logo

اللهم بلغنا رمضان


بتاريخ : السبت ، 26 شعبان ، 1444 الموافق 18 مارس 2023
بقلم : تيار الاصلاح
اللهم بلغنا رمضان

رمضان شهر خاص، ومحطة خاصة، وحديثه يجلو القلوب، وشعور غريب لا يشعر به إلا المحبون العاشقون لهذا الشهر، وما فيه من الخير العظيم العميم: كل هذا الشوق، وكل هذا الحنين، وكل هذه المشاعر والعواطف، ومع ذلك هناك من يفرط في رمضان، ويخسر فضله وأجره، وربما لم يشعر ذلك الخاسر بلذة الصيام والقيام، ولا يعرف من رمضان إلا الجوع والعطش، فأي حرمان بعد هذا الحرمان، نعوذ بالله من الخسران.

وتمضي بنا الأيام وتتعاقب الأسابيع وتتوالى الشهور، ويقترب منا قدوم شهر الخير والبركة والرحمات، ويعلو حداء المؤمنين ودعاؤهم الخالد: «اللهم بلغنا رمضان».

إن هذا الشهر نعمة إلهية عظيمة، ليس في الأجور الكثيرة التي أودعها الله فيه، ولا في العتق من النيران فحسب؛ بل لما اشتمل عليه من دروس عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من عرف حكمة الصوم وفائدته، وآثاره على القلب والنفس والبدن، والمجتمع كله.

لقد أضاف الله الصيام إليه ثلاث إضافات: الإضافة الأولى: «كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» (1)، الإضافة الثانية: «لكل عمل كفارة، والصوم لي وأنا أجزي به» (2)، الإضافة الثالثة: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي» (3)، ففي الأولى فائدة الإضافة أن تضعيف الأجر في الصيام لا ينحصر في عدد، بل يضاعفه الله أضعافًا كثيرة بغير حصر عدد.

وفي الثانية فائدة الإضافة أن الصيام يكفر عن العبد المظالم التي عجزت سائر أعماله عن تكفيرها، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة.

وفي الثالثة فائدة الإضافة: أن سائر الأعمال للعباد، والصيام اختصه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده، وجعله له، وهذه الإضافة هي أوسع هذه الإضافات وأشملها؛ إذ الاستثناء فيها لم يتقدمه شيء خاص؛ إذ الأولى فيها تضعيف الأجر بغير عدد، وفي الثانية التكفير بالصوم، وأما الثالثة فليس فيها إلا أن أعمال العباد لهم بدون تخصيص هذه الإضافة بشيء، إلا الصوم فإنه لله.

فما ظنك بعمل أضافه الله إلى نفسه؟! إن فيه من الفوائد والبركات ما لا يمكن حصرها ولا عدها ولا إحصاؤها، كما أن أجره والتكفير به لا يمكن حصره ولا عده.

إن في الصوم تركَ شهوةٍ حاضرةٍ لموعِدِ غَيبٍ لم نره، لا نعلم عنه إلا أنَّا وُعِدْنا به، وفي هذا تصفية للقلب من التعلق بالدنيا وحظوظها، والتطلع إلى ذلك الغيب، الذي هو أفق واسع لا يحد، وبهذا تتهاوى جميع لذائذ الدنيا تحت قدمي العبد الصادق الصابر؛ لما يرى من ذلك الأفق الفسيح، الذي لا يحول بينه وبين بلوغه إلا خروج هذه الروح من هذا الجسد الذي حلت فيه ابتلاء واختبارًا.

إن النفس الإنسانية مجبولة في الدنيا على حب الشهوات والتطلع إليها، وهذه الشهوات إنما وضعت في النفس لأن الحياة لا تقوم إلا بها، فالبدن لا قوام له إلا بالأكل والشرب، والمجتمع لا يمكن استمرار بقائه إلا بشهوة النكاح والجماع، فامتناع العبد عن هذه الشهوات التي بها قوام حياته طاعةً لله معناه أنه قادر على ترك الشهوات التي بها فساد بدنه وهلاك دنياه طاعة لله تعالى (4).

