logo

المجتمع الرباني


بتاريخ : الأحد ، 23 محرّم ، 1441 الموافق 22 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
المجتمع الرباني

المجتمع الرباني هو مجتمع تسوده روح الإسلام وتعاليم القرآن، مجتمع يقوم على مبدأ مطلق العبودية الكاملة لله تعالى، وعلى هذا تقوم نظمه وقوانينه وأحكامه، والذي يسعى إليه المجتمع المسلم وأفراده هو تحقيق الصورة المثالية للإسلام، والتي هي قابلة للتطبيق الواقعي، وجهد المسلمين يتّجه إلى تحقيق ذلك على أرض الواقع.

إن المجتمع الرباني الذي ينشئه الإسلام لا مجال فيه لقيل وقال، وكثرة السؤال، والتدخل في شئون الناس الخاصة؛ لأن أفراده مشغولون بما هو أجل وأكبر، إنهم مشغولون بتحقيق كلمة الله في الأرض، ورفع راياته فوق الربوع، ونشر قيمه بين الناس، والذين ينهضون بهذه الأعمال الجسام لا يجدون وقتًا للخوض في تلك الآثام.

قال سيد قطب، مبينًا أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع الرباني: «والحضارة الإسلامية يمكن أن تتخذ أشكالًا متنوعة في تركيبها العادي والتشكيلي، ولكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة؛ لأنها هي مقومات هذه الحضارة؛ العبودية لله وحده، والتجمّع على آصرة العقيدة فيه، واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة، وسيادة القيم الإنسانية التي تنمّي إنسانية الإنسان لا حيوانيته، وحرمة الأسرة، والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه، وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شئون هذه الخلافة»(1).

لكن هل يمكن أن يتحقق كل هذا في مجتمعنا اليوم، وهل من الممكن أن تسود هذه القيم بين الناس، لتؤسس هذا المجتمع الرباني الذي ننشده؟

إن الإسلام ليس حادثًا تاريخيًا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه، إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة، وهو يواجهها كما واجهها أول مرة، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة.

إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها، وهذه هي (الرجعية) البائسة المرذولة، وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه الرجعية مرة أخرى كذلك، والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة، ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية والغيبوبة في ظلامها الطاغي؛ ظلام التصورات، وظلام الشهوات، وظلام الطغيان والذل، وظلام العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضًا، ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم: {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2].

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر والسطوح والأعماق، انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداءً، حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين، المسلمين لله المخلصين له الدين، فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق.

لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالمًا آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت، عالمًا يعبد فيه الله وحده، بمعنى العبادة الشامل، ولا يعبد معه أحد من العبيد، عالمًا يخرج الله فيه من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، عالمًا يولد فيه الإنسان الحر الكريم النظيف، المتحرر من شهوته وهواه، تحرره من العبودية لغير الله.

جاء هذا الدين ليقيم قاعدة (أشهد أن لا إله إلا الله)، التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري، وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء، فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته، وبناءً على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكًا في خلق الكون وتدبيره وتصريفه، ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلا لله وحده.

ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من الله، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله.

هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد، فأين منها البشرية كلها اليوم؟

إن البشرية تنقسم شيعًا كلها جاهلية؛ شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلًا، وهم الملحدون، فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وشيعة وثنية تعترف بوجود إله، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابًا كثيرة، كما في الهند، وفي أواسط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم.

وشيعة (أهل كتاب) من اليهود والنصارى، وهؤلاء أشركوا قديمًا بنسبة الولد إلى الله، كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله؛ لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية، وقبلوا منهم الشرائع.

وإن كانوا لم يُصَلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلًا، ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم، ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها (الرأسمالية) و(الاشتراكية)، وما إليها، ويقيمون لأنفسهم أوضاعًا للحكم يسمونها (الديمقراطية) و(الديكتاتورية)... وما إليها، ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم.

وشيعة تسمي نفسها (مسلمة)، وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه، حذو النعل بالنعل، خارجة من دين الله إلى دين العباد، فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه، ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم.

