logo

التنافس الدعوي


بتاريخ : الأربعاء ، 22 ربيع الأول ، 1438 الموافق 21 ديسمبر 2016
بقلم : تيار الاصلاح
التنافس الدعوي

كل إنسان في مهنة معينة يريد أن يتفوق على غيره في مجاله, وقد يصل ارتفاع الأداء لدى شخص معين أن يقال: فلان تفوق على نفسه، وهذا من طبائع البشر، ولا شيء عليه إن التزم المرء بألا يسيء إلى غيره، أو يحاول إزاحته من طريقه ليظهر هو.

لقد أمر الله تعالى المؤمنين الصالحين بالمسارعة إلى الصالحات، والمسابقة في عمل الخيرات, قال سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].

ووصف عز وجل المؤمنين المتقين بأنهم هم الذين يسارعون في الخيرات، ويتسابقون إلى فعلها, قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون:60-61].

وحث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة والمسارعة في عمل الخير, قبل أن تتغير النفوس وتتقلب القلوب, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا»(1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمالِ سبعًا؛ هل تنظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنًى مطغيًا، أو مرضًا مفسِدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر»(2).

ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في المسارعة والمبادرة إلى الخير, وعدم تسويف المسابقة إليه, فعن عقبة قال: صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر، فسلم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: «ذكرت شيئًا من تبر عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته»(3).

ولقد تعلم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم هذا الخلق الطيب, فعن أسلم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: «أمرنا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟»، قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟»، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله، لا أسبقه إلى شيء أبدًا»(4).

قال الحسن: «من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره».

وقال وهيب بن الورد: «إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل».

والمسابقة إلى الخيرات خلق لا يتصف به إلا المؤمن الصادق, والمسارعة إلى أعمال البر طبع لا يتخلق عليه إلا من وهبه الله تعالى رجاحة في العقل، وانشراحًا في الصدر، وسلامة في القلب.

والتسابق في الخير له فوائد عظيمة، وثمرات يانعات مباركات, فمن ثماره أنه:

1- دليل على حسن الإيمان وصدق اليقين:

فلقد وصف الله المؤمنين الخالصين بأنهم هم الذين يسارعون في الخيرات طلبًا للصلاح والفلاح, قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)} [آل عمران:113-115].

ولقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الأشعريين من أهل اليمن بأنهم كانوا يتعاونون ويسابقون في الخير، ويطبقون مبدأ التكافل بين المسلمين تطبيقًا عمليًا, فعن أبي موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم»(5).

فالمؤمن الحق هو من يبادر إلى الخير وهو قادر عليه, فعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أما وأبيك لتنبأنه، أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان»(6).

فالمبادرة إلى الخير دليل على يقين المؤمن بربه، واعتقاده بأن هناك حسابًا يوم القيامة, قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48].

2- دليل حب الله تعالى للعبد:

فالمسارعة إلى الخيرات دليل على حب الله تعالى للعبد, وأنه قد اختاره ليجعله في الأرض مفتاحًا من مفاتيح الخير, قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه»(7).

قال أحدهم: إذا أراد أن يعرف مكانته عند سيده فلينظر أين يضعه.

جاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له، وكان غائبًا، فأمر أهله فأخرجت صندوقه، ففتحه فأخذ من كيسه حاجته، فذهبت الجارية إلى مولاها فأعلمته، فقال: «إن كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله تعالى»؛ سرورًا بما فعل.

وروي أنّ ابن أبي شبرمة قضى لبعض إخوانه حاجة كبيرة، فجاءه الرجل بهدية جليلة، فقال: «ما هذا؟»، فقال: «ما أسديت إلي»، فقال: «خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة، وكبّر عليه أربع تكبيرات، وعده في الموتى»، وعلى ذلك قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك الحاجة فلم يقضها لله فذكّره ثانية، فلعله يكون قد نسي، فإن لم يقضها فعاوده ثالثة، فقد يكون شغل عنها بعذر، فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ عليه هذه الآية: {والمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [الأنعام:36].

وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما: «هل يُدْخِل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه، فيأخذ منه ما يريد من غير إذن»، قال: «لا»، قال: «فلستم بإخوان»(8).