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استقبل شهر رمضان قال: «قد جاءكم رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها، فقد حرم» (5).

والتصوير البلاغي في قوله: «قد جاءكم شهر مبارك افترض عليكم صيامه» يعتمد على مصادر جمالية وأسرار بلاغية، تسمو بالأسلوب النبوي الشريف إلى قمة التأثير القلبي والوجداني، وإلى الإقناع العقلي والحسي والسلوكي، فقد عبر عن فضيلة شهر رمضان وتميزه عن غيره بقوله: «مبارك» بصيغة المفاعلة، لا بالبركة فحسب، للدلالة على أن العمل الصالح فيه يتفاعل ويتكاثر ويزداد، فالفريضة فيه بسبعين فريضة، والنافلة فيه تسمو إلى ثواب الفريضة، والمال فيه يتضاعف حتى لا تجد فيه فقيرًا أو معدمًا، والصدقة فيه تربو وتتكاثر، والجسد فيه يصح ويخلو من الأمراض والعلل حتى يقوى على طاعة الله، وعلى السعي والعمل.

وعبر الحديث الشريف عن الفريضة بالفعل المبني للمجهول «افترض»، ولم يقل: فرض الله عليكم صيامه، للدلالة على أن الفريضة ليست أمرًا فحسب، بل إن الإنسان في حاجة إلى الصيام؛ لتهذيب نفسه وإصلاح بدنه وطبه، فهو الذي يستوجب الفريضة؛ لذلك كان الفاعل حكمًا هنا، وليست ليس الذات العلية، وإنما هو الصائم، لأن في الصيام مصلحته وسعادته، فالله غني عن عباده، فهم محتاجون إليه.

والتصوير البلاغي في قوله: «تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين»، فترجع الأسرار البلاغية فيه إلى عناصر جمالية تضفي على الأسلوب النبوي الشريف الروعة والجمال والقوة والتأثير والإقناع، منها: بناء الأفعال الثلاثة للمجهول لا للمعلوم في «تفتح، وتغلق، وتغل» للدلالة على عموم الفاعل؛ ليدل على أن الإخلاص في هذه الفريضة وكمالها، يكون هو السبب الرئيس في ذلك. فهو الذي يفتح أبواب الجنة، ويغلق أبواب جهنم، ويسد مجاري الشياطين في النفس، ويشمل عوالم أخرى تعلمها كالملائكة وخزنة الجنة وجهنم، وعوالم لا نعلمها يسخرها الله عز وجل لفتح الجنة وغلق جهنم وغل الشياطين، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31].

ويدل التصوير الأدبي أيضًا على أن جميع أبواب الجنة تفتح للصائم، وأولها باب الريان الخاص بالصائمين، فلا يدخل منه غيرهم، وتغلق دونه أيضًا جميع أبواب جهنم، وتغل جميع أنواع الشياطين، فلا يدخل منه غيرهم، وتغلق دونه أيضًا جميع أبواب جهنم، وتغل جميع أنواع الشياطين المختلفة من شياطين النفس من الأبالسة وشياطين الجن الشريرة؛ وشياطين النفس الذاتية، وهي الميل والهوى والشهوة، وفي الحديث الشريف: «لا يصوم عبد يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفًا» (6)، فما بالك بالشهر كله، وبشهور رمضان العمر كله، اللهم بلغنا رمضان ولا تحرمنا أجره العظيم (7).

أهمية الاستعداد:

- هو دأب الصالحين وطريق المفلحين الفائزين فتشبه بهم تكن معهم.

- شهر رمضان وجبة دسمة من الطاعات قد تؤدي إلى التخمة الروحية إن لم توافق شهية قوية وهذا مشاهد في واقع الناس.

- الاستعداد الجيد درعٌ يقي المسلم من الملل والفتور أثناء السباق في شهر رمضان.

- كلما كانت الثمرة أعظم كان الثبات بعد رمضان أطول؛ وما ذلك إلا ثمرة الاستعداد الجيد.

