الكتابات المسمومة
أخرج البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، الآية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (1).
أي: فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءهم الباطلة، فينكرون المتشابه، وينفّرون الناس منه، ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم؛ كالإحياء بعد الموت وجميع شئون العالم الأخروىّ، ويأخذونه على ظاهره بدون نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم، فيقولون إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}- أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس من دينهم، والقرآن مليء بالرد عليهم من نحو قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ} (2).
لَا يتجهون إلى المحكم يطلبون منه حكم القرآن، بل يتبعون ما تشابه من القرآن؛ لأنه بُغيتُهم، ويجدون في الاشتباه ما يتفق مع اعوجاج نفوسهم، وعدم استقامة تفكيرهم، وما ينطوي عليه مقصدهم الباطل؛ فإن اعوجاج القلوب يجيء من تحكم الهوى في النفس، وإذا تحكم الهوى وسيطرت الشهوات المختلفة كشهوة التسلط والغلب وحب السلطان، وشهوة المال، وشهوة النساء، وشهوة المفاسد، فإن القلوب تركس، وتفسد، وتعوج، فلا تطلب الحق لذات الحق، بل تطلب ما يحقق شهوة النفوس، وأولئك لأنهم لَا يطلبون الحق يتبعون المتشابه يتقصَّوْنه ويتعرفون مواضع الريب، ليثيروا الشبهات حول الحق، ويشككون الناس فيه، ولذا قال سبحانه: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي طلبًا لفتنة الناس عن دينهم وخدعهم، وإثارة الريب في قلوبهم، بأوهام يثيرونها حول المتشابه الذي جاء في القرآن، مثل أن يقولوا: ما نعيم الجنة وما جحيمها؟ و{أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وكيف يخلق الله العالم؟
وهكذا يثيرون هذه الأوهام المشتقة من مألوف الحياة الفانية، ليشككوا في حقيقة الحياة الباقية، فابتغاء الفتنة مقصودهم الأول؛ ولذا ذكر أولًا، ثم أعقبه سبحانه بابتغاء التأويل فقال: {وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} فهم قد ابتغوا التأويل بانبعاث من الهوى والرغبة في تضليل الناس وإثارة الشكوك حول حقائق الدين، فالرغبة في الفتنة هي المقصد الأول، والرغبة في التفسير أو معرفة المآل جاءت تابعة إذ لَا تتحقق الفتنة إلا بها (3).
قال عنهم الشيخ محمد الغزالي: إن أكبر خطر يواجه الإسلام لا يكمن في أعدائه بقدر ما يتجلى في حفنة رخيصة من الكتاب الفاسدين، الذين سنوا أقلامهم كراهية وحقدًا على الإسلام وأهله، مدعين كذبًا دفاعهم عن الحضارة والحرية والتطور.
ويعجب الشيخ محمد الغزالي كيف أن هؤلاء يحظون بالاهتمام والحفاوة وتتسع لكتاباتهم الرخيصة أعمدة الصحف والمجلات، ويعاد تدوير المقالات غير مرة؛ نقاشًا وتحليلًا، وكأنها من قبيل الخوارق والإعجاز.
وهي في الواقع ليست سوى سم زعاف غايته النيل من الإسلام واغتياله قسرًا؛ لأنه كما يتهمون لا يقيم وزنًا للحداثة والتطور، ويقف في وجه الديمقراطية عدوًا شرسًا.
ففي إحدى مقالاته تأسف الشيخ محمد لكتاب ينتمون للإسلام ظاهرًا ولكنهم مخدرون بسموم الغزو الثقافي، يتعصبون للفجور، ويناصرون الالحاد، ويخترعون له الفضائل والمحامد التي لا تحصى.
أما الكتاب المحترمون فلا متسع لهم، ولا ينبغي أن تتاح لهم فرص الظهور أسوة بتلك الأقلام المسمومة، ويمكن أن يزج بهم في غياهب السجون ظلمًا وعدوانًا.