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية، وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية، شيعها جميعًا لا تتبع دين الله أصلًا، وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداءً من ناحية العقيدة والتصور، ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع، وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تيه الجاهلية، المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه، وهو يستهدف ابتداءً إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم، تقوم على قاعدة (أشهد أن لا إله إلا الله)، وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده، ولا يعبد معه سواه، وتحقيق ميلاد للإنسان جديد، يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه.

إن الإسلام ليس حادثًا تاريخيًا، وقع مرة ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه، إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد التي واجهها أول مرة.

إن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية، وإن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية، وإن الإسلام اليوم متوقف عن (الوجود)، مجرد الوجود، وإن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تمامًا، ويواجهون ما كان يواجهه صلى الله عليه وسلم تمامًا، وإنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله سبحانه له: {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2].

إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع، متمثلة في سيادة شريعته الربانية، تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحررًا حقيقيًا كاملًا من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد.

وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة، كما هي في ميزان الله؛ لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد، ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد.

لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا، وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب، والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية، فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد كلها تشريع، يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين، ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف، أو بالاصطلاح الإسلامي: (مجتمع جاهلي مشرك)، وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة، ويكون هذا كله صادرًا من الله، لا من هوى فرد، ولا من إرادة عبد، فإن هذا المجتمع يكون مجتمعًا متحضرًا متقدمًا، أَو بالاصطلاح الإسلامي: (مجتمعًا ربانيًا مسلمًا)؛ لأن التجمع حينئذ يكون ممثلًا لأعلى ما في الإنسان من خصائص، خصائص الروح والفكر، فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض، وما إلى ذلك من الروابط، فإنه يكون مجتمعًا رجعيًا متخلفًا، أو بالاصطلاح الإسلامي: (مجتمعًا جاهليًا مشركًا.(

ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض، وما إلى ذلك من الروابط، لا تمثل الحقيقة العليا في الإنسان.

فالإنسان يبقى إنسانًا بعد الجنس واللون والقوم والأرض، ولكنه لا يبقى إنسانًا بعد الروح والفكر، ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة، وهي أسمى ما أكرمه الله به، أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى، عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه، ولكنه لا يملك أبدًا أن يغير جنسه، ولا لونه، ولا قومه، لا يملك أن يحدد سلفًا مولده في جنس ولا لون، كما لا يمكنه أن يحدد سلفًا مولده في قوم أو أرض، فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها، وحين تكون إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع، وتكون الخصائص الإنسانية فيه موضع التكريم والرعاية، يكون هذا المجتمع متحضرًا متقدمًا، أو بالاصطلاح الإسلامي: (ربانيًا مسلمًا)، فأما حين تكون المادة، في أية صورة من صورها، هي القيمة العليا، سواء في صورة (النظرية) كما في الماركسية، أو في صورة (الإنتاج المادي) كما في أمريكا وأوروبا، وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا، التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية، وفي أولها القيم الأخلاقية، فإن هذا المجتمع يكون مجتمعًا رجعيًا متخلفًا، أو بالاصطلاح الإسلامي: (مجتمعًا جاهليًا مشركًا)(2).

مجتمع القيم العليا والأخلاق الحسنة:

إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة، لا في صورة (النظرية)، باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه، ولا في صورة (الإنتاج المادي) والاستمتاع به، فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه، والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه، ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص الإنسان ومقوماته؛ كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية، الملحدة أو المشركة.

وحين تكون القيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية، كما هي في ميزان الله، هي السائدة في مجتمع، فإن هذا المجتمع يكون متحضرًا متقدمًا، أو بالاصطلاح الإسلامي (ربانيًا مسلمًا)، والقيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة ولا مائعة، وليست كذلك قيمًا وأخلاقًا متغيرة لا تستقر على حال، كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين، فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم.

إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان خصائص الإنسان التي ينفرد بها دون الحيوان، وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنسانًا، وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان، وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت، لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها التطوريون، عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية، ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية، ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية، لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة، على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها، وحتمية في نشأتها وتقريرها، إنما تكون هناك فقط قيم وأخلاق إنسانية، يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر، وقيم وأخلاق حيوانية، إذا صح هذا التعبير، يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف، أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية وقيم وأخلاق رجعية جاهلية.

إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة، مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي، إن هذا المقياس لا يخطئ في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته.

وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان، ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية، ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة، رذيلة أخلاقية، إن المفهوم الأخلاقي ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية، أحيانًا في حدود مصلحة الدولة، والكتّاب والصحفيون والروائيون، وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية، تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان: إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية، مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة، من وجهة النظر الإنسانية، وبمقياس خط التقدم الإنساني، وهي كذلك غير إسلامية؛ لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته، وتنمية خصائصه الإنسانية، وتغلبها على نزعاته الحيوانية(3).

مجتمع تربطه العقيدة الصحيحة:

إن الإسلام وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج، ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي، ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة، إنما كان يستهدف إبراز إنسانية الإنسان وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني، وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه(4).

إن العقيدة تمثل أعلى خصائص الإنسان التي تفرقه من عالم البهيمة؛ لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها، وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانًا في هذه الصورة، وحتى أشد الملحدين إلحادًا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيرًا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقًا أساسيًا عن الحيوان.

ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة، في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية، هي آصرة التجمع؛ لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم، ولا تكون آصرة التجمع عنصرًا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم، من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة، ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة، فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة، وليس هناك إلا شئون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة، كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم، هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد، وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارًا، ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد، بكامل حريته، أن يتمذهب به ويعيش(5).

وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي، وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي، الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديمًا وحديثًا إلى آخر الزمان، ولم يعد هناك مجال للجمع بين الإسلام وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة، والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية، التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام وإما أنهم يرفضونه، والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها؛ بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلًا.

ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه، كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، واللغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها، إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية.

إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي، إنما هي تفرض عليه فرضًا، سواء أحب أم كره، فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معًا، أو حتى في الدنيا وحدها، بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضًا لم يكن مختارًا ولا مريدًا، وبذلك تسلب إنسانيته مقومًا من أخص مقوماتها، وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان؛ بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له عن سائر الخلائق، ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص، يجعل الإسلام العقيدة، التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد، هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي، والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية، وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التي لا يد له فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.

ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة، وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى، أن ينشئ مجتمعًا إنسانيًا عالميًا مفتوحًا، يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان، بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي، لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا، وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ حضارة إنسانية تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية، ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض.

ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز خصائص الإنسان في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان؛ كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعًا مفتوحًا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة، وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبًا عضويًا فائقًا في فترة تعد، نسبيًا، قصيرة، وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان(6).

مجتمع يسع جميع البشر:

كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعًا مفتوحًا لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة، وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبًا عضويًا فائقًا في فترة تعد نسبيًا قصيرة، وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.

لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق، العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والإندونيسي والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس، وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية، ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يومًا ما عربية، إنما كانت دائمًا إسلامية، ولم تكن يومًا ما قومية، إنما كانت دائمًا عقيدية.

ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة، فبذلوا جميعًا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد، الذي ينتسبون إليه جميعًا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق، وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ.

وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي، الذي بلغت إليه في يوم من الأيام(7).

مجتمع تعبدي في كل شئونه:

ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف، والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولًا وأخيرًا.

وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة، وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج، ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى العبادة في حياة الإنسان، والنشاط الإنساني لا يكون متصفًا بهذا الوصف، محققًا لهذه الغاية، التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني، إلا حين يتم هذه النشاط وفق المنهج الرباني، فيتم بذلك إفراد الله سبحانه بالألوهية، والاعتراف له وحده بالعبودية، وإلا فهو خروج عن العبادة؛ لأنه خروج عن العبودية؛ أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله، أي خروج عن دين الله.

وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم العبادات وخصوها بهذه الصفة، على غير مفهوم التصور الإسلامي، حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها، وهي أنها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم المعاملات، إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي، باعتبار هذه كتلك شطرًا من منهج العبادة، التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقًا لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله سبحانه بالألوهية.

إن ذلك التقسيم، مع مرور الزمن، جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادات، وفق أحكام الإسلام، بينما هم يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر، لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر، هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله، وهذا وهم كبير، فالإسلام وِحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين، على هذا النحو، فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين، وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه، ويريد، في الوقت ذاته، أن يحقق غاية وجوده الإنساني(8).

إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة المؤمنون على مدار الزمان، إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء.

إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة؛ إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان، لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء(9).

ولا يخسر الإنسان شيئًا كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتمًا بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.

ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد، يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم، سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم، فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها.

ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين، فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء؛ إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة، ونضرب مثالًا لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلًا؛ أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدًا من البشر؟ كل الذين يسمونهم متحضرين، إن الزي المفروض من آلهة الأزياء، سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات... الخ، ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها، أو يفكر في الخروج عنها، ولو دان الناس، في هذه الجاهلية الحضارية لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادًا متبتلين، فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضًا؟!

وإن الإنسان ليبصر أحيانًا بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوءاتها، وهو، في الوقت ذاته، لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارًا للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة، التي لا تملك لها ردًا، ولا تقوى على رفض الدينونة لها؛ لأن المجتمع كله من حولها يدين لها، فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلًا واحدًا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده، وحين يدينون لغيره من العبيد(10).

وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر، وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عند ما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة، سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور.

إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي، ينشأ من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت، في وجه الجاهلية، لإنشائه، وتحددت أقدارها وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.

إنه مجتمع جديد، ومجتمع وليد، ومجتمع متحرك دائمًا في طريقه لتحرير الإنسان، كل الإنسان، في الأرض، كل الأرض، من العبودية لغير الله، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت، أيًا كانت هذه الطواغيت(11).

مجتمع رفيع الذوق:

لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي، وطهر إحساسه بالجمال فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب؛ بل الطابع الإنساني المهذب، وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني، يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان، مهما يكن من التناسق والاكتمال، فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف، الذي يرفع الذوق الجمالي، ويجعله لائقًا بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.

وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات، على الرغم من هبوط الذوق العام، وغلبة الطابع الحيواني عليه والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة، فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات، في مجتمع يتكشف ويتبرج، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان، هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة، ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة.

في المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم، ولا يوجد مبرر، مهما يكن، لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات.

حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس، فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم، وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم(12).

مجتمع متكافل:

إن الإسلام يبدأ بتقرير حق كل فرد في المجتمع المسلم في دار الإسلام، في الحياة، وحقه في كل الوسائل الضرورية لحفظ الحياة، من حق كل فرد أن يأكل وأن يشرب وأن يلبس وأن يكون له بيت يكنه ويؤويه، ويجد فيه السكن والراحة، من حق كل فرد على الجماعة، وعلى الدولة النائبة عن الجماعة، أن يحصل على هذه الضروريات، أولًا عن طريق العمل، ما دام قادرًا على العمل، وعلى الجماعة، والدولة النائبة عن الجماعة، أن تعلّمه كيف يعمل، وأن تيسر له العمل وأداة العمل، فإذا تعطل لعدم وجود العمل، أو أداته، أو لعدم قدرته على العمل، جزئيًا أو كليًا، وقتيًا أو دائمًا، أو إذا كان كسبه من عمله لا يكفي لضرورياته، فله الحق في استكمال هذه الضروريات من عدة وجوه:

أولًا: من النفقة التي تفرض له شرعًا على القادرين في أسرته.

وثانيًا: على القادرين من أهل محلته.

وثالثًا: من بيت مال المسلمين من حقه المفروض له في الزكاة، فإذا لم تكف الزكاة، فرضت الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الإسلام كلها في دار الإسلام، ما يحقق الكفاية للمحرومين في مال الواجدين؛ بحيث لا يتجاوز هذه الحدود، ولا تتوسع في غير ضرورة، ولا تجور على الملكية الفردية الناشئة من حلال(13).

ثمرات الربانية:

هذه الربانية تورث في نفس المؤمن الراحة حين لا يرتاح الناس، والسكينة حين يفزع الناس، والطمأنينة حين يقلق الناس، والأمن حين يخاف الناس، إنه عبد تعلق بربه ويعمل في هذه الحياة منتظرًا لقاء مولاه دون سواه، قال أبو بكر الكتاني كما رواه ابن القيم في المدارج: «جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنًا، فقالوا: (هات ما عندك يا عراقي)، فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال: (عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرقت قلبَه أنوارُ هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله)، فبكى الشيوخ وقالوا: (ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين)»(14).

