصير والأعمى، ولا بين السميع والأصم، ولا بين الخبير المحنك والضال، ولا بين المستغني واللهفان المستغيث، مثلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا (11).

فهذه كلها وما شاكلها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض مندوب إليها مرغب فيها. 

وكان صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه والمؤمنين إلى التخلق بهذا الخلق الكريم، ويمدح أهله ويثني عليهم؛ كما جاء عن أبي موسى، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم» (12)، وهذا من أعظم صور المواساة والتكافل. 

وفي هذا الحديث فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خلط الأزواد في السفر، وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر ثم يقسم (13). 

وفيه تنبيه على مكارم أخلاقهم ومواساة لإخوانهم وحث على التأسي بهم والاقتداء بأفعالهم وفيه منقبة عظيمة للأشاعرة (14).

وفي صحيح مسلم دعوة عامة لكل مساعدة ومعاونة بين أبناء المسلمين، ولمساعدة بعضهم بعضًا، وسعي كل من أستطاع في تفريج هم أخيه وكربته أو التخفيف منها ما استطاع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (15). 

ومن جميل صور المواساة والتعاون ما جاء عن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد، فليعد به على من لا زاد له»، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (16).

 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مواساة للناس، ومشاركة لهم في همومهم، وسعيا في تفريج كرباتهم، قبل النبوة وبعدها، فقبل النبوة قالت خديجة: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (17)، وبعد النبوة كان يواسي أصحابه في أمراضهم ومصائبهم، فيعود مرضاهم، ويحضر جنائزهم، ويواسيهم في أزماتهم المالية ومشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ويواسيهم في همومهم ومسؤولياتهم الحياتية، وكذا يواسيهم بجبْر الخواطر ومراعاة المشاعر؛ بل ويواسيهم في أهليهم وأبنائهم من بعدهم. 

المواساة لا تقتصر على مشاركة المسلم لأخيه المسلم في المال أو الخدمة أو النصيحة أو غير ذلك، ولكن المواساة تعني أيضًا مشاركة المسلم لأخيه في مشاعره، خاصة في أوقات حزنه، وعند تعرضه لما يعكر عليه حياته، وهنا فإن إدخال السرور على المسلم وتطييب خاطره بالكلمة الطيبة، أو المشاركة الوجدانية هو من أعظم المواساة، وأجل أنواعها، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يواسي أصحابه في جميع أحوالهم.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «يا جابر ما لي أراك منكسرًا»؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالًا ودينًا، قال: «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك»؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: «ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحًا، فقال: يا عبدي تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون» قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] (18).

ومن أنواع المواساة: البكاء مع الباكي مشاركة له في همه، وتسلية له عما يجده، فمن ذلك: ـ ما رواه مسلم في قصة فداء أسارى بدر.. قال عمر رضي الله عنه: قال عمر غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو قاعد وأبو بكر وإذا هما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما (19).

وفي قصة الإفك، قال عائشة: وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويومًا حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي، وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي (20).

إننا اليوم في أمس الحاجة إلى استنهاض النفوس، وشحذ الهمم، وتقوية العزائم؛ لبعث هذا الخلق النبيل وإحيائه من جديد لتستعيد جبهتنا الداخلية لحمتها، وتسترجع الأمة سالف قوتها، وتسعى في طريق استعادة مجدها وكرامتها.

إن المواساة ما هي إلا سمو نفس، وعظمة قلب، وسلامة صدر، ورجاحة عقل، ووعي روح، ونبل إنسانية، وأصالة معدن، يمتلكها الذي يواسي الخلق، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، أبيضهم وأسودهم، حقيرهم ووزيرهم.

أنها تورث محبة الله عز وجل، وتورث محبة الخلق، وتشيع روح الأخوة بين المؤمنين، وتقوِّي العلاقات بين المسلمين، وتساعد على قضاء حاجات المحتاجين، وسد عوز المعوزين، تدخل السرور على المسلم، وترفع من معنوياته، وتشعره بالذين من حوله فيقبل على الحياة مسرورًا؟ 

المواساة دليل على حب الخير للآخرين، وصدق المعصوم صلى الله عليه وسلم إذ يقول كما في البخاري من حديثِ أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (21).

