المنهج الدعوي
إن منهج الشريعة الإسلامية في الدعوة إلى الله، والاستدلال عليه، والتعرف عليه هو هذا المنهج الفطري الذي سلكه الإنسان، فقد دعا الإسلام إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وجعل هذا النظر والتفكر هو المنهج القويم لمن يريد أن يعرف الله ويؤمن به، وقد أشار القرآن الكريم إلى أكمل الناس عقلًا وأرشدهم سبيلًا، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)}[آل عمران:190-191]، وقال أيضًا مشيرًا إلى أسرار حكمته وكمال قدرته: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)}[الغاشية:17-22] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البينة، التي تدعو العقل إلى استعمال حقه في هذا الوجود الذي نشاهده.
والذي ينظر في هذا المنهج السماوي في الدعوة إلى الله يجد بين يديه دلائل الإعجاز، التي تعنو لها الوجوه، وتخضع لها أعناق المعاندين والمكابرين.
فإن تدبير هذا المنهج، وتدرجه مع التطور العقلي الإنساني، ومسايرته لملكات الفكر الإنساني عصرًا بعد عصر ينطق بشهادتين:
الشهادة الأولى: أن هذا التدبير لا يكون إلا من حكيم خبير، يعلم من الناس ما لا يعلمون، ذلك هو الله رب العالمين.
الشهادة الثانية: صدق هذا القرآن الذي نأخذ عنه ذلك المنهج الصادق المعجز؛ لأنه كلام الله، وأن النبي المبعوث به صادق موصول بأسباب السماء، يتلقى رسالته عن الله، ويحمل إلى الناس شريعته.
والقرآن الكريم لا يهتم بالتوقيت الزمني لدعوات الأنبياء الذين ذكروا في الكتاب؛ لأن هذا التحديد ليس له أثر في الواقعة التي يذكرها القرآن، ولهذا المعنى لم تشر آيات الكتاب إلى أماكن الدعوة؛ إذ إن مرمى الواقعة لا يراد بها إلا عرض مشهد من مشاهد الصراع بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، والزمان والمكان قضية تتجدد على مر الأزمنة، وتقع في كل مكان، فلا أثر للزمان أو المكان في موقع الدعوة أو العبرة منها(1).
ومن النظر في السيرة النبوية، بمختلف مواقفها وصورها، نتعلم المنهج الدعوي الذي سار عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل مع أخطاء الناس، وجفاء الأعراب، ومكايد الأعداء، ودسائس المنافقين، فقد كان رءوفًا رحيمًا، وكان حريصًا على هداية الخلق إِلى الحق، وكان حكيمًا في معالجة المشكلات والمواقف المختلفة، وكان حليمًا يعذُر الجاهل حتى يتعلم، وبهذا المنهج وهذه الأخلاق استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِخراج الأمة الأمية من ظلمات الجهل والتعصب، والشتات والتفرق، إِلى نور الإِسلام وهداية الرحمن، والترقي في ذلك حتى كانت خير أمة أخرجت للناس.
إِن الناظر في أحوال العرب في جاهليتهم، وما فيهم من قسوة الطباع، وقوة العصبية، والتعلق بعبادة الأصنام، وطاعة الجان والكهان، وتقديس التقاليد والعادات، وموروث الآباء والأجداد من غير تأمل ولا برهان، ليعجب كيف تحولت أخلاقها وتبدلت طباعها في وقت وجيز، فصارت أمة ذات علم وحضارة، وأخلاق سامية، وجهاد في سبيل الله لهداية الخلق جميعًا إِلى الهدى والنور، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلًا لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، قال عبد الله بن الزبير، كما في صحيح البخاري: أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس؛ أي يتجاوز عن أخطائهم وما لا ينبغي من أقوالهم وأفعالهم(2).
أبرز أهداف منهج الدَّعوة:
أولًا: حماية جناب التّوحيد:
يعدُّ التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، أول وآخر واجبٍ على المسلم، وهو الذي من أجله أُرسلَتْ الرسل، وأُنزلت الكتب، وخُلقت الجنة والنار.
والمقصود بالتوحيد إفراد المعبود بالعبادة، مع اعتقاد وحدته ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا.