3- سبب لتفريج الكروب وستر العيوب:

المسابقة في عمل الخير من أسباب تفريج الكرب وستر العيب, وذلك من صفات أهل الإيمان, قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].

والله تعالى قد وعد أنه يجزي بالإحسان إحسانًا, فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»(9).

4- سبب لاستجابة الدعاء وقبول الرجاء:

فحب الخير والمسارعة إليه سبب لقبول الدعاء, قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء:89-90].

لذا فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها حق، فادرسوها، ثم تعلموها»(10).

5- سبب للسعادة في الدنيا والآخرة:

المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إلى عمل الصالحات سبب للسعادة في الدارين, قال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)} [التوبة:88-89].

وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائمًا»، قال أبو بكر رضي الله عنه: «أنا»، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة»، قال أبو بكر رضي الله عنه: «أنا»، قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا»، قال أبو بكر رضي الله عنه: «أنا»، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا»، قال أبو بكر رضي الله عنه: «أنا»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»(11).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان»، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟»، قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم»(12).

وعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا قال: «يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فَأْمُره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها»، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطها إياه بنخلة في الجنة»، فأبى، فأتاه أبو الدحداح رضي الله عنه فقال: «بعني نخلتك بحائطي»، ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي»، قال: «فاجعلها له فقد أعطيتكها»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من عَذْقٍ رَداح لأبي الدحداح في الجنة»، قالها مرارًا، قال: فأتى امرأته، فقال: «يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة»، فقالت: «ربح البيع»، أو كلمة تشبهها(13).

فالعقبى الحسنة لمن سابق الناس في فعل الخيرات واجتناب المنكرات, قال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر:32-35].

سرت روح التنافس في نفوس أصحابِ الهمم، وأعلاهم قدرًا أنبياء الله صلوات ربي وسلامه عليهم؛ فنبي الله موسى عليه السلام بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم غبطةً، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: «أبكي لأن غلامًا بعث بعدِي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي»(14).

وكان يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»(15).

بث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه مبدأ التنافس وخلق التسابق؛ ليرتقوا سلم الوصول، ورسم لهم أهدافًا سامِقة في أحاديث لا حصر لها، منها:

قال صلى الله عليه وسلم: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين»(16).

ومما رغَّبَ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم المنافسةُ على الصفِّ الأول، وفي الحديث: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِمُوا عليه لاستهَمُوا، ولو يعلَمون ما في التهجِير لاستَبَقُوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمَةِ والصُّبحِ لأتَوهُما ولو حبوًا»(17).

تأججت في حياة الصحابة رضوان الله عليهم جذوة المنافسة الشريفة، فاغتنموا الأوقات، واستثمروا الأعمار، وصاروا أعلى شأنًا، وأرفع علمًا وعملًا؛ بل غدَوا أصحابَ فضلٍ وسبقٍ.

قال صلى الله عليه وسلم: «يدخل من أمتي الجنةَ سبعون ألفًا بغير حسابٍ»، فقال رجل: «يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم»، قال: «اللهم اجعله منهم»، ثم قام آخر فقال: «يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم»، قال: «سبقَك بها عُكاشَة»(18).

وفي يوم أحد استثار النبي صلى الله عليه وسلم روح المنافسة الشريفة بين أصحابه فقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟»، فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: «أنا آخذه يا رسول الله بحقه، فما حقه؟»، قال: «ألَّا تقتل به مُسلِمًا، ولا تفِرَّ به عن كافر»، قال: فدفعه إليه، وكان أبو دجانة رجلًا شجاعًا(19).

ربَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه على المُبادَرة إلى الخيرات، والتسابُق في الطاعات، والتنافُس في أعمال البرِّ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفُقراءُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: «ذهبَ أهلُ الدُّثور من الأموال بالدرجَات العُلى والنَّعيم المُقيم؛ يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ولهم فضلٌ من أموالٍ يحُجُّون بها ويعتمِرُون ويُجاهِدون ويتصدَّقُون».

قال: «ألا أُحدِّثُكم بأمرٍ إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين»(20).

التنافس يظهر أثره في الآخرة، ويمتد إلى الجنة، فيصعد أهل القرآن درجَات الجنة بمِقدار ما يقرءون ويرتلون، يقال لصاحب القرآن: «اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها»(21).