وتورث هذه الربانيةُ في المجتمع الوحدةَ والقوةَ والتماسك، ومراقبة الله وتقواه، وإتقان العمل، والاهتمام بقضاء مصالح الناس، والسعي في حاجاتهم.

والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات، وأن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات للحياة، بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلًا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه، الذين يريدون من الإسلام هذا لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة، كما يريد له الله.

إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه نظريات بشرية، ومناهج بشرية، ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم، رغبات إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة، يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب نظريات وفروض، تواجه مستقبلًا غير موجود، والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده، عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير، عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله، وألا يتلقوا الشرائع إلا منه دون سواه، وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان الفعلي في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك(15).

كلمة أخيرة:

إن هذا المجتمع لا يقوم حتى تنشأ جماعة من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله، لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد والتصور، ولا تدين لغير الله في العبادات والشعائر، ولا تدين بالعبودية لغير الله في النظام والشرائع، ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة، تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، معه أو من دونه، وتنقي شعائرها من التوجه بها لأحد غير الله، معه أو من دونه، وتنقي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله، معه أو من دونه.

عندئذ، وعندئذ فقط، تكون هذه الجماعة مسلمة، ويكون هذا المجتمع الذي أقامته مسلمًا كذلك، فأما قبل أن يقرر ناس من الناس إخلاص عبوديتهم لله، على النحو الذي تقدم، فإنهم لا يكونون مسلمين، وأما قبل أن ينظموا حياتهم على هذا الأساس فلا يكون مجتمعهم مسلمًا، ذلك أن القاعدة الأولى التي يقوم عليها الإسلام، والتي يقوم عليها المجتمع المسلم، هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لم تقم بشطريها.

وإذن فإنه قبل التفكير في إقامة نظام مجتمع إسلامي، وإقامة مجتمع مسلم على أساس هذا النظام، ينبغي أن يتجه الاهتمام أولًا إلى تخليص ضمائر الأفراد من العبودية لغير الله، في أي صورة من صورها التي أسلفنا، وأن يتجمع الأفراد الذين تخلص ضمائرهم من العبودية لغير الله في جماعة مسلمة، وهذه الجماعة التي خلصت ضمائر أفرادها من العبودية لغير الله، اعتقادًا وعبادة وشريعة، هي التي ينشأ منها المجتمع المسلم، وينظم إليها من يريد أن يعيش في هذا المجتمع، بعقيدته وعبادته وشريعته، التي تتمثل فيها العبودية لله وحده، أو بتعبير آخر تتمثل فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله .

هكذا كانت نشأة الجماعة المسلمة الأولى التي أقامت المجتمع المسلم الأول، وهكذا تكون نشأة كل جماعة مسلمة، وهكذا يقوم كل مجتمع مسلم .

إن المجتمع المسلم إنما ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله، معه أو من دونه، إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ثم من تقرير هذه المجموعات أن تقيم نظام حياتها على أساس هذه العبودية، وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد، مشتق من المجتمع الجاهلي القديم، ومواجه له بعقيدة جديدة، ونظام للحياة جديد، يقوم على أساس هذه العقيدة، وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريه، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله(16).

***

___________________

(1) معالم في الطريق، ص132.

(2) في ظلال القرآن (3/ 1256- 1258).

(3) المصدر السابق (3/ 1258-1259) باختصار.

(4) المصدر السابق (3/ 1561).

(5) المصدر السابق (4/ 1889).

(6) معالم في الطريق، ص47.

(7) في ظلال القرآن (3/ 1563).

(8) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص129-130.

(9) في ظلال القرآن (4/ 1903).

(10) المصدر السابق (4/ 1940).

(11) المصدر السابق (4/ 2010).

(12) المصدر السابق (6/ 3346).

(13) المصدر السابق (2/ 883).

(14) مدارج السالكين (3/ 18).

(15) معالم في الطريق، ص33.

(16) المصدر السابق، ص91.