ومنهج الدعوة الإسلامية يعتني أشد العناية بالتوحيد، ويجعله الأساس والمنطلق لدعوة الناس ومخاطبتهم، كما يؤكد منهج الدعوة على أن أيَّ مخاطبة للناس وتوجه لهم لا يقوم على التوحيد ويرتكز عليه فإنه تَوَجُهٌ مُجانبٌ للحق والصواب، وبناءً على ذلك فإن هدف منهج الدعوة الأساس هو دعوة الناس جميعًا لتوحيد الله تعالى، وتعليمه، وشرحه وبيانه، وإيضاح مقاصده ونتائجه وثمراته اليانعة، والتحذير مما يضاده ويخرمه.
ثانيًا: تعميق الإيمان وزيادته:
يهدف منهج الدعوة إلى الاهتمام بالإيمان من جميع النواحي، ويشمل ذلك بيان معانيه وأهميته وفضله وحاجة المسلم إليه وإلى التزود منه، والحذر من نواقضه، والقرآن العظيم والسنة النبوية حافلان بالحديث عن الإيمان والدعوة إليه، باعتباره هدفًا عظيمًا، يترتب على تحقيقه صلاح حياة المسلم في دنياه وأخراه، والداعية الموفق هو الذي يفطن لهذا الهدف العظيم، الذي يوليه منهج الدعوة القويم أهميةً بالغة، في حياة الأفراد والجماعات والأمم، ويلفت الأنظار إلى أسباب الإيمان بالله تعالى، وزيادته في النفوس، واستشعار عظمة الرب تبارك وتعالى لتحصل معيتُهُ وبَرَكته، كما يهتم منهج الدعوة بالتحذير مما يناقض الإيمان ويخدشه، وبخاصة تيارات الكفر والإلحاد والأهواء والشبهات.
ثالثًا: رجاء هداية الناس:
بعث اللهُ تعالى نبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة؛ رجاء هدايتهم إلى الدين الإسلامي الحنيف، كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28]، ولا يغيب عن ذهن أي داعية أن الهداية بيد الله تعالى، وما مهمة الداعية إلا بيان الحق والدلالة عليه، دون التكفل بالهداية وضمان الاستجابة، والداعية الحريص على هداية الخلق هو الذي يجتهد في إيصال الخير لهم، وشرحه وبيانه، وإيضاح فضائل ومحامد الدخول في دين الإسلام وعواقب التخاذل، أو عدم الدخول فيه.
ومنهج الدعوة لا يُحمِّل الداعية هداية الناس، ولو كان مُحِبًا لهم لقرابتهم أو مودتهم؛ فإن ذلك ليس بيده أو مشيئته؛ بل بيد الله تعالى ومشيئته.
رابعًا: إقامة الحجة على الناس والإعذار لله تعالى:
حينما تتجه الدعوة إلى الناس، وتصلهم عقيدة الإسلام، ويعرفون دين الله تعالى، فإن الحجة تقوم عليهم بذلك، ويُعْذَرُ الدعاة، وهذا من أهداف منهج الدعوة الأصيل، الذي سار عليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في دعواتهم لأقوامهم.
والواجب على الدعاة أن ينهضوا لتحقيق هدف منهج الدعوة الأسمى، وهو إقامة الحجة الواضحة البينة الهادئة على الناس، امتثالًا لأمر الله تعالى وإعذارًا له سبحانه، ولكن ينبغي أن يُعْلَمَ أن إقامة الحجة على الناس تتطلب سلوك الطرق الحكيمة في الدعوة والأساليب المؤثرة، والوسائل العملية النافعة؛ حتى يتحقق قيام الحجة على الناس.
قواعد المنهج الدعوي في الكتاب والسنة:
القاعدة الأولى: العلم والبصيرة في الدعوة:
تعتبر هذه القاعدة من أهم القواعد، التي ينبغي على الدعاة فقهها والعمل بموجبها؛ إذ إن كثيرًا من الأضرار التي لحقت بالعمل الدعوي، إنما سببها الجهل، وعدم العلم، وانعدام البصيرة.
وهذه القاعدة تقتضي من الداعية جملةَ أمورٍ هامةٍ، منها:
أ. العلم والبصيرة بمضامين الدعوة ومحتوياتها، والعلم بالمعروف الذي يُؤمر به، والمنكر الذي يُنهى عنه.