إن هذا الضيف القادم علينا ضيف عظيم مبارك، فينبغي علينا أن نستقبله أعظم الاستقبال، واستقباله اللائق به يكون بأمرين مهمين:

أولًا: تجديد الحياة وتغييرها وتطهيرها، حتى تصلح لاستقبال هذا الضيف العظيم الاستقبال اللائق به، وإنما تجدد الحياة بفتح صفحة جديدة نقية، صفحة طاهرة نظيفة، ولا يكون ذلك يا عباد الله إلا بالتوبةِ، التوبةِ النصوح، التوبةِ إلى الله تعالى، بالرجوع إليه وإلى شرعه المطهر، بإصلاح حياتنا وبرامجنا لتتوافق مع شريعة الله جل وعلا في كل مَنحى من مناحي حياتِنا، بمجانبة كل ما يباعدنا عن الله، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]

لقد قسَّمَ الله تعالى الناس إلى قسمين لا ثالث لهما، فقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأولئكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، قال الإمام ابن القيم: قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثم قسم ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه لجهله بربه وبحقه وبعيب نفسه وآفات أعماله (8).

إن علينا أن نجعل حياتنا في رمضان إيمانية بحق، نصلح حياتنا كلها ونجددها ونصفيها من كل الشوائب، رمضان مصفاة تربوية، لن تجد نفسك أحسن ولا أفضل ولا أقرب إلى الله تعالى منها في رمضان، كل أسباب التقوى مجتمعة فيه، ونفسك مقبلة على الله، فلا تتردد أبدًا في تصفية نفسك، وتنقيتها، وغسلها من كل الشوائب التي علقت بها في جميع الشهور السابقة.

وهذا ما عبر عنه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بقوله: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صيامك، ولا تجعل يوم فطرك وصومك سواء (9).

يجب أن يكون رمضان كما أراده الله جل وعلا، محطة تنقية وتنظيف وتطهير ورجوع كامل إلى الله تعالى، وهذا ما عَّبر عنه القرآن في كلمة جامع عظيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

إن ما نحتاجه في تصحيح أحوالنا لنحقق ما أراه الله منا بمشروعية الصيام أمران:

أولهما: العزيمة الصادقة، {وَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [آل عمران: 159].

ثانيهما: عدم المبالاة بعاداتك السابقة وبرامجك المثبّطة، وأشدها قطاع الطريق، أتدري من هم قطاع الطريق؟ إنهم أصحاب السوء الذين لا يسرهم قربك من الله، ويسعدون بقربك من إبليس.

أما الأمر الثاني الذي نستعد به لهذا الشهر الكريم: فهو الاستكثار من النوايا الصالحة، والعزم على فعل الخيرات.

ليس استعدادنا لرمضان فقط بشراء الأطعمة الخاصة به، وهذه لا عيب فيها ولا نقص، ولا تثريب، بل ينبغي احتساب النفقة فيها، فهي طعام تتقوى به على العبادة، تتسحر عليه وتفطر عليه، يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تضع في في امرأتك» (10).

قال بن دقيق العيد: فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية وابتغاء وجه الله، وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة، فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه (11).

وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها، كانت له صدقة» (12).

قال النووي: فينفق بنية أداء ما أمر به وقد أمر بالإحسان إليهم (13).

يقول عبد الله بن المبارك: خصلتان حرمهما الناس: الحسبة في الكسب، والحسبة في النفقة (14).

ولكن مع هذا نستعد استعدادًا إيمانيًا حتى لا يكون رمضان مجرد عادة من العادات، أو عبادة جوفاء يعملها الإنسان من غير استشعار لعظمتها وأهميتها (15).

تعظيم شهر رمضان ومعرفة قدره:

قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، فقد كان السلف رحمهم الله بعد رمضان مباشرة يدعون الله أن يتقبله منهم ستة أشهر، ثم في الست أشهر الباقية يدعونه أن يُبلغهم رمضان القادم، فانظر لمدى استشعارهم لمكانة رمضان وأيامه الغالية.