وهاتيك الأقلام هي في المحصلة نتاج مخابر الاستعمار العربي روحًا ومضمونًا؛ وإن كانت بالحروف العربية، فحاربت الفضيلة، ومزقت برقع الحياء بوقاحة لا ند لها (4).
يقول الأستاذ أنور الجندي: وهكذا أصبحنا جميعًا نحن الصحفيين بين فاسدين ومفسدين، ومنافقين وخونة، مأجورين للكتلة الغربية والكتلة الشرقية، وأصبح الشعب في حيرة من لسانه المسموم، الصحف التي أبدت الطغيان، ودافعت عن الفساد، الصحفيون الذين مرغوا جباههم تحت أقدام الطغيان، بعد أن أسفر الطغيان (5).
ومما أصبح مشاهدًا معلومًا ما ظهر في عصرنا من علامات أصبحت وصفًا ملازمًا لطائفة من الناس جندوا أنفسهم لهدم مجتمعاتهم، وبث بذور الشر والفساد بما يقولون وبما يكتبون؛ هم شرذمة من الكتَاب الذين بلي بهم عالمنا الإسلامي، من الذين خانوا أمتهم، وخانوا رسالة القلم وأمانته، فسخروا أقلامهم في إفساد المجتمع عامة، فأفرزت صدورهم نفثات حقد دفين، فاحت بها كتاباتهم العفنة، ورشحت بها مقالاتهم النتنة، شرقت صدورهم وتجرعوا غصصًا لما رأوا كثرة أهل الخير ومؤسساته ومشاريعه؛ فكانوا يثيرون في مقالاتهم الشبه؛ وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة والحجاب، ومن جهة أخرى نراهم أسرع الناس تصيدًا للأخطاء واستغلالها؛ فإذا ما وقع تصرف يبرأ أهل الخير منه، ووجد أولئك الكتبة مدخلًا لهم قاموا وقعدوا وخبوا ووضعوا وأجلبوا بخيلهم ورجلهم، وشمروا واستنفروا؛ فكتبوا ونعقوا ونهقوا، فتارة يلوَحون، وتارة يصرحون؛ فلا تخلو كتاباتهم من انتقاد واعتراض على حق، أو إقرار لباطل، أو بث شبهات وشهوات، وألصقوا التهم وعمموا الأحكام .
تعرفهم بسيماهم:
ولك أخي جملة من علامات تلك الأقلام النشاز حتى تحذر مكرهم، وتغدو على بينة من كيدهم، فمن تلك العلامات:
- أنهم إذا أرادوا إثارة قضية اجتماعية تواطأت كتاباتهم، وصبَت بمجموعها في قالب واحد، مما يعني أن الأمر دبَر بليل، وإلا فماذا يعني أن تلك المقالات تجتمع تحت قاسم مشترك يوحَد بينها، وتلتقي تحت مظلته أصول تلك المقالات وفروعها؟.
- ومن علاماتهم؛ أنهم نصبوا أنفسهم علماء راسخين؛ فتارة مفسرين، وتارة محدثين، وتارة فقهاء مجتهدين؛ فلا يتورع الواحد منهم عن استنباط الآراء والاجتهادات وليَ أعناق النصوص في سبيل تطويعها لمرادهم، {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، وقال تعالى: {وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} [النساء: 46].
- ومن علاماتهم؛ أنهم يبرزون أحدهم في المقابلات الصحفية، ثم يقومون بتوجيه أسئلة إليه، يتخللها أسئلة شرعية تتعلق بقضايا عقدية أو اجتماعية لو طرحت على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجمع أهل بدر لها، بينما ترى ذلك النشاز يتشدق في الكلام، ويطلق لقلمه العنان بالتحليل والاستنباط، وكأنه مجتهد زمانه المطلق، فيا لله العجب من تناقض يجعل الحليم حيران.
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه في أمر العامة» (6).