هذا التنافس المحمود، الذي ربانا عليه الإسلام، يولد التفوق، ويعزز الطموح، ويزيد التنمية والإنجاز، ويستعذب فيه المسلم المر، ويستقرب البعيد، ويتجاهل المعوقات.

يسمو التنافس بصاحبه إلى المراتب السنية حين يؤسس على نية خالصة صادقة، ويطهر من لوثات القلوب التي تفسد العمل وتجعله هباءً منثورًا.

أما موت روح التنافس فإنه يحول الأمة إلى مجتمع متهالك متهافت، يسوده التواكل والتخلف، ويفرز البطالة والقعود، وينشئ جيلًا هزيلًا فاتر العزيمة.

وفي المقابل نهى الإسلام عن التنافس المذموم، ومنشؤه التنافس في الدنيا واتباع الأهواء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فواللهِ، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكَتهم»(22).

المنافسة المذمومة:

يكون التنافس مذمومًا إذا كان على الدنيا حيث تلهيك عن الله والدار الآخرة، وتحملك على القبائح والمنكرات، وتقودك إلى منع واجب، أو أخذ حرامٍ، أو اعتداء على حقوق الآخرين.

أدى التنافس على الدنيا إلى التصارع بين الإخوة والأقارب، وسبَّب القطيعة والبغضاء والشحناء، فكثرت الخصومات، واشتدت المنازعات.

والحسد من أشد أسباب التنافس المهلك الذي يقوض بناء الأخوة الإسلامية، ويفقد المسلمين الأمن؛ لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة أخيه، وقد يتسبب في زوالها بالقوة.

ومن المنافسة المذمومة: ما يحصل بين الأقران والمتقاربين في الفضائل، أو الرئاسة الدينية أو الدنيوية، وقد يذم المرء غيره بذكر مساوئه وغض الطرف عن محاسنه؛ لوجود عداوة أو بغضاء، قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم}.

وقد تفضي المنافسة إلى المجافاة والتحقير والبغي والعدوان والاستطالة على الآخرين، وقد تقع المنافسة المذمومة في التجارة؛ لذا ضبط الإسلام المنافسة في الأعمال الاقتصادية بقواعد وأحكام شرعية، رسخ القيم والمبادئ والأخلاق، فحرم الاحتكار بكل صوره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكِرُ إلا خاطِئ»(23).

حرم الحيل، والغش، والغرر، والخداع، والتدليس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن غشَّنا فليس منَّا»(24).

الهوى والخلاف المفضي إلى العداوات:

إن التنافس على كسب قلوب الناس، والتنافس في ميادين الجهاد والاستشهاد، والتنافس في خدمة الناس، لا يكون إلا استجابة لنداء الحق تبارك وتعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، وطمعًا في جنة عرضها السماوات والأرض، كل يريد أن يصيب من الجنة أعاليها، فلا زالت الجنة في قلوبهم أسمى الأماني، ولا زالت رؤية وجه الله الكريم تتربع على قمة الأمور التي تشغل بال السالكين درب الدعوة المباركة.

ولكن في غمار ذلك قد يصيب الهوى بعض النفوس فيثير الخلاف وينميه.

عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان الرسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء»، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»(25).

قلَّ أن تجد خلافًا إلا وكان الهوى مكوِّنًا رئيسًا في إثارته وتناميه، ومن هنا تدرك عمق فقه السلف حين سموا أهل البدع (أهلَ الأهواء)، فإنه لولا الهوى لما وقعوا في شرك الضلالة، وأقبح صور الهوى أن يأتيه صاحبه من حيث ظنَّه اتباعًا للشرع، فالهوى إذا دخل أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها(26).

والدعاة إلى الله أولى الناس بحسم مادة الهوى بشتى تجلِّياته، فإن ذلك سبيلٌ لتجفيف منابع الخلاف المفضي إلى العداوات، لا سيما وأن هذه الخلافات إذا بدت على السطح كانت من أشد عوامل الصدِّ عن دين الله، فعامَّة الناس إنما ينيخون مطاياهم عند أعتاب الدعاة، رغبةً في سلامة الدين والدنيا، فإذا رأوهم قد سلطوا سهامهم على أنفسهم حرفوا وجوههم إلى غيرهم، إذ لو كان ما يقوله هؤلاء الدعاة حقًّا لكانوا أولى الناس باتباعه، وإذا كان ما يرشدون غيرَهم إليه أمنًا وسلامًا لكانوا أجدر الناس بالسبق إلى ظلاله، وليس هذا الذي يخطر بأذهان العامَّة بدعًا من القول، فإن السلف جعلوا الفرقةَ أمارةَ انحرافٍ عن القصد؛ ولذا لما تحدَّث قتادةُ رحمه الله عن الخوارج استدل بفرقتهم على ضلالهم، فقال: «لَعَمري، لو كان أمرُ الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالًا فتفرّق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا»(27).

وما دام الأمر كذلك كان من اللازم على الدعاة تعهُّدُ مسارهم الدعوي، وتجريدُه من حظوظ النفس وموجبات الخلاف، فليس مجرد الانخراط في سلك الدعوة إلى الله بعاصمٍ من الزلات، ولا أضرَّ على العمل الدعوي من اعتقاد أصحابه سلامة آرائهم وتصرفاتهم اعتقادًا يصرف عن معاودة النظر في مدى استقامتها، ما يغذِّي نزعة الاستبداد الدعوي، ويجعل كلَّ حزب فَرِحًا بما عنده، حتى تختزل كل طائفة مصالح الدعوة في مشروعها، وتجعل منه معيارًا للولاء والبراء، فمن رضي به فهو الموفَّق، وإلا كان حمالَ حطبٍ في سبيل المصلحين.

وهذا من البغي الذي ما فتئ يصاحب كلَّ نزاعٍ بين الدعاة، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة، علمائِها وعبَّادها وأمرائها ورؤسائها وجدتَ أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي، بتأويلٍ أو بغير تأويل(28).

ربَّما كان النزاع بين الدعاة مبنيًّا على تجاذبِ أنظارهم في مراعاة الأولويات، وعلى فرض صحة ذلك فإن من أهم الأولويات في عصرنا خاصةً تحقيقُ الائتلاف، فإن كل تصرُّفٍ صادرٍ من الإسلاميين قد هُيِّئ له من يرصده ويوظِّفه، سواء من مراكز الأبحاث والدراسات أو الأذرع الإعلامية، التي ما زالت تخضع لأيادٍ غيرِ نزيهة، والمطالع للإعلام العربي أثناءَ الثورات وبعدها يلحظ استدعاءً محمومًا لصراعاتٍ عتيقةٍ بقصد تشويه الصفِّ الإسلامي لصرف الناس عنه، فكيف إذا كانت هذه الصراعات حيَّة جذعةً لا نملك سترها وتأويلها؟

وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وأوصاهما فقال: «تطاوعا، ولا تختلفا»(29)، ولما بعث عليه الصلاة والسلام جيش ذات السلاسل استعمل أبا عبيدة على المهاجرين، وعَمْرَو بن العاص على الأعراب، وقال لهما: «تطاوعا»(30).

وذلك أن المقصود من البَعْثين تحقيقُ مصالح الإسلام، وما كان هذا شأنه فليس مناخًا صالحًا للخلافات، حفاظًا على سمعة الدعوة، وتمهيدًا لاستيطانها قلوبَ الجماهير، فلا غرو إذًا أن كانت الوصية النبوية بالائتلاف والتطاوع أعظم ما يحتاجه العامل لدين الله؛ بل إن أبا عبيدة لما أتاه المغيرة بن شعبة وقال له: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك علينا، وإن ابن فلان [يعني عمرو بن العاص] قد ارتبع أمر القوم وليس لك معه أمر»، لم يحِد عن وصية رسول الله، ولم يشتغل بتسوية الخلافات مع عمرو؛ بل قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع، فأنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عصاه عمرو».

هذا الفقه النبوي بحاجة إلى بعثٍ وتجديد، فإنا نرى معالمه تندرس مع كل خلاف يطرأ على الساحة الدعوية، وفي الكتاب والسنة وآثار السلف وسيرهم فقه راسخ وتوجيهات عالية في تدعيم أواصر الوحدة والاجتماع ونبذ الخلاف، فلسنا نعاني فقرًا في هذه الأدبيات، لكننا نعاني من فاقةٍ حادَّةٍ في تطبيقها، ترى الواحد منَّا يتحدث طويلًا عن بواعث الولاء وضرورة احتواء النزاعات، فإذا به يفتتح الرسوب في أول اختبار، ثم يجتهد في قراءة ذرائع الفشل، ويوسِّع النظر في سبل تفاديها، ثم ينزلق في اختبارٍ آخر، وهلمَّ جرًا، وذلك يرجع إلى جملةٍ من الأسباب، من أهمها:

الشعورُ بتلك الطهورية المفرطة التي تجعل الطرفَ الآخر سببَ الخلاف مطلقًا، بتبريرٍ أو دونه، والتي تمنع صاحبها من مراجعة موقفه؛ ولو من باب الظن فقط، ويزداد الأمر سوءًا إذا نمت هذه الخصلة في أوساط الأتباع، حتى تكون عنايتهم منصبةً على صيانة سجل الطائفة من كل ما يلوِّثها، ولو على حساب مصالح الدعوة العامة، فترى الواحد منهم يستميت في الدفاع عن تصرفاتها، ويصيِّرها مشرط تمييز بين من يستحق الولاء والبراء، ولا يجسر على مخالفة متبوعه إذا رأى منه حيدةً عن سبيل الحق، وهذا من شؤم تعاليم بعض القادة.

والحق أن ليس لأحدٍ منهم أن يأخذ على أحد عهدًا بموافقته على كل ما يريده، وموالاةِ من يواليه، ومعاداةِ من يعاديه؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسولِه بأن يطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوقَ المعلمين كما أمر الله ورسوله، فإن كان أستاذ أحد مظلومًا نَصَره، وإن كان ظالمًا لم يعاونه على الظلم؛ بل يمنعه منه(31).

ومن الآفات التي تقطع الطريق أمام التطاوع، وتجرُّ إلى احتراب تامٍّ ونزعٍ لحبال الالتقاء: تصيير المتشابهاتِ محكماتٍ، ما يضيِّق من دائرة تداول الآراء بقدرٍ من التصافي، فيضفي كلُّ طرفٍ لبوسَ الإحكام على رأيه، فلا يكاد يحيد عنه ولو أدَّاه ذلك إلى هجر إخوانه الدعاة؛ بل ربما كان النزاع نابعًا من محض إجراءاتٍ إدارية لا علاقة لها برأي ولا فكر، فيجد الشيطان له مدخلًا، وينفخ روح العداوة حتى يشقَّ بتلك الرسومِ الشكلية صفَّ  المتآلفين.

وقد وردت على شيخِ الإسلام ابنِ تيمية رحمه الله فتيا مفادها: أن أحد المنتسبين لمذهب الشافعية زعم عدم صحة الصلاة خلف أئمة المالكية؛ وذلك أنَّ الإمام المالكي ربما فعل ما تبطل به الصلاة عند الشافعي، واستحضر أن مناط الشافعيِّ في الإبطال بذلك الفعل مناطٌ معتبرٌ، لكن البحث في اغتفار الائتمام حال رجحان عدم الإبطال به عند الإمام، فأجاب فقيهُ التطاوعِ والائتلاف بقوله: «إطلاق هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق مطلقُه التعزيرَ البليغ...، وكيف يستجيز مسلمٌ يطلق مثل هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلفُ الأمة من الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها، ومن نهى بعض الأمة عن الصلاة خلفَ بعضٍ لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد، فهو من جنس أهل البدع والضلال، الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، وقال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظمُ من أمر المسائل الجزئية»(32).

فمن اللازم على الدعاة إنزالُ كلِّ قضية منزلَها، والتعاطي معها بقدرِ ما تحتمله من وفاق وخلاف، فليس كل نزاع يقع يكون بين خيرٍ وشرٍّ خالصين أو غالبَين؛ بل ثمة مساحة تمكِّن المختلفين من تجاوزها بالقدر الذي يحقق أولوية الائتلاف، فربما كان ما يصدر من بعضهم فسادًا، لكنَّ ما يترتب على محادَّته والمفاصلة معه أعظم فسادًا منه، والفقه كل الفقه أن يعلم الداعية أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين وشر الشرين، حتى يقدم عند التزاحم خيرَ الخيرين ويدفع شر الشرين(33).