المواساة تذهب الضغائن والأحقاد للسابقين واللاحقين، كيف؟! {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

المواساة دليل على إيمان العبد، وحسن فهمه لمبادئ الإسلام القويمة، ومن صنائع المعروف التي يحبها الله تعالى، فالدنيا كما وصفها الله تعالى دار ابتلاء واختبار، قال الله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]، والمبتلى ليس وحدَه المبتلى؛ كما قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 1- 3]. 

لذا بيَّنَ اللهُ جزاءَ الصابرين مواسيًا إياهم: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

والمسلمون الأوائل عاشوا المواساة، لذلك رؤوسهم كانت مرفوعة، وكرامتهم مصونة، راياتهم خفاقة، أما حال المسلمين الآن في تشتُّت وتشرذُم، إلا ما رحم الله، تركوا المواساة والتعاضد والتعاون، فذهبت ريحهم، وضاعت نخوتُهم، وانمحتْ هيبتُهم، وتلاشت عزتهم، وأصبح المسلم بلا ثمن، يُقتل بلا ثمن، أرضه مستباحة، دياره مستباحة، ثروته مستباحة، كرامته مستباحة، لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ومن الإيمان إلا رسمه، ومن القرآن إلا حرفه، همُّهم بطونهم، دينهم دراهمهم، قِبلتهم نساؤهم، لا بالقليل يقنعون، ولا بالكثير يشبعون، إلا من رحم ربي وعصم، ولا حول ولا قوة إلا بالله (22).

إنه لا يمكن أن يتحقق في الأمة معنى الجسد الواحد وهي لا تعرف المواساة، كما أنها لا يمكن أن تبلغ درجة الرِّفعة والتمكين والفلاح إذا كانت تفرح وبعضها يبكي بفقدان ما فرحت به، وتشبع وجارها جائع، وتروَى وقريبها ظمآن، وتلبس وشريكها في الدين عارٍ.

فقد قال الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» (23).

إن بلادة القلوب عن المواساة محنة ماحقة يحترق في سعيرها الفضائل، ويُوأَدُ في ترابها التواد والتعاطف، والخاسر -دون شكٍ- هو مجموع الأمة أفرادًا وجماعات.

فالمجتمع الموجب هو من استوى على سوقه روح المواساة، وإلا فهو مجتمع سالب صِرف. 

ولكن ما المانع من توطين النفس وقسرِها على حب الفضائل والشعور العاطفي تجاه الآخرين بسد الخلل، وستر الزلل، وقبول العلل، ومد يد الخير لمن مد للخير يده، وإعطاء السائل، وابتداء العفيف الذي لا يسأل الناس إلحافًا (24).

-------------

(1) حلية الأولياء (7/ 370).

(2) تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق (ص: 31).

(3) المواساة نسيم الحياة/ منتديات الألوكة.

(4) الفوائد (1/ 171).

(5) تفسير المنار (1/ 49).

(6) في ظلال القرآن (6/ 3781- 3782).

(7) تفسير القرطبي (4/ 216- 217).

(8) أخرجه البخاري (5641).

(9) أخرجه مسلم (2586).

(10) أخرجه البخاري (2446)، ومسلم (2585).

(11) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 165).

(12) أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500).

(13) شرح النووي على مسلم (16/ 62).

(14) فيض القدير (3/ 180).

(15) أخرجه مسلم (2699).

(16) أخرجه مسلم (1729).

(17) أخرجه البخاري (3).

(18) أخرجه الترمذي (3010).

(19) أخرجه أحمد (208).

(20) أخرجه البخاري (2661).

(21) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45).

(22) المواساة نسيم الحياة/ الألوكة.

(23) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (112).

(24) خلق المواساة/ سعود بن ابراهيم الشريم، ملتقى الخطباء.