- ومن علاماتهم؛ أنهم يصدرون مقالاتهم أو يضمنونها بعض الأدلة الشرعية، يتمسحون بظواهرها في ترويج شبههم وباطلهم، ولذا لا يأخذون من الأدلة إلا ما كان فيه دلالة ضعيفة أو محتملة، بقصد التغرير والخداع لضعفاء النفوس والجهلة، لذا لا تراهم يعرجون على الأدلة الأخرى التي تكبت مذهبهم، فشابهوا بذلك ضلال بني إسرائيل الذين قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]، وشابهوا أهل البدع والضلال الذين قال فيهم بعض سلف الأمة: إنهم يأخذون من الأدلة ما لهم دون ما عليهم.
هذه القلوب بدلًا أن تكون مضخات أملٍ وبناءٍ وحياةٍ للمجتمع، صارت وللأسف مضخات عفنة تضخُ قيحها وصديدها وسمومها للمجتمع.
وبكل حال: فترى أولئك الكتاب يسهبون في الحديث حول ظاهر ذلك الدليل الذي تشبثوا به ويبدءون فيه ويعيدون، كل ذلك بقصد تدعيم آرائهم من جهة، وإعطائها صورة شرعية من جهة أخرى {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)} [البقرة: 9- 10].
- ومن علاماتهم؛ أنهم يستخدمون الرمزية في مقالاتهم، وذلك لأن تلك الرموز لا يفهمها كل أحد، أو تفهم على خلاف ما أرادوا، إنما ضمنوا مقالاتهم تلك الرموز لتوظيفها في خدمة آرائهم ومذاهبهم؛ ومثل ذلك: إيراد بعض المصطلحات الغريبة التي تحمل في طياتها أخبث الفكر وأسقطه، وبعض أولئك النشاز قام بخلع جلباب الحياء، وجاهر بخبث مقصده؛ فلا يتورع عن مصادمة النصوص الصحيحة الصريحة بآراء شاذة أفرزتها عقول فارغة.
- ومن علاماتهم؛ أنهم يجعلون لمقالاتهم وكتابتهم عناوين براقة تخدع أكثر قارئيها؛ فتارة يعنونون بالتقدم والرقي، وتارة بالعدالة والمساواة، وتارة بالتوازن والإنصاف، إلى غير ذلك من المظاهر الزائفة، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].
- ومن علاماتهم؛ أنهم يستشهدون في مقالاتهم ببعض أقوال مفكري الغرب أو الشرق، {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، وكأنها أدلة شرعية محكمة فيحشدون حولها عبارات الإطراء والثناء والتبجيل، ومن ثم يحثون المجتمع المسلم المحافظ على ترجمة تلك المقالات إلى واقع عملي؛ لأن في ذلك تقدمًا ورقيًا بزعمهم، وفي مخالفتها جناية على المجتمع {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].
- ومن علاماتهم؛ أنهم لا يألون جهدًا في التصفيق لكل ناعق يؤيد مبدأهم؛ فيستفرغون وسعهم في الإشادة بمقاله صباحًا ومساءًا، وقد يكون ذلك الناعق ممن صنع على أعينهم، ومن ثم جعلوه ظاهرًا، ليكون معبرًا بقلمهم، ومتكلمًا بلسانهم، فما بين فينة وأخرى تشم رائحة كتابة عفنة لكاتب ناشئ، ثم ما يلبث أن يكون لامعًا بسبب تأييدهم لمقالته، ومشاركتهم ألمه وأمله المزعوم، ثم ما يلبث ذلك الناشئ الملمع حتى يكون منظرًا منهم {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].