فعلى المسلم أولًا أن يعظم شهر رمضان وأن يقدره حق قدره، ولِمَا لا وقد عظمه الله تعالى وعظمه رسوله صلى الله عليه وسلم وعظمه المؤمنون، ويكفي أن تعرف أن الله تعالى اختص هذا الشهر بإنزال كتبه على رسله لهداية الناس ونجاتهم، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور، لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» (16).

ومعرفة الثمرات العظيمة التي يجنيها المسلم من الاجتهاد في الطاعة خلال شهر رمضان، مثل: مغفرة الذنوب، العتق من النار، مضاعفة الحسنات، رفع الدرجات، الانتصار على النفس والشيطان، الشعور بلذة الطاعة، الشعور بمعية الله، حياة القلب وصلاح النفس، وغير ذلك كثير، فمعرفتك لهذه الفضائل وغيرها يعطيك دافعًا نفسيًا للاستعداد له.

النية الصالحة:

الاستعداد بالنية الصالحة، نية الصيام احتسابًا لله تعالى؛ لا مجرد عادة وتقليد، نية المحافظة على الفرائض في أوقاتها مع الجماعة، بل المحافظة ما أمكنك على تكبيرة الإحرام، نية المحافظة على قيام رمضان مع المسلمين، والعزم على عدم التفريط فيه ولا ليلة واحدة، نية الحرص على الصدقة في رمضان؛ فهو شهر الصدقات، ويا حبذا أن يعزم الإنسان على الإكثار من الصدقة في رمضان، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

يحدثنا ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك: فمَن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة» (17).

وتدبر هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: إذا تحدث عبد بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له بمثلها» (18).

ومن النيات المطلوبة في هذا الشهر:                                                                       

1- نية ختم القرآن لعدة مرات مع التدبر.

2- نية التوبة الصادقة من جميع الذنوب السالفة.

3- أن يكون هذا الشهر بداية انطلاقة للخير والعمل الصالح وإلى نلقى الله بإذن الله.

4- نية كسب أكبر قدر ممكن من الحسنات في هذا الشهر، ففيه تضاعف الأجور والثواب.

5- نية تصحيح السلوك والخلق والمعاملة الحسنة لجميع الناس.

6- نية العمل لهذا الدين ونشره بين الناس مستغلًا روحانية هذا الشهر.

قال ابن الجوزي: إن هممت فبادر وإن عزمت فثابر، واعلم أنه لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر.

قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفسًا تواقة لم تزل تتوق إلى الإمارة فلما نلتها تاقت إِلى الخلافة فلما نلتها تاقت إلى الجنة (19).

يتفاوت الناس في وضع برامجهم في مواسم العبادة والخير على أصناف عدة:

- فمنهم من يلجأ إلى عملية الكتابة المنظمة لما سيقوم به بصورة واضحة منسقة مع زمن الموسم المراد استغلاله.

- ومنهم من يضع لنفسه تصورا في عقله وفكره لما سوف يقوم به.

- وآخرون يتركون العملية للوقت، أي يقومون بما يتيسر لهم في وقته بدون تخطيط مسبق.

أما الصنف الثالث فغالبًا ما يفوتهم الشهر بغير استغلال، ولا يتنبهون لما هم فيه إلا بعد انقضاء الشهر المبارك، ويفوز بالشهر من وضحت له الأهداف التي ينبغي أن يعمل من أجل تحقيقها في هذا الشهر.

بيان بعض الأعمال التي يُمكن أداؤها في شهر شعبان:

صيام شعبان:

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه: شعبان، ثم يصله برمضان (20).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان (21)، وفي رواية لمسلم: كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا (22).

وفي رواية لأبي داود قال: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان (23).

قال بعض الشافعية والحنابلة وغيرهم: أن أفضل الصيام بعد شهر رمضان شعبان لمحافظته صلى الله عليه وسلم على صومه أو صوم أكثره، فيكون قوله: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» (24)، محمولًا على التطوع المطلق، وكذا أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن والرواتب التي قبل الفرض وبعده، خلافًا لبعض الشافعية، فكذلك ما كان قبل رمضان أو بعده من شوال تشبيهًا له بالسنن والرواتب (25).