والمشرِف على الخلاف بعين البصير لن تخطئ عينه أن طرفي النزاع ليسا داعيتين، ولا مؤسستين دعويتين؛ بل هو في واقع الأمر صراعٌ بين الدعوة والدعاة؛ تطمح الدعوة أن يتطاوع أبناؤها ويغفر بعضهم زلات بعض، مع التصحيح بالتي هي أحسن، ويبحث كلٌّ من الدعاة المختلفين عن غلبة ذاته ونفاذ مصالحه ولو تهشَّمت أعظم الدعوة، فمن المنتصر؟!(34).

وإذا كنا نريد داعية ينتصر في معركته على الجهل والهوى والتسلط والفساد، فلا بد أن يتسلح بأسلحة عديدة لازمة له في الدفاع والهجوم، ومن أبرز أسلحة الداعية ما يلي:

أ- سلاح الإيمان، وبدون هذا السلاح يبطل كل سلاح، وتفشل كل ذخيرة، ونحن نعلم أن  الإيمان ليس بالتمني، ولكن ما وقر في  القلب وصدقه العمل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ب- سلاح الأخلاق، والأخلاق من لوازم الإيمان الحق وثماره، وقد وصف الله عز وجل سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وخاطبه بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].

ج- العلم والثقافة، وهذه هي العدة الفكرية للداعية بجانب العدة الروحية والأخلاقية، فالدعوة عطاء وإنفاق، ومن لم يكن عنده علم أو ثقافة كيف يعطي غيره؟ والداعية المتصف بالغرور كيف يأمر غيره بالتواضع وهو فاقد له؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يملك النصاب كيف يزكي؟!

وهذا يؤكد لنا أن الداعية في حاجة إلى ثقافة شرعية وتاريخية وأدبية ولغوية وإنسانية وعلمية وواقعية، إنها ثقافة بمعناها العام الشامل، ومنتفخ الأوداج من الدعاة لا يمكن أن يُحَصِّل أي لون من ألوان الثقافة؛ لأن الغرور أعمى بصره وطمس على بصيرته.

بعدما نزل الوحي والكتاب المبين، والقرآن الكريم، وسنة واضحة وإله واحد، ونبي واحد؛ حينها اخْتلف المسلمون هذا الاختلاف، اختلاف قذِر، أساسه الحسَد، والبغي والعدوان والهوى، قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14].

 البغي هو العدوان بدافع الحسد، فالتفرق الطبيعي هو التفرق الذي سببه نقص المعلومات، والتّفرّق المذموم هو الذي سببه الحسد والبغي، فالخلافات التي بين الدعاة والخلافات بين الجماعات، والخلافات بين الأطراف؛ هذه ليس مردها نقص المعلومات، ولكن مردها التنافس على المكاسب، كنا نعجب ببلاد في أقصى الشرق، فوقفت أمام أكبر دولةٍ في العالم؛ ثم الآن نتألم أشد الألم، وهذا الخلاف جرهم إلى سفك الدماء بينهم، فخلافهم الآن خلاف منصب، وبغي وعدوان، وليس خلاف عقيدة، وهذا الخلاف عند الله مذموم، فأنا حينما أختلف معك فلمصلحة مادية، وحينما أختلف معك لأنافسك، وحينما أختلف معك لمكاسب بين يدي لا أفرط بها.

هناك دعوة إلى الله تعالى خالصة، ودعوة إلى الذات باغية، دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله تعالى، فالدعوة إلى الذات من خصائصها ادّعاء التفرد، ومن خصائصها الابتداع، ومن خصائصها التنافس، ومن خصائصها جحود ما عند الآخرين، أما الدعوة إلى الله تعالى الخالصة من خصائصها التواضع، ثم الاتباع، ثم التعاون ثم الإنصاف، فإذا كنت أيها الداعي متواضعًا ومتبعًا، وتعترف بالآخرين، وتتعاون معهم، فأغلب الظن أن دعوتك إلى الله تعالى خالصة، أما التنافس فهو دليل عدم الإخلاص، فهي دعوة إلى الذات، فنحن نعاني لا من خلاف طبيعي مرده نقص المعلومات، ولا من خلاف سيكون محمودًا بعد قليل، ولكن نحن نعاني من خلاف قذر سببه الحسد والبغي، قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14].

 بغيًا مفعول لأجله، أي بسبب البغي والعدوان والحسد، إذًا هناك تفرق طبيعي لا محمود ولا مذموم، وتفرق طبيعي سببه نقص المعلومات.

التفرق المحمود هو تفرق التنافس، فهذا اتجه إلى إعمار المساجد وهو يظن أنه أعظم عمل، وهذا اتجه إلى نشر الحق، وهذا اتجه إلى إطعام الفقراء والمساكين، وهذا أسس معاهد شرعية، فهؤلاء تنافسوا مع إخوانهم في الحق، ولخدمة هذا الدين، وهناك من يعنيهم أن يروا الناس في بحبوحة؛ فيؤسس جمعية خيرية، وإعانة المساكين وطلبة العلم، وإنسان نشر الحق ونشر الفضيلة، فنحن يمكن أن نتنافس تنافسًا شديدًا، والله عز وجل قال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].

فالتنافس الشريف أن نتسابق لخدمة المسلمين، فالذي يدرس يساهم، والذي يبني يساهم، والذي يطعم الفقراء يساهم، والذي يرعى الأيتام يساهم، والذي ينشر الكتب يساهم، فالاختلاف الأول طبيعي، والاختلاف الثاني قذر؛ اختلاف الحسد والبغي والتنافس على الدنيا، والاختلاف الثالث محمود، قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.

فهناك من يرى أن التجويد هو كل شيء، وآخر يرى الفقه، وذاك المواريث، وآخر مصطلح، وذاك في التفسير، وآخر جرح وتعديل، وهذا عالم بالفقه المقارن والأحوال الشخصية، وهناك من درس الإنجيل ورد على مدعيه، فكل عالم أخذ جانبًا وتفوق فيه، فكل هؤلاء العلماء أخذوا جانبًا وتفوقوا فيه، وهذا تنافس محمود عند الله عز وجل، فالمسلمون والعلماء متكاملون يشد بعضهم بعضًا؛ لذا لو تعاون الدعاة إلى الله تعالى لكانوا وحدة متكاملة، والعقيدة الصحيحة أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بمفرده، وأمته معصومة بمجموعها، والله تعالى قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِ والتَّقْوَى}.

إذن هناك تفرّق طبيعي سببه نقص المعلومات، وآخر قذِر سببه المنافسة على الدنيا، وآخر محمود سبه التنافس في خدمة هذا الدين، فكن مع الصنف الثالث، قال تعالى: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فكل منا يخدم الدين بما استطاع، وبما يسر الله له، فكل إنسان ييسر لما خلق له، فأنسب شيء يناسبك للجنة، وليس في الإمكان أبدع مما كان.

مظاهر التنافس المذموم:

- من مظاهر التنافس المذموم التركيز على إفشال بعض الدعاة لغيرهم، من خلال إنقاص الإنجازات، وتضخيم العثرات والأخطاء.

- لمز العاملين ببعضهم أمام المتربين بطريقة أو بأخرى، وأسوأ اللمز وأكثره انتشارًا هو ما يتعلق باللمز في حركات الوجه والشفتين؛ إذا ما تم طرح اسم عامل آخر معه أمامه، بتصرف أو بقول؛ مقللًا من أهمية ما يقول ومشككًا بصحته.

- كثرة الغيبة لبعضهم البعض.

- كثرة الاحتداد في الحوار خلال اللقاءات بين العاملين وارتفاع الصوت خلال النقاش.

- مهاجمة العاملين بعضهم بعضًا خلال اللقاءات وبشكل حاد أحيانًا.

- تتبع عورات بعضهم البعض.

أسباب التنافس المذموم:

من أسباب التنافس المذموم التغطية على التقصير، عبر استخدام الهجوم كوسيلة للدفاع، فيهاجم العاملين منتقدًا لهم، ومنتقصًا من عملهم؛ مما يجعله في موضع آمن من النقد.

- غياب القيادة الحازمة.

- تقارب العاملين في السن؛ مما يخلق جوًا عامًا من الندية.

- البون الواسع بين العاملين في الدرجة العلمية والثقافة والعلم الشرعي.

- دخول الهوى وحظ النفس في نفوس العاملين.