- ومن علاماتهم؛ أن أقلامهم تغيب عن قضايا الإسلام والمسلمين على كثرتها في شتى أنحاء المعمورة، ولا يقال هذا استفهامًا لغياب أقلامهم، بل تأكيدًا لخبث مقصدهم وسوء طويتهم، وإلا ففي مصاب المسلمين في جميع الدنيا مرتع خصب لكل كاتب ولكل متكلم، فحدث عن هتك الأعراض ولا حرج، وحدث عن تشريد العباد ولا حرج، ولكن القوم جعلوا أنفسهم بمنأى عن ذلك؛ لأنهم يسعون إلى هدف معين لا يحيدون عنه قيد أنملة، فلا هم لهم إلا هو، ولا شاغل لهم إلا هو {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
- ومن علاماتهم؛ أنهم يسلكون في كتاباتهم مسلكًا آخر يجمع بين الصورة والكلمة، ومثال ذلك تلك الرسوم الهزلية التي تفوح برائحة الاستهزاء والسخرية، وتعتبر في الوقت نفسه ترجمة وترويجًا لمبدئهم الباطل؛ ولذا يسلك أولئك الرسامون والمصورون طرقًا خبيثة، ويزعمون في ظاهرها أنها بقصد الفكاهة والترويح عن النفس، ولذا ينخدع بها جهلة من المسلمين فيتناقلون ذكرها على ألسنتهم من باب المداعبة، ولم أنهم يساعدون أولئك الشراذم على ترويج أفكارهم، ولذا فالحذر الحذر من الانخداع بتلك الرسوم وأخذها من باب الفكاهة والدعابة (7).
ومع دخول العالم عصر شبكات التواصل الاجتماعي، صارت ظاهرة الكتابة المسمومة والمخدرة للعقل المسلم أكثر خطورة، ومع اندماج المؤثرات الصوتية مع المواد المكتوبة أصبح التأثير على المشاعر الإنسانية المختلفة ظاهرة تستحق الرصد والتصدي؛ بسبب استغلاله باحترافية من المتربصين بالأمة الإسلامية.
ومقابل هذا الخطر الداهم نجد أن العالم الإسلامي ضعيف جدًا أمام هذا الغزو الفكري الممنهج، فعدد المواقع الإعلامية القادرة على صد هذه الظاهرة قليل جدًا، والقليل من هذه المواقع اختفى تمامًا، ففي استقراء طويل لمواقع إسلامية عديدة، وجدنا أن النتيجة التالية: بعض المواقع اختفى تمامًا، واختفت معه كل المواد، وبعض المواقع أصابها الاهتراء، بسبب عدم التجديد فيها وعدم ضخ دماء جديدة في طاقمها، وبعضها لا يزال يقاوم، لكنه لا يملك رؤية، فهي غالبًا ما تخضع للعمل وفق ردّات الفعل، وهذا أحد أهم ما يؤدي بها إلى الزوال مستقبلًا، خاصة مع الاستسلام المتزايد لضغط شبكات التواصل الاجتماعي، أما النادر الجيّد فكثرت حوله حملات التشويش السياسي والإعلامي وحتى الدعوي.
الانفتاح الإعلامي:
يظل مصطلح الانفتاح الإعلامي أحد أبرز الأوهام التي يعمل النظام العالمي -وأياديه الخفية- على ترسيخه في الوعي الجمعي للمسلمين، بينما الحقيقة أن هذا المصطلح لا يعني مطلقًا قبول النظام العالمي بالمواد الإسلامية المكتوبة القديمة أو الحديثة؛ التي تمس به، وأبسط دليل على ذلك محاربته للمناهج الإسلامية، وإصراره على تغييرها، وقد رصدنا هذه التغييرات التي أصرّ على إحداثها خلال العقدين الماضيين، فكان حجم إفراغ المناهج من مضامينها الإسلامية العميقة -التي تؤثر في تشكيل عقل المسلم- هائلًا؛ بالتالي فقد العقل المسلم مصدر حصانته، ولم يكن تركيز النظام العالمي على ضرب المناهج الإسلامية عبثًا، بل كان يهدف أساسًا إلى أمرين:
الأول: إضعاف الصحوة والنهضة الإسلامية، وعدم إعطائها الفرصة لتطوير قاعدتها الإسلامية الشعبية.
وثانيًا: قطع الطريق أمام الصحوة للاستمرار في إنتاج جيل مسلم أحسن من الجيل الذي ظهر مع الصحوة، والذي تعرض إلى التخريب والتشتيت بطرق كثيرة، سلمية وأمنية.