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (26).

قال ابن رجب: وإنما صيام النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور (27).

قال الصنعاني: في الحديث دليل على أنه يخص شعبان بالصوم أكثر من غيره (28).

فحري بالمؤمنين أن يقتدوا برسولهم محمد صلى الله عليه وسلم في صيام شهر شعبان؛ إذ كان عليه الصلاة والسلام يصوم شعبان كله.

والجدير بالبيان أن الشيطان قد يوسوس للعبد بأن صوم شعبان سيضعف همته لصيام رمضان، والصحيح أن من صام شعبان؛ احتسابًا للأجر من الله سبحانه وتعالى؛ ليغفر ذنبه، فإن الله يعينه على صيام الشهرَين؛ فإذا فتح الله للعبد باب الطاعة، هيأ الأسباب لها، وإذا فتح باب المغفرة، هيأ الأسباب لها، والأصل أن يهم المسلم بالطاعة دون التفكير في العواقب؛ فالعاقبة بيد الله سبحانه وتعالى، وهي بالتأكيد محمودة.

تعمير أوقات الغفلة بالطاعة: فقد يغفل الكثير من المسلمين عن الطاعات في شهر شعبان، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين من ذلك؛ فمن يريد الآخرة، فإنه لا يهتم لغفلة الناس، ولا يكون مثلهم، فله شأنه، ولهم شأنهم، فيُقبل على الله سبحانه وتعالى، ويهتدي بهداه، ويتقرّب إليه؛ بالذِّكر، والطاعات، والدعاء، والتضرع، والانكسار له، ومن فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعة: نيل محبة الله عز وجل، لا سيما أن الله يحبّ عباده الذين يذكرونه حينما يغفل الآخرون عن ذِكره. دَفع البلاء؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].

مجاهدة النفس على الطاعات: ينبغي لكلّ من ابتلي بقسوة القلب، والغفلة عن طاعة الله عز وجل، وقدم الشهوات على أوامره سبحانه، أن يجاهد نفسه على الطاعات؛ فتلك سبيل الاستقامة على الحق والهدى، وحَريّ بالعبد استذكار أن الله سبحانه وتعالى يتقرب من عباده الذين يتقربون منه، وإذا أقبل الله سبحانه وتعالى على عبده، وفَّقَه، وحَفِظه، وسدد خطاه، وأعطاه الخير الكثير، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته» (29).

أداء أفضل الأعمال لرَفعها إلى رب العالَمين: ينبغي للعبد اغتنام شهر شعبان بأداء أفضل الأعمال؛ إذ إن الأعمال تُعرَض على الله سبحانه وتعالى في شهر شعبان؛ فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن شعبان: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (30).

الإخلاص: فأيام الغفلة هي من أكثر الأيام التي يقوي العبد فيها إخلاصه لله سبحانه وتعالى؛ فلا ينافي باطنه ما يبدو على ظاهره، فتتربى النفس على الطاعة؛ ابتغاء نَيْل مرضاة الله سبحانه وتعالى، والإخلاص في العبادات في شعبان، فيدرك العبد حاله، ويصحح من أعماله قبل دخول رمضان؛ حتى لا يخرج من رمضان كما دخله.

الإكثار من تلاوة القرآن الكريم: فينبغي الإكثار في شهر شعبان من قراءة القرآن الكريم، وتدبُّر آياته؛ وذلك استعداداً لاستقبال شهر رمضان؛ شهر القرآن الكريم، قال الله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، ومَن داوم على تلاوة القرآن الكريم في شعبان، وجد حلاوة تلاوته في رمضان.

قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10- 12].

يقول ابن كثير: ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره وحفظ عليه شأنه وقوته (31).

سئل الشيخ الشنقيطي: بماذا تنصحني باستقبال مواسم الطاعات؟ فقال: خير ما تستقبل به مواسم الطاعات كثرة الاستغفار؛ لأن ذنوب العبد تحرمه التوفيق، وما لزم عبد قلبه الاستغفار إلا زكي، وإن كان ضعيفًا قوي، وإن كان مريضًا شفي، وإن كان مبتلى عفي، وإن كان محتارًا هدي، وإن كان مضطربًا سكن، وإن الاستغفار هو الأمان الباقي لنا بعد رسول صلى الله عليه وسلم (32).

التهجد وطول القيام: فالأصل أن يعتاد المسلم على طول القيام والتهجد في شعبان؛ حتى لا يمضي رمضان وهو لم يَعتد على ذلك بعد، والجدير بالذكر أن قيام الليل من أفضل الطاعات عند الله سبحانه وتعالى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (33).

قال حجة الإسلام في الجواهر: عمدة الطريق الملازمة والمخالفة، فالملازمة لذكر الله والمخالفة لما يشغل عنه؛ وهذا هو السفر إلى الله (34).

المداومة على الدعاء قبل مجيء رمضان:

قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلًا (35).

استعداد الدعاة:

الدعاة قدوة فينبغي أن يكملوا أنفسهم، لا استعدادًا بما فيه معصية كما يفعل الكثيرون، ينبغي إعداد المساجد لصلاة التراويح، ليس بزيادة الأنوار، فزيادة الأنوار في رمضان بدعة، وإنما بتنظيفها وتطيبها وليساهم أهل اليسر والمال في ذلك، فإن فيه أجرًا عظيمًا، المساجد التي لم تكتمل.. المساجد التي فيها نقصٌ في فرشها ونحو ذلك مما يحتاجه الأمر، وتجهيز أماكن النساء التي لا يكون فيها اختلاط بالرجال.

فيا معشر الأئمة والدعاة إلى الله، بادروا بترتيب الدروس وحسن انتقاء الكتب، وشحن الناس لدخول الشهر، أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، وكان عموم الناس يتراءون الهلال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تشوقهم وتطلعهم يقول في الحديث: «تراءى الناس الهلال» (36)، الناس يتراءون الهلال، الجود بالعلم والخلق، والقدوة أن يعد نفسه للاقتداء، جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في رمضان، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون ماذا فعلت، فدعا بقدحٍ من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه (37).

----------

(1) أخرجه مسلم (1151).

(2) أخرجه البخاري (7538).

(3) أخرجه البخاري (5927).

(4) أرشيف ملتقى أهل الحديث - 1 (97/ 70).

(5) أخرجه أحمد (7148).

(6) أخرجه الترمذي (1623).

(7) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 78).

(8) مدارج السالكين (1/ 196).

(9) أخرجه ابن أبي شيبة (8880).

(10) أخرجه البخاري (1295).

(11) فتح الباري لابن حجر (5/ 367).

(12) أخرجه ومسلم (1002).

(13) شرح النووي على مسلم (7/ 89).

(14) شعب الإيمان (11/ 175).

(15) الاستعداد لرمضان الفضيل/ رابطة محبي اللغة العربية.

(16) أخرجه الطبراني في الأوسط (3740).

(17) أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131).

(18) أخرجه مسلم (129).

(19) المدهش (ص: 228).

(20) أخرجه أبو داود (2431).

(21) أخرجه البخاري (1833)، ومسلم (1956).

(22) أخرجه مسلم (1957).

(23) أخرجه أبو داود (2076).

(24) أخرجه مسلم (1163).

(25) عون المعبود وحاشية ابن القيم (7/ 60).

(26) أخرجه النسائي (2357).

(27) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 128).

(28) سبل السلام (1/ 583).

(29) أخرجه البخاري (6502).

(30) أخرجه النسائي (2357).

(31) تفسير ابن كثير (4/ 329).

(32) استقبال شهر رمضان/ شبكة الألوكة.

(33) أخرجه الترمذي (3579).

(34) فيض القدير (2/ 69).

(35) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 148).

(36) أخرجه ابن حبان (3447).

(37) أخرجه الترمذي (710).