ولا تستوي الحسنة ولا السيئة
تبليغ الدعوة إلى توحيد الله وطاعته واجب في الإسلام، والإرشاد إلى الخير والسلامة والأمان منهاج أهل الحق، المحبين للإنسانية، السالكين مع غيرهم ما يحبونه لأنفسهم، فإن أهل الإيمان يصلحون أنفسهم أولًا، ثم يحاولون إصلاح غيرهم، وتكون مرتبة تربية النفس وإعدادها معروفة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} [فصلت:30]، ثم تأتي مرتبة دعوة الآخرين إلى الهدى والخير.
عن معمر قال: «تلا الحسن: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، قال: (هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله)»(1).
ولكن قد يصيب صاحب الدعوة من النصب والهم والغم الشيء الكثير، فيقابل السيئة بالحسنة والإساءة بالعفو، والإعراض بالصفح، قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34].
قال ابن كثير: «وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34]؛ أي: فرق عظيم بين هذه وهذه، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر رضي الله عنه: «ما عاقبتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه».
وعن ابن عباس في تفسير هذه الآية: «أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم»(2).
قال صلى الله عليه وسلم: «صِلْ من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك»(3).
يحافظ الإسلام على النفس والجسد في الإنسان، فيجب على الإنسان أن يكون لطيفًا راضيًا لا عنيفًا متمردًا، وأن يكون هادئًا متأنيًا لا ثائرًا عجولًا، وغير ذلك مما يحفظ عليه روحه ونفسه الصافية، وجسده القوي.
إن الدعاة إلى الله بحاجة أن يتمثلوا بهذه الحقيقة، ويكونوا في مستوى هذه المنزلة الرفيعة، فالدعوة إلى الله تحتاج دائمًا إلى جيل متميز، يصبر على مشاق الدعوة، ويجتاز الصعاب.
ومن المعلوم بداهة أنه لا تساوي بين الفعلة الحسنة، التي يرضى الله بها ويثيب عليها، وبين الفعلة السيئة، التي يكرهها الله ويعاقب عليها، والمداراة من الحسنة، والغلطة من السيئة، فادفع، أيها الداعية المخلص، من أساء إليك بالإحسان إليه، بواسطة الكلام الطيب، ومقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر والحلم، وادفع أمورك وما يعرض لك مع الناس، ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن الفعلات والسير، ومنها: بذل أو إفشاء السلام، وحسن الأدب، وكظم الغيظ، والسماحة في القضاء والاقتضاء، وغير ذلك، وهذه آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه الله تعالى من الشيطان، وخضع له عدوه».
ولا شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن، فإذا كان بينك وبين غيرك عداوة فقابلت الإساءة بالإحسان صار العدو كالصديق.
وما يتقبل هذه الوصية أو الموعظة ويعمل بها، ويروّض نفسه على هذه الخصلة، وهي دفع السيئة بالحسنة، إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، والصبر شاق على النفوس، والصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها، وكذلك لا يتقبل هذه الوصية إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ في الثواب والخير، والآية مدح للصابرين ووعد لهم بالجنة.
وطريق التغلب على أهواء النفس ونزواتها هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فإن وسوس إليك الشيطان، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها، فاستعذ بالله من شره، والتجئ إلى الله لكفّه عنك ورد كيده، فالله هو السميع لاستعاذتك منه، والتجائك إليه، العليم بوساوس الشيطان، وبما يعزم عليه الإنسان(4).
ومن الأمثلة الطيبة على مقابلة السيئة بالحسنة ما رواه جابر رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلةُ في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس في العضاه، يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سَمُرةٍ، فعلَّق بها سيفه، قال جابر: فَنِمْنا نومةً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخْتَرَطَ سيفي وأنا نائم، فاستيقظتُ وهو في يده صَلْتًا، فقال لي: مَنْ يمنعك منِّى؟ قلت: الله، فها هو جالس»، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم(5).
{وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَة}؛ أي: لا يتساوى فعل الحسنة مع فعل السيئة؛ بل بينهما فرق عظيم في الجزاء وحسن العاقبة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ أي: ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن؛ مثل أن تدفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإِساءة بالعفو(6).
لا يستوي الخير والشر، لا يستوي الحق والباطل، لا يستوي المعروف والمنكر، لا يستوي الكلام الطيب والكلام الخبيث، ونتيجة ذلك، دعويًا، لا تستوي الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن والدعوة إليه بالتي هي أخشن، لا يستوي في ميزان الله من يقرب الناس من الله ويعرفهم بجماله وجلاله ومن ينفرهم عنه ويجهلهم بقدره، وإن ظن أنه بذلك يحسن صنعًا، فلا تغتر به(7).
كم يعلو قدر الإنسان، وتشرُف منزلته حينما يصل إلى هذه المنقبة العظيمة والخَلَّة الكريمة، التي لا يقوى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص، ولا يستطيع أن يصل إلى أعتابها إلا من جاهد نفسه حق المجاهدة، وفطمها عن شهواتها؟!
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} لا تستويان في الجزاء وحسن العاقبة، فالْحَسَنَةُ ما ترضي الله ويتقبلها، والسَّيِّئَةُ ما يكرهها الله ويعاقب عليها.
وقيل: معناه: لا تستوي الحسنات؛ بل تتفاوت إلى حسن وأحسن، وكذا السيئات، فادفع السيئة التي ترد عليك بالحسنة التي هي أحسن من أختها مثلًا، وتحسن إلى من أساء إليك فلا تكتفي بمجرد العفو عنه(8).
قال العلَّامة السعدي: «أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك؛ كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءة بالقول أو الفعل فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصِلْهُ، وإن ظلمك فاعفُ عنه، وعامله بالقول اللين، وإن هجرك وترك خطابك فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة»(9).
قال الشيخ أبو بكر الجزائري: «فالإيمان لا يساوى بالكفر، والتقوى لا يساوى بالفجور، والعدل لا يساوى بالظلم.
كما أن جنس الحسنات لا يتساوى، وجنس السيئات لا يتساوى بل يتفاضل، فصيام رمضان لا يساوى بصيام رجب أو محرم تطوعًا، وسيئة قتل المؤمن لا تستوي مع شتمه أو ضربه»(10).
وهذا ما حدث مع ثمامة بن أُثال، ملك اليمامة وسيد من سادات بني حنيفة المرموقين، كما روى سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: «عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تُنْعِم تنعمِ على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت»، فَتُرِكَ حتى كان الغد، ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟»، قال: «ما قلت لك، إن تُنْعِم تنعمِ على شاكر»، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: «عندي ما قلت لك»، فقال: «أطلقوا ثمامة».
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد، والله، ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله، ما كان من دِين أبغضَ إلىَّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ، والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟»، فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.
فلما قدم مكة قال له قائل: «صبوت؟»، قال: «لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم»(11).
ولما انصرف إلى بلده، ومنع الحمل إلى مكة، فجهدت قريش، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم، إلا كتب إلى ثمامة يخلي لهم حمل الطعام، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم(12).
إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله في مواجهة التواءات النفس البشرية، وجهلها، واعتزازها بما ألفت، واستكبارها أن يقال: إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق، ولكنه شأن عظيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحًا وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتوارى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة لله، ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض، أو بسوء الأدب، أو بالتبجح في الإنكار، فهو إنما يتقدم بالحسنة، فهو في المقام الرفيع، وغيره يتقدم بالسيئة، فهو في المكان الدون: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ}.
وليس له أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها، كما لا تستوي قيمتها، مع السيئة والصبر والتسامح، والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر، يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات، وينقلب الهياج إلى وداعة، والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء على كلمة طيبة، ونبرة هادئة، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام!
ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجًا وغضبًا وتبجحًا ومرودًا، وخلع حياءه نهائيًا، وأفلت زمامه، وأخذته العزة بالإثم.
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها؛ حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفًا، ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقًا.
وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية، لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها، فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها، أو الصبر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وهذه الدرجة، درجة دفع السيئة بالحسنة، والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب، والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى، درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان، فهي في حاجة إلى الصبر، وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به الله على عباده الذين يحاولون فيستحقون: {وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
إنها درجة عالية إلى حد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لم يغضب لنفسه قط، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، قيل له، وقيل لكل داعية في شخصه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
فالغضب قد ينزغ، وقد يلقي في الروع قلة الصبر على الإساءة، أو ضيق الصدر عن السماحة، فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية، تدفع محاولاته لاستغلال الغضب، والنفاذ من ثغرته.
إن خالق هذا القلب البشري، الذي يعرف مداخله ومساربه، ويعرف طاقته واستعداده، ويعرف من أين يدخل الشيطان إليه، يحوط قلب الداعية إلى الله من نزغات الغضب، أو نزغات الشيطان، مما يلقاه في طريقه مما يثير غضب الحليم.
إنه طريق شاق، طريق السير في مسارب النفس ودروبها وأشواكها وشعابها، حتى يبلغ الداعية منها موضع التوجيه ونقطة القياد!(13).
الداعية مختلف عن غيره؛ فعله وقوله، سمته وهديه، معاملاته وأخلاقه وسلوكياته، لا يتساوى في هذا مع أحد؛ بل هو أفضل من أي أحد؛ لأنه محط الأنظار، وموضع العظة والاعتبار، فعله حسن، وقوله حسن، وقصده حسن.
والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]، وما ذكروه في قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، فكأنه قال: يا محمد، فعلك حسنة، وفعلهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبًا للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعًا لك من الاشتغال بهذه الحسنة(14).
وهل يتسنى للداعية، المعلم المربي الدال على الله، أن يقابل من أساء إليه بمثل عمله؟ فبماذا اختلف عنه، إنه في موطن أعلى لا يليق به أن يتركه لينتقم لنفسه ويتشفى من خصمه.
قال القاشاني: «أي إذا أمكنك دفع السيئة من عدوك بالحسنة، التي هي أحسن، فلا تدفعها بالحسنة التي دونها، فكيف بالسيئة؟ فإن السيئة لا تندفع بالسيئة؛ بل تزيد وتعلو ارتفاع النار بالحطب، فإن قابلتها بمثلها كنت منحطًا إلى مقام النفس، متبعًا للشيطان، سالكًا طريق النار، ملقيًا لصاحبك في الأوزار، وجاعلًا له ولنفسك من جملة الأشرار، متسببًا لازدياد الشر، معرضًا عن الخير، وإن دفعتها بالحسنة سكّنت شرارته، وأزلت عداوته، وتثبت في مقام القلب على الخير، وهديت إلى الجنة، وطردت الشيطان، وأرضيت الرحمن، وانخرطت في سلك الملكوت، ومحوت ذنب صاحبك بالندامة»(15).
إن ثمة حقيقة في غاية الأهمية والخطورة؛ وهي أن بعض صفوف الدعاة قد يكدرها بعض الأذى والسوء، فقد أصبح الشغل الشاغل لبعض الجهلة والقاعدين البطالين هو الوقوع في أعراض إخوانهم، ثم اشتغل آخرون بإشاعة السوء والنميمة، يفرون في أعراض الناس فريًا، ولا يقيمون وزنًا لكبير ولا صغير، ولا يخافون الله تعالى في لحوم إخوانهم!!، واشتغل بعض من جرحهم هؤلاء بالرد عليهم وتبرئة ساحتهم، وإذا كان بعض ذلك مشروعًا، إلا أن الخوف، كل الخوف، أن يتحول إلى مجرد انتصار للنفس وتنفيس للهم، ينشغل بذلك عن الأوْلى والأهم.
أما النفوس العليَّة الكبيرة، العامرة بنور القرآن وذكر الرحمن، فإنها لا تلتفت إلى هذه الصغائر، ولا تشغلها تلك التوافه عن السير قُدُمًا في هذا الطريق؛ فالناس في شغل، وأولئك الأبرار في شغل آخر، الناس في قيل وقال، وأولئك الأطهار لهم شأن آخر وهم أعظم، ومن نذر نفسه وجنّد وقته لخدمة دين الله تعالى، فأسهر ليله، وأشغل نهاره في تتبع أحوال المسلمين وعلاج مشكلاتهم، أيجد في نفسه اطمئنانًا لسماع الوشاة، أو رغبة في الانتصار للذات؟!(16).
***
_________________
(1) توفيق الرحمن في دروس القرآن (3/ 714).
(2) تفسير ابن كثير (7/ 181).
(3) أخرجه الألباني في صحيح الجامع (3769).
(4) التفسير الوسيط، للزحيلي (3/ 2308).
(5) أخرجه البخاري (4134).
(6) صفوة التفاسير (3/ 114).
(7) منهج التعرف إلى الله والتعريف به، مجلة البيان (العدد:180).
(8) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (5/ 87).
(9) تفسير السعدي، ص313.
(10) أيسر التفاسير، للجزائري (4/ 577).
(11) أخرجه البخاري (4372).
(12) أسد الغابة في معرفة الصحابة (1/ 348).
(13) في ظلال القرآن (5/ 3121-3122).
(14) تفسير الرازي (27/ 564).
(15) محاسن التأويل (8/ 340).
(16) سلامة الصدر، مجلة البيان (العدد:151).