إذن لا يوجد شيء اسمه انفتاح إعلامي بالنسبة للمواد الإسلامية الأصيلة، بالأخص في عصر استعمال فزاعة الإرهاب وتمطيط هذا المصطلح ليكون خادمًا لمشاريع الغرب، بدليل أن الكثير من الدول المسلمة لا تزال تمنع كتب إسلامية أصيلة بعينها، ترى أنها تشكل خطرًا عليها.
ومختصر الحديث في هذه المسألة أن النظام العالمي بخبرائه ومراكزه البحثية عمل على تفكيك عالم المواد المكتوبة –الإسلامية الأصيلة- فاختفت الأشعار الإسلامية وصار سوقها راكدًا، وضعف إنتاج وتداول الرواية الإسلامية، والقصص الإسلامي.
ومع الحرب ضد الإسلام وتراثه الضخم، ومنع كتابات أبرز العلماء المصلحين وتشويهها، فتحت الأبواب في عالمنا الإسلامي لأقلام غريبة عن هوية وقيم المسلمين، بل وتناقضها، فصارت كتاباتهم هي النموذج الذي يُقدم للأجيال المسلمة.
التصدي لهذا العبث:
المنظومة العالمية حريصة على نشر الرذيلة والتفاهة والسفالة بنفس المستوى؛ لذلك لن تتوانى عن الدفاع عن مثل هذه الكتابات، التي تشكل عندهم شكلًا من أشكال تفكيك الفطرة السليمة النقية التي تعرف الحق بسهولة، والتي تشكل عندهم وعند وكلاء الغرب في بلاد الإسلام كتابات قيمة تقضي على التطرف، وتنشر روح المحبة حسب زعمهم.
لأجل كل ذلك وجب على المصلحين أن لا يخجلوا من الحديث في هذه المواضيع، والتصدي لها، وكسر حاجز الخوف من الجماهير المعجبة بهذا العالم التافه، فنحن أولا وأخيرا مسلمون، القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مصدر عباداتنا، وتصوراتنا وأفعالنا وأخلاقنا وعلاقاتنا، وهذه حقيقة يجب أن نجهر بها ونعلن عنها بكل صراحة وشجاعة.
ومن الشجاعة أن نقول: إن هذه الكتابات لا يمكن بحال أن تدخل ضمن الحكمة التي يجب أن يأخذ بها المسلم؛ فهي تصادم ديننا وأخلاقنا كأمة إسلامية، يقول الروائي الأمريكي تورمان مانر: أن الالتزام هو بمثابة طوق النجاة في خضم القيم المتصادمة في عالم اليوم، صدام أدى إلى الفوضى، لذلك يجب أن تدين بالولاء لفكرة واحدة أو لحقيقة واحدة، فمن خلال هذا الولاء وحده يمكننا أن نتعلم شيئًا وأن نقترب من إمكانية الرؤية الكاملة.
هذا روائي أمريكي ينطق بالحق، فلا يمكن لأقوال رجل كاثوليكي، أو شيوعي، أو تغريبية، أو داعية تحرر ومجون أن تكون مصدر إلهام للأجيال المسلمة، التي بين يديها نصوص الوحي، وربنا تعالى يقول: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120].
نحن مدعوون إلى إنشاء رصيد محترم يتصدى لهذا العبث الذي يعبث بعقول وقلوب المسلمين، ونحتاج إلى ضرب الداعية المفرطة لهؤلاء الكتاب بدعاية موضوعية وعقلانية وعلمية، ولعل من أنفع ما يمكن أن يشتغل به الكثير من أهل الإصلاح: الإتيان بنماذج لأقوال هؤلاء ودحضها وكشف ركاكتها أدبيًا، وعوارها أخلاقيًا، وسقوطها علميًا ودينيًا، وهذا ممكن من خلال الكتابة، أو من خلال تناول هذه المقولات في مقاطع فيديو، وتحليلها وفق الميزان الