logo

المقاصد العالية للصيام


بتاريخ : الأربعاء ، 5 رمضان ، 1443 الموافق 06 أبريل 2022
بقلم : تيار الاصلاح

الأزمنة في أنفسها متماثلة، وتفاضلها بما يظهر فيها من هداية وخير، وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إذ يقول:

وما فاقت الأيام أخرى بنفسِها          ولكن أيام الملاح ملاح

وإذا نظرنا إلى شهرِ رمضانَ من هذا الوجه، وجدنا له مزايا تكسبه حرمةً، وتجعل إقبالَ الناس فيه على الأعمال الفاضلة عظيمًا.

فكان هذا الشهر مظهر الكتاب الذي هو منارُ الهداية، ومطلع السعادة؛ كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

إن شهرًا ينزل فيه كتاب يملأ العقول حكمة، والقلوب طهارة، لَذُو طلعة مباركة، ومقدم كريم.

ومن مزايا هذا الشهر؛ أنه الشهر الذي فتحت فيه مكة المكرمة، ذلك الفتح الذي علت به كلمة الإسلام في البلاد العربية، وعلى أساسه قامت الفتوحات الإسلامية في الشرق والغرب.

واقتضت حكمة الله تعالى أن يكون للناس من بين سائر الشهور شهر يقضون بياض نهاره في عبادة الصوم، واختار أن يكون شهر رمضان هو الشهر الذي تؤدَّى فيه هذه العبادات ذات الحكمة السامية، والثواب الجزيل (1).

ومن أهم العبادات في هذا الشهر المبارك؛ الصيام الذي شرعه الله لحكم كثيرة، ومصالح عظيمة، ففيه تقوية للإيمان، وتقرُّب من الرحمن، ورقي بالنفس، وتهذيب لها، وغرس للقيم الإيجابية، وسمو بالأخلاق والمشاعر.

إن مقاصد الصيام كثيرة، وفوائده غزيرة، تنعكس على حياة الإنسان رقيًا وازدهارًا في إيمانه وأخلاقه وسلوكه.

المقاصد العامة للصيام:

أولًا: المقاصد التعبدية للصيام:

قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], وقال كذلك: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44], وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].

يقول الإمام الشّاطبي: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا (2).

يستفاد من هذه النصوص الكريمة أن المقصد الأساسي من الصيام، هو تحقيق التقوى والتعبد لله تعالى، فمقصد التعبد قاسم مشترك بين جميع العبادات والتشريعات الإسلامية، فالغرض من مشروعية العبادات هو مَحض التعبد إلى الله تعالى، بل ما خلَق الله تعالى الأكوان كلها إلا لتحقيق هذا المقصد الأسنى.

إن هذه النصوص الشرعية الكريمة تشعر بأن النظام الكوني كله في عبادة سرمدية دائمة، وأن الإنسان المتمرد على ربه، العاصيَ لأوامره مخلوق شاذ، وكائن استثنائي خارج عن المنظومة الكونية أجمعِها.

إن النظر لعبادة الصيام على أنها خضوع لله تعالى وتذلل واعتراف له بالفقر والمسكنة؛ يدفَع المؤمن لأن يصومَ صيامًا إيمانيًّا وِجدانيًّا، لا صيامًا طقوسيًّا شكلانيًا.

إن الصائم الذي يهتم فقط بسد منافذ شهوة بطنه وفرْجه، دون أن يكترث لعنصر الإخلاص ومحور التعبد وإرادة التقرب إلى الله تعالى، مثلُه كمثل المضرب عن الطعام سواءً بسواء؛ لذلك عندما تناول الفقهاء حقيقةَ الصيام بالتعريف، قالوا فيه: هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ بنية التقرب إلى الله تعالى، فهذا القيد الأخير من التعريف، هو الذي يُخرج الصيامَ من أن يكون مجرد عادة وطقوس وجوع وعطش، لأن يكون عبادةً وجدانيةً تتصل فيها روح الصائم بخالقها، فتسمو وتزكو.

وحتى لا يكون صوم العبد صومًا شكليًّا، وعادة وراثية، نبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى استحضار هذا المقصد قبل الشروع في أداء هذه العبادة، فقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يبيت الصيام من الليل، فلا صيام له» (3).

وإن من تمام العبودية لرب الخلق والبرية، أن تكون عباداتنا خالصة لوجهه الكريم، وعلى سنة خير المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأن تكون تلك العبادات معينة على زيادة الإيمان، ليكون لها تأثير جلي على النفوس والأبدان، وإلا كانت عباداتنا عادات، وحينها فليخشَ المسلم على نفسه من مشابهة أهل النفاق، الذين يصلون ويركعون ويحجون ومع ذلك لا يُكتب لهم في رصيد الدرجات حسنات؛ بل معاصٍ وسيئات، وسبب ذلك أن تلك العبادات لم تخالط سويداء قلوبهم، فصيَّرتهم إلى ماصيَّرتهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].

كما أنه من اللازم لنا حيث أننا عبيد لله سبحانه أن نقر بوجوب التسليم للنصوص الشرعية، سواء أدركت الحكمة أو لم تُدرك، وأن نعلم أن تلك العبادات شرف لنا، ورفعة لمقامنا عند ربنا، بل إن من تمام حرِّيتنا لله كمال عبوديتنا له سبحانه، وقد أحسن القاضي عياض حين قال:

ومـمّـَا زادني شـرفًا وتـيـهـًا       وكدت بأخمصي أطؤ الثريَّا

دخولي تحت قولك يا عبادي     وأن صيَّرت أحمد لي نبـيـًا

ومن هنا، فإن الصوم شرع لمعانٍ سامقة، وحكم براقة، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: والمقصود: أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وحمية لهم وجنة (4).

تحقيق التقوى بعبودية الله عز وجل:

الصوم عبادة يتقرب بها العبد لربِّه بترك محبوباته، وقمع شهواته، فيضبط نفسه بالتقوى ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل مكان وزمان، ولهذا يقول المولى سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183], وإذا تأمَّلنا أمره تعالى لعلَّنا نستنتج أنَّ هذا  من باب التسلية للمؤمنين حين أوجب عليهم الصيام، فبيَّن لهم أنَّه قد فرض الصيام على من كان قبلهم من الأمم في الدهور المنصرمة، فلا يتعجبوا حين فرض عليهم الصوم، ثمَّ قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهذا هو المقصد الأسمى، في حكمة مشروعية الصيام.

فهو لجام المتَّقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنَّ الصائم لا يفعل شيئًا، وإنَّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذّذاتها إيثارًا لمحبَّة الله ومرضاته، وهو سرٌّ بين العبد وربه لا يطَّلع عليه سواه، والعباد قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمَّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمر لا يطَّلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم (5).

ولهذا فإنَّ من تقوى المسلمين الصائمين لربِّهم أنَّهم لو ضربوا على أن يفطروا في شهر رمضان لغير عذر لم يفعلوا، لعلمهم بكراهية الله لإفطارهم في هذا الشهر، ولا ريب أنَّ هذا كما قال ابن رجب: من علامات الإيمان حيث يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أنَّ الله يكرهه (6)؛ بل إنَّ هذا من أبلغ حكم الصيام لتدريب النفس على التقوى ومحاسبة النفس على التقصير والنقص.

وصدق الله حين قال عن حكمة تشريع الصوم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فإنَّ من أعظم العبادات التي يتدرب بها العبد على ممارسة التقوى والتكيف معها هي عبادة الصيام، ولأجل ذا صار من أعظم الطاعات وأجل القربات، ليكون الصائم مقبلًا على الله تعالى، خاضعًا بين يديه، ومجاهدًا نفسه ومحاسبًا لها في تقصيرها، فتكون نتيجة من نتائج التقوى، وقد قال ميمون بن مهران رحمه الله: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه (7).

وحينئذٍ يرتقي الإنسان لمسالك العبودية، ومدارج التميز، لأنَّه حفظ هذه الأمانة، وجعلها منتصبة تجاه عينيه، ولذا صار الصيام سرًا بين العبد وربه؛ لأنَّه قد يخلو الإنسان بنفسه فيكون عنده مثلًا شيء من الطعام، فتتحرك غريزة الأكل لديه، فيقمعها بسلطان التقوى، ويلجمها بلجام المراقبة، فإن عبادة الصوم هي عبادة السر، ولهذا يقول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنَّه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» (8).

فيكون هذا الترك لأجله تعالى طريقًا موصلًا بنا إلى الجنة ومكفِّرًا لذنوبنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (9)، ومعنى إيمانًا: أي إيمانًا بوجوبه، ومعنى احتسابًا: استشعارًا بالأجر عند ربه، كما قاله العز بن عبد السلام في كتابه (10).

ويكفي أنَّ العبد المؤمن يشعر بصيامه أنه عبد لله حقًا، فإن كمال الحرية في تمام العبودية لله، فلا يأكل الإنسان إلا إذا ابتدأ الوقت الذي بينه الله أنه وقت للإفطار، ولا يصوم إلا إذا ابتدأ وقت الصيام، فهي عبودية كاملة لله، وأمانة يؤدِّيها العبد لربِّه.

والحقيقة أن هناك بعض المسلمين يفرط في حفظ هذه الأمانة التي استرعاه الله إياها، فقد حصل من الإنكليز أكثر من مرة امتحان العمال المسلمين بين الصيام وبين خيانة الله فيه، وذلك بإغرائهم بمضاعفة الأجور للمفطرين حتى إذا انتهى الشهر عكسوا الأمر، فضاعفوا أجور الصائمين، ونقصوا المفطرين أو طردوهم، مع التصريح لهم أنهم خونة خانوا دينهم (11).

والشاهد من هذا أن المسلم ينبغي أن يلازم صيامه بتقوى الله في السر والعلن، وأن يكون صيامه على منهاج النبوة والسنة المحمدية، ولهذا فمن يصوم زيادة على ما قدره الشارع الحكيم -كمن يصوم من الفجر إلى العشاء- فإنه ليس من الصوم الذي شرعه الله واتُّقِيَ به، وكذلك من يفطر بعد صيامه على ما حرَّم الله كمن يفطر على الدخان أو الخمر أوغير ذلك من المسميات الخبيثة، فإنَّه لا يعتبر ممَّن جرَّه صيامه للتقوى وملازمة مراقبة الله، وإن كان صيامه ولا شك وفطره على محرَّم أحسن حالًا ممن لا يصوم ويأكل المحرم (12).

ثانيًا: المقاصد التربوية للصيام:

قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم» (13), وقال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (14).

وقال صلى الله عليه وسلم: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» (15).

كل مَن دقق النظر في هذه النصوص الشرعية المباركة، وأعاد قراءتها مرات وكرَّات، سيدرك أن ما تضمنتها من حِكم الصوم وأسرار الصيام كفيل بالحكم على أن شهر رمضان مدرسة تربوية بامتياز، فيها يتدرب الصائمون على مجموعة من المهارات، ومنها يكتسبون جملة من القيم والفضائل التي تؤهلهم لأن يعيشوا أحوالَهم خارجَ رمضان، كما عاشوها داخل رمضان.

ومن المقاصد التربوية التي يمكن استخلاصها من نصوص الصيام هاته، ما يأتي:

1- الانضباط واحترام المواعيد وتقدير الوقت، وهذا المقصد مستفاد من قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187], في آية سورة البقرة السالفة؛ لأن الصائم الذي يُمسك عن الطعام والشراب والجماع، عند أول كلمة يرفعها المؤذن لصلاة الفجر: (الله أكبر)، ولا يتجرأ أن يستمر ويتمادى في الأكل والشرب، ويُفطر كذلك عند أذان المغرب مباشرة، ولا يمكنه أن يفطر قبله ولو ببُرهةٍ من الزمان، لا يمكن لهذا الصائم الذي عاش هذه الأحوال الانضباطية في مدرسة الصيام هاته، أن يُخْلف وعدًا، أو يُهدر وقتًا بعد خروج رمضان؛ لأنه -بكل بساطة- تدرَّب على فضيلة تقدير الوقت واحترام المواعيد في مدرسة الصيام.

ويكفي شاهدًا على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أذن بلال فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم», ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا (16)، والفرق بين أذان ابن أم مكتوم وأذان بلال كما في الحديث: ما بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا.

فلنتأمَّل هذه الدِّقة في كيفية الإمساك عن الطعام وقت الصوم من خلال هذا الحديث، لكي تتربى النفوس على دقة المواعيد، وعلى الاهتمام بالأوقات.

فيتوجب علينا أن نستفيد من الهدي النبوي في أهمية الانضباط في المواعيد، والاهتمام بترتيب الأوقات، ليكون ذلك ديدننا مدى العمر.

2- الصبر وضبط النفس والتخلي عن الخبائث: من المدرسة الرمضانية يتزود الإنسان بشحنة الصبر؛ ليتخرج من هذه المدرسة وقد كمُلت نفسُه، وصُقِلت روحه، ومُلِئَتْ جوانبه بطاقات ضبط النفس، فيواجه ما يَعترضه من شدائد الحياة، ومِحن الزمان، بكل رَويَّة وتعَقُّل، وجَلَدٍ وتَبَصُّر؛ لأن كُنْه الصبر هو قوة خلقية تُمكن الإنسان من ضبط نفسه لتحمُّل المتاعب والمشقات والآلام، وضبطها عن الاندفاع بعوامل الضجر والجزع، والسأَم والملَل، والعَجلة والرُّعونة، والغضب والطيش، والخوف والطمع، والأهواء والشهوات...  

فالصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافعٍ، فكسبُ الرزق يحتاج إلى صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبرٍ، والقيام بالواجبات والمطلوبات الدينية يحتاج إلى صبر، والكف عن المحرَّمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها، وتحمُّل تكاليفها ومشاقِّها يحتاج إلى صبر، وهكذا...

لذلك كان الإنسان بحاجةٍ في كل سنة إلى دورة تدريبية يتدرَّب فيها على خُلق الصبر، وشهر رمضان هو شهر هذه الدورة الخلقية العظيمة الرائعة (17).

أضِف إلى ذلك أن المتخرج من المدرسة الرمضانية، يهون عليه ترك كل خبيث وضار؛ لأنه كما كان قادِرًا أن يصبرَ على آلام الجوع ولسعات العطش مدة غير يسيرة، فإنه قادر كذلك أن يصبر على ما هو أهون من ذلك وأيسر؛ لأن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب أشدُّ ما يكون على الإطلاق.

وعليه، فمدرسة الصيام تُدرب الإنسان على ترك التدخين وما في حكمه؛ لأن مَن تخلى عن الطعام والشراب، لن يُعجزه أن يتخلى عن مثل هذه الخبائث.

وقد جمع الله في هذه المدرسة أنواع الصبر الثلاثة التي ذكرها العلماء وهي:

أ- الصبر على طاعة الله، بأن تصبر نفسك على هذه الطاعة، وتصومها إيمانًا بالله، وابتغاء لدرجاته، واحتسابًا لثوابه .

ب- الصبر على معصية الله، وذلك بأن يتعود العبد على الصوم عما حرم الله عز وجل في هذا الوقت من أكل المفطرات التي تفسد صومه، أو الصبر على المعاصي والفواحش والذنوب وموبقات الأعمال؛ فكلما أراد أن يفعل العبد معصية تذكر أنَّه في صوم وعبادة فيصبر نفسه على عدم فعلها ابتغاء لثوابه سبحانه.

ج- الصبر على أقدار الله، وهذا أمر واقع في الصوم فإن الله عز وجل قد قدر على المسلمين الصيام، وألزمهم به، فيلزمهم أن يطيعوا الله، ويستسلموا لأوامره، وينقادوا لأقداره، ومن ذلك ما يلاقيه المسلم من الجوع والعطش في تأدية هذه العبادة.

وحيث أنَّ الصوم مدرسة للصبر، فهو أيضًا مدرسة لتربية الإرادة، وقد وضع أحد المفكرين الألمان كتابًا في تقوية الإرادة، فجعل الصوم هو الأساس، وذهب فيه إلى أن الصوم هو الوسيلة الفعَّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش المرء وهو قوي الإرادة، متصلب العزيمة (18).

3- مواساة الفقراء والشعور بمعاناة الضُّعفاء: يتخرج العبد المؤمن من المدرسة الرمضانية وقد مَلَكَتْه معاني الرحمة امتلاكًا، واستحوذتْ على قلبه استحواذًا، كيف لا وقد قضى ثلاثين يومًا نُشِرتْ فيها رحمة الله تعالى نشْرًا؟

إن ذلك الشعور اللطيف، والإحساس الجميل، الناشئ عن شدة الجوع والعطش؛ سيُوقظ المؤمن الصائم، ويُحرك فيه جوانبَ الدفء والرحمة بإخوانه الفقراء؛ فالرحمة إنما تنشأ من الألم كما يقول الرافعي رحمه الله: ومتى ملئ قلب الصائم الغني بهذا الإحساس، وهذا الشعور الذي يتولد عن جوع الصوم؛ تحولت جوارحه كلها إلى خدمة الفقير ومساعدته؛ لأنه كما تكثر رحمة الله تعالى على عباده المؤمنين الصائمين في رمضان، فإن واجب الشكر يستدعي منهم أن تتدفق قلوبهم بالرحمة في هذا الشهر المبارك على عباد الله البائسين وذوي الحاجات والضرورات؛ ليكون نصيبهم من رحمة الله أوفر، وليكون حظهم من عطاء الله أكثر.

لأننا حين نتدبر ما رواه البخاري عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (19)، فلا بد أن نلاحظ أن مفتاح تلقِّي رحمة الله العظيمة أن يرحم العبد غيره من الناس المستحقين للرحمة، أما من كان قاسي القلب، لا يندى برحمة نحو عباد الله، فإن قسوة قلبه تحجب عنه استقبال فيوض رحمة الله (20).

خاصة في هذا الشهر الذي هو مهبط الرحمات.

إنَّ الصيام مواساة وإحسانٌ      قضى بذلك قـرآن وبـرهان

نعم الصيام مع المعروف تبذله      وليس فيه مع الحرمان حرمـان

وقد ذكر ابن رجب عن بعض السلف أنَّه سئل: لِمَ شُرِع الصيام؟ فقال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع (21).

لا يعرف الشوق إلا من يكابده        ولا الصبابة إلا من يعانيها

4- تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق: ليست العبرة بصورة الصيام، ولا بصورة الصلاة، ولا بصورة الزكاة، ولا بصورة الحج...، ولكن العبرة بروح هذه العبادات ولبها، ألا وهو (الأخلاق)؛ لذلك وبالنظر إلى النص الثاني والثالث والرابع، يمكننا الجزم بأن الصيام مدرسة إصلاحية، ومحطة من محطات تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق؛ لأن الشرع الحنيف بالغ في النهي عن مجموعة من السلوكات الشائنة في رمضان، وإن كانت هذه السلوكات شائنة في رمضان وفي غيره من الشهور والأزمنة، فإن الشرع استعظَمها واستقبَحها في هذا الشهر الكريم لِما له من حرمة وقدسية.

إن الأزمات التي تعيشها الإنسانية الآن في جميع الأقطار والأمصار، وعلى كافة المستويات والمجالات، إنما يرجع أصلها إلى أزمة واحدة فقط، هي أزمة الأخلاق والقيم.

فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها بعض الأمم الآن إنما ترجع في الأصل إلى الأزمة الأخلاقية القيمية؛ لأن الأخلاق هي التي تؤطر الإنسان، وتجعل منه مراقبًا على نفسه، ومحاسبًا لتصرفاته، ومقدِّرًا لمسؤولياته، وقائمًا بمهماته، وحافظًا لأماناته ... فإذا حضر الوازع القيمي، غابت الظواهر التي تضرب النهضة والانبعاث في مقتل؛ مِن سرقة، واختلاس، وغش، وتزوير، وكذب، ونفاق، وخداع؛ لذلك ما تعبد الله تعالى الناسَ بهذه العبادات، وما افترَض عليهم هذه الفرائضَ والواجبات، إلا ليجعَل منهم عبادًا أطهارًا يمشون على الأرض، فالله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فصيامنا وصلاتنا وزكاتنا وحجنا، لا يزيد في ملك الله ولا ينقص منه شيئًا؛ {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].

فإذا تتبَّع القارئ الحصيف المواردَ التي ورَد فيها ذكرُ الفرائض الدينية، والشعائر الإسلامية العظيمة في القرآن والسنة؛ سيجد أن الله تعالى كلما ذكر فريضة من الفرائض، ذكر عقبها قيمةً حميدة، أو سلوكًا شائنًا؛ كتعليلٍ لمشروعية تلك العبادة، ومن المعلوم أن النص الشرعي إذا علل بعلة، أو قيد بقيد، فروح تلك العبادة هو ذلك القيد وتلك العلة.

وخذ معي على سبيل المثال شعيرة الصلاة، فقد ذكرها الله تعالى وذكر عقبَها الفحشاءَ والمنكر، فقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

وخذ معي كذلك شعيرةَ الحج، فقد ذكرها الله تعالى وذكر عقبها الرفث والفسوق والجدال، فقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].

وخذ معي أيضًا شعيرة الزكاة، فقد ذكرها الله تعالى وذكر عقبها العفة، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 4- 5].

وخذ معي كذلك شعيرةَ الصيام فقد ذكَرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عقبها الرفث والصخب، والتساب والتقاتل، وقول الزور والعمل به.

فذِكرُ هذه الأخلاق والسلوكات عقب هذه الشعائر العظيمة، مشعر بأن هذه الفرائض ما شرعت إلا لمقصد تهذيب السلوك وتقويم الأخلاق، بل من أجل هذا المقصد ظهرت البَعثة المحمدية وجاء الدين كله؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق» (22).

يقول ابن القيِّم رحمه الله: وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحَّتها؛ فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات (23).

ويقول الإمام الكمال بن الهمام أحد فقهاء الحنفية في فوائد الصوم: أنَّ الصوم يسكن النفس الأمَّارة بالسوء ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلُّها (24).

أنَّ للصوم تأثيرًا كبيرًا في دفع الشهوات وكسر حدَّتها، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنَّة» (25).

ذكر مصطفى السباعي حين حديث: «الصوم جنَّة» ثم عقب قائلًا: فقد قدم الحكمة من الصيام ثمَّ بيَّن آدابه، ليكون أوقع في النفس وأعمق أثرًا، وليكون المؤمن أكثر اطمئنانًا إلى العبادة حين يؤدِّيها، وإلى التشريع حين ينفذه (26).

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظُّه من قيامه السهر والتعب» (27).

والمقصد: أنَه ينبغي على المرء أن يكون بكليَّته صائمًا عمَّا حرَّم الله في شهر رمضان وفي غيره من الشهور؛ فإنَّ رمضان هو المحطة السنوية للغسيل الروحي، وليس يعني ذلك أنَّ المسلم إذا صام عن المحرمات في رمضان، أنَّه يجوز له أن يقترف ما حرَّم الله من المعاصي والموبقات في غير هذا الشهر؛ فليكن رمضان زادًا إيمانيًا لكل الشهور القادمة من بعده، ودورة تربوية يزداد فيها رصيد العمل الصالح، ويكثر فيه محاسبة النفس ومنعها من الحرام.

وقد ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله أنَّ بعض السلف قال: أهون الصيام ترك الشراب والطعام، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء (28).

فالحذر كلَّ الحذر من إبطال الصيام بالموبقات، وقد كان بعض العلماء يرى أنَّ الغيبة تبطل الصيام ويحتاج المرء لقضاء هذا اليوم الذي فاته.

قال مجاهد بن جبر المكي: خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة والكذب، وقال سفيان الثوري: الغيبة تفسد الصوم (29).

من المقاصد الفرعية للصيام:

أولًا: إحياء وتجديد وبعث للأمة:

باستقصاء أوامر الشرع ونواهيه نجد أنها تهدف إلى إحياء المسلم والأمة، وإعادة بعثهما حضاريًّا وخلقيًّا وقيميًّا؛ ليتمكن المسلم من تحقيق المقصود من خلقه، وهي العبودية لله تبارك وتَعَالَى وإعمار الأرض، وتعبيد الناس لرب الناس، وإخراجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأنظمة الأرضية إلى عدل الإسلام.

جاءت الإشارة جلية إلى هذا المقصد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

والإحياء هنا كما يقول المفسرون: والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان، فيعم كل ما به ذلك الكمال من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخلق الكريم، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة، فالشجاعة حياة للنفس، والاستقلال حياة، والحرية حياة، واستقامة أحوال العيش حياة (30).

إنه إذا كانت الأمة الإسلامية تسعى لإحياء جديد لها، وبعث حضاري، وهيبة لها بين الأمم؛ فهذا سبيلها الذي لا يمكنها تحقيق شيء مما تقدم بدونه.

إن الصوم يأخذ بحظ وافر من عملية الإحياء والبعث الحضاري والقيمي للمسلمين؛ لأن عملية إحياء أي أمة لا تحتاج فقط إلى وفرة موارد وثروات مادية وبشرية بقدر ما تحتاج إلى نفوس زكية، وإرادة قوية، وعزيمة، وصبر، وإخلاص، واستقامة في الخلق، وانضباط واحترام للآخر، وكف الأذى عنه، وكل ذلك من ثمار الصوم ومقاصده.

ثانيًا: إحياء الضمير، وتجديد الطاقة الإيمانية الدافعة لكل خير:

كثيرًا ما يعتري النفس والقلب فتور بعد نشاط، وخمول بعد همة، ويعلو الران والصدأ القلب فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، بل قد تموت النفوس والقلوب، وتنعدم الضمائر فلا يقوى صابحها على مجابهة المغريات، وكبح جماح الشهوات واستعبادها له، لا ينهض لفضيلة، ولا يثور لكرامة، ولا يبحث عن مجد، ولا يمد يده لغيره بالخير، ولا يتقن عملًا، ولا يحافظ على عِرض، ويخر صريعًا أمام شهوة مال أو جنس.

أما الضمائر الحية، والنفوس الزكية، والقلوب النقية فهي صانعة المجد، تبحث عن معالي الأمور وتكره سفسافها، تكثر عند الفزع وتقل عند الطمع، تردع صاحبها وتكفه عن كل مكروه وخيانة.

وهنا تأتي العبادات اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية من صلاة وصيام وصدقات وحج لتجدد الإيمان، وتُعلِي الهمة، وتُزكي النفس، وتحيي الضمير فيستمر المسلم في أداء وظيفته التي خلق من أجلها في عبوديته لله تَعَالَى، وإعماره الأرض.

ثالثًا: التحرر من عبودية الهوى وذل الشهوات:

لقد خلق الله تَعَالَى الإنسان كريمًا متحررًا من كل عبودية أو استرقاق إلا لله تَعَالَى، عزيزًا لا يذل نفسه ولا تنكسر أمام شهوة، أو مغنم بل يكون مرفوع الرأس مستعليًا بإيمانه {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].

إن تحرر الإنسان وعزته هما من أهم وآكد الفرائض الشرعية التي يجب على الإنسان المسلم تحقيقها، وقد جاءت أركان الإسلام الخمسة لتحقق هذا المراد لو أحسنا القيام بها وتحققنا من مقاصدها (31).

رابعًا: حفظ الصِّحَّة:

من حِكَمِ الصيام؛ أنَّ فيه فوائد صحية كثيرة وفيه راحة للبدن، وإجازة للجهاز الهضمي لإعطائه فترة من الزمن يستريح فيها من الامتلاء والتفريغ فيحصل له استجمام وراحة يستعيد بها نشاطه وقوته، ولا شك أنَّ المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، كما قال طبيب العرب الحارث بن كلدة.

وليس من شكٍّ أنَّ الصوم فيه صحَّة وراحة للإنسان، وأنَّه مقاوم لأمراض عدَّة قد تجتاح جسم الإنسان، أو أنَّه يخفف من وطئتها إذا ابتلي بها الجسم، ومن فوائد الصيام الصحية: الوقاية من الأمراض وخاصة أمراض المعدة، وزيادة الوزن، وزيادة الدهون، وزيادة الضغط، والسكري، والتهاب المفاصل.

ولهذا فإنَّ بقراط الملقب بأبي الطب اليوناني قد استعمل الصوم كعلاج خلال الأيام الأولى من المرض، وكان يصف أنواعًا مختلفة من الصوم تتناسب مع المرض الذي يصاب به الشخص المريض (32).

تقول الدكتورة أميَّة لحود: لقد أجريت عدَّة تجارب على بعض الطلاب، أثبتت أنَّ الصوم لفترة قصيرة يزيد في قدرة هؤلاء الطلاب الذكائية والفكرية، ويجعل منهم طلابًا يملكون منهم قدرة أكثر على استيعاب دروسهم وحفظها، أمَّا السبب لكل هذا فهو أنَّ الصوم يتيح للجسم أن يطرح كل السموم المتراكمة، فيصبح الدم نقيًا، ويتغذى به الدماغ بطريقة أفضل (33).

ولا ريب أنَّ ذلك يوضح عظمة الخالق سبحانه وتعالى في أنَّه ما شرع لنا شيئًا إلا وفيه من سبل الخير والنفع الشيء الكثير.

ولقد وعى الأطباء أهمية الصوم وصاروا يقدمونه على كثير من أنواع الأدوية والعلاج، فيقول الدكتور نيكولاي: إنَّه من المهم أن نطلب من المريض أن يصوم ويخسر بعضًا من وزنه من أجل أن يحصل على الشفاء التام، خير من أن نملأ بطنه بالعقاقير والأدوية وجميع أنواع الغذاء.

وقد ذكر الشيخ محمد رشيد رضا عن بعض أطباء الإفرنج أنَّه قال: صيام شهر في السنة يذيب الفضلات الميتة في البدن منذ سنة (34).

بيد أن بعض الناس لا يعطون لهذا الشهر مقصده من ذلك لترويض النفس على التقلُّل من الأكل، كما ذكر الإمام الغزالي بأنَّ مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى (35).

والعجب حين تجد كثيرًا من الناس حين يقدم هذا الشهر المبارك يذهب إلى السوق ويشتري من الحاجيات ما يفوق شراءه لأكثر من ثلاثة أشهر، من المأكولات والمشروبات والحلويات وما إلى ذلك، وكأن هذا الشهر شهر أكلات ووجبات؛ ولهذا زادت كثير من أمراض الناس لكثرة أكلهم، حتى إن الإنسان لو ذهب إلى المسشفيات لوجد أنَّ أكثرها من قسم الباطنية والأمراض المتعلقة بكثرة الأكل والشرب، حتى إنه صار ملحوظًا كثرة السمنة والترهل بسبب كثرة المطعومات وإدخال الطعام على الطعام، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31], قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الآية الطب كله.

وقد كان أسلافنا الكبار ينهون عن كثرة الأكل؛ فقد قال لقمان لابنه: يا بني؛ إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.

وقال حاتم الطائي وهو المشهور بكرمه:

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله       وفرجك نالا منتهى الذمِّ أجمعا

ولهذا فقد ذكر علماء الطب أن تناول الفطور حتى الشعور بالتخمة يؤدي إلى إفساد الفوائد الصحية للصوم، ولهذا فإنه ينبغي على المسلم أن يكون محافظًا على تلك الفوائد المجنية من شهر الصيام، ولا يفسدها بكثرة الأكل والإسراف في المشتريات من المطعومات، ولقد قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: من الإسراف الأكل فوق الشبع، ومن الإسراف الاستكثار من المباحات والألوان، ومن الإسراف أن يضع على المائدة من ألوا ن الطعام فوق ما يحتاج إليه الأكل (36).

خامسًا: تجديد الطاقة، وتوجيه الهمَّة نحو العمل:

ومن مقاصد هذا الشهر تعويد البدن على العمل والحركة والنشاط، وكثرة الطاعات، وألوان العبادات، وأشكال البر والخيرات؛ ذلك أنَّ في هذا الشهر حيوية واضحة، ودورة إيمانية تربوية لائحة.

ومن يلاحظ كثيرًا من دور المسلمين وبيوتهم خلال هذا الشهر، فسيجد فيها الركود والتثاقل عن العمل، أو أنَّ بعضهم يبدأ هذا الشهر بهمَّة وثابة، وعزمة تواقة لكل خير، وما أن تمضي خمسة أيام أو عشرة حتَّى تجد الركود قد سرى في جسمه، والكلل بان على محياه، والملل صار طابعه في العمل.

لكنَّ الملاحظ في حياة الصحابة والسلف الصالح؛ قوَّة النشاط في تحري الخير، وكثرة العمل الصالح في هذا الشهر، ومن ذلك الغزوات والسرايا الكثيرة التي خرجت للجهاد في سبيل الله، ومنها معركة بدر في اليوم السابع عشر من رمضان للسنة الثانية من الهجرة، وفتح مكة في اليوم العاشر من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، وقد كان هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتت من بعده الفتوحات الإسلامية العظيمة، التي شرَّفت وجه الأمة الإسلامية بكثرتها لإدخال الناس في سبيل الله، وتحطيم الطواغيت التي تحول بين عوام الكفار وبين الدخول في الإسلام.

والمراد أنَّه ينبغي على أهل الصيام أن يشدوا عزائمهم في السير نحو كلِّ طاعة، ويواصلوا عملهم الصالح في هذا الشهر، ويواكبوا مع تلك الأعمال الصالحة، حسن الخلق والبشاشة في وجوه الخلق، وقد أخرج الإمام أحمد في المسند بسند حسن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: «إنَّ الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» (37)، فما البال وأهل الصيام صائمون في شهر رمضان، فماذا سيدركون مع صومهم وحسن خلقهم من الأجور الكثيرة، والحسنات الغزيرة من الكريم المتعال؟ (38).

_____________

(1) موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (10/ 141).

(2) الموافقات (2/ 390).

(3) أخرجه النسائي (2334).

(4) زاد المعاد (2/ 30).

(5) زاد المعاد (2/ 29).

(6) لطائف المعارف (ص: 288).

(7) صفة الصفوة (2/ 361).

(8) أخرجه البخاري (5927).

(9) أخرجه البخاري (38), ومسلم (760).

(10) مقاصد الصيام (ص: 34).

(11) الصوم مدرسة تربي الروح (ص: 36).

(12) مقاصد الصيام/ خباب بن مروان الحمد.

(13) أخرجه البخاري (1904), ومسلم (1151).

(14) أخرجه البخاري (1903).

(15) أخرجه النسائي (3236).

(16) أخرجه النسائي (639).

(17) الصيام ورمضان في السنة والقرآن (ص: 157- 158).

(18) الصوم مدرسة تربي الروح/ عبد الرحمن الدوسري.

(19) أخرجه البخاري (7376).

(20) الصيام ورمضان في السنة والقرآن (ص: 151- 152).

(21) لطائف المعارف (ص: 314).

(22) مسند الشهاب (2/ 192).

(23) زاد المعاد (2/ 29).(24) فتح القدير (2/ 300).

(25) أخرجه مسلم (1151).

(26) أحكام الصيام وفلسفته (ص: 53).

(27) أخرجه ابن ماجه (1690).

(28) لطائف المعارف (ص: 292).

(29) إحياء علوم الدين (1/ 329).

(30) التحرير والتنوير (9/ 313).

(31) مقاصد الصوم وحِكَمَه التشريعية/ الجمعية الشرعية.

(32) انظر: الصوم علاج كلِّ الأمراض (ص: 8).

(33) الصوم علاج كل الأمراض (ص: 19- 20).

(34) تفسير المنار (2/ 145).

(35) إحياء علوم الدين (1/ 230).

(36) كتاب الكسب للشيباني (ص: 79- 83).

(37) أخرجه الحاكم (199).

(38) مقاصد الصيام/ خباب بن مروان الحمد.