- قلة النضج الدعوي، وعدم النظر إلى كبريات الأمور، والاهتمام بالتفاصيل وسفاسف الأمور.

- التشدد والتعنت عند بعض العاملين، وهذا من أخطر الأسباب، إذ سرعان ما يتهم غيره بأنه متساهل ومفرط.

- غيرة العاملين وحسدهم بعضهم لبعض، خاصة في حال وجود واحد متميز منهم.

- وجود بعض الأمراض التربوية لدى البعض قد يكون أحيانًا سببًا من هذه الأسباب؛ كتعلق المربي بالمتربي، وحرصه أن يكون المتربي خاصًا له فقط؛ أي الانتقال من مرحلة التعلق إلى مرحلة التملك.

العلاج الناجع:

من أبرز الحلول المقترحة لمشكلة التنافس المذموم داخل الصف الدعوي:

1. إقصاء العاملين غير المؤهلين تربويًا وإيمانيًا بالحد الأدنى.

2. وجود مرجعية للعمل تكون ذات قبول وإجماع من العاملين، ويفضل أن تكون أكبر سنًا، لكن دون وجود فرق في الأجيال.

3. تعميق مفاهيم الأخوة بين العاملين، ولعل النشاطات الخاصة باللجان العاملة تساعد في زيادة الروابط الأخوية.

4. الاطلاع الكامل على تفاصيل العمل وأوضاع المتربين بشفافية تامة بين جميع العاملين.

5. التدوير في العمل التربوي بين الفينة والأخرى، واستبدال الأدوار وكذلك المجموعات التربوية.

6. تواجد العاملين جميعًا في كل الفعاليات والأنشطة والصلوات في المسجد.

7. خضوع العاملين لدورات توعوية تربويًا وإداريًا.

8. الفصل التام بين العلاقات الشخصية والعمل.

9. إيجاد الجو الإيماني بين العاملين، سواء أكان خلال الاجتماع أو على المستوى الفردي، والإكثار من الدعاء لبعضهم البعض في ظهر الغيب، وحفظ الأخ غيبة أخيه.

10. ضرورة وجود الرقابة على العمل الدعوي عن قرب.

هذه بعضها، وقد يكون غيرها، تحدده ظروف المكان والعمل، لكن لا بد للعاملين من التنبه جيدًا؛ لأن العمل أولًا وأخيرًا فقط لله، وليس لحظوظ النفس أو للمصالح الشخصية، فليتق الله ولا يتبع نفسه هواها(35).

***

_____________

(1) أخرجه أحمد (8017).

(2) أخرجه الترمذي (2306).

(3) أخرجه البخاري (851).

(4) أخرجه أبو داود (1678) والترمذي (3675).

(5) أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500).

(6) أخرجه البخاري (1419)، ومسلم (2346).

(7) أخرجه ابن ماجه (237).

(8) قوت القلوب (2/ 374).

(9) أخرجه البخاري (517)، ومسلم (6648).

(10) أخرجه الترمذي (3235).

(11) أخرجه مسلم (1028).

(12) أخرجه البخاري (1897) ومسلم (1027).

(13) أخرجه أحمد (12510).

(14) أخرجه البخاري (3887).

(15) أخرجه البخاري (4981).

(16) أخرجه أبو داود (1398).

(17) أخرجه البخاري (615).

(18) أخرجه مسلم (216).

(19) أخرجه الحاكم (5019).

(20) أخرجه النسائي (9898).

(21) أخرجه أبو داود (1464).

(22) أخرجه البخاري (3158)، ومسلم (2961).

(23) أخرجه مسلم (1605).

(24) أخرجه مسلم (101).

(25) أخرجه البخاري (4015).

(26) الموافقات (5/ 221).

(27) جامع البيان، للطبري (5/ 207).

(28) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 482-483).

(29) أخرجه البخاري (2873).

(30) أخرجه أحمد في مسنده (1698).

(31) مجموع الفتاوى (28/ 16).

(32) جامع المسائل- المجموعة الخامسة، ص273-274.

(33) منهاج السنة (6/ 118).

(34) صراعٌ بين الدعوة والدعاة، موقع: صيد الفوائد.

(35) التنافس في العمل التربوي، وقفة تأمل، موقع: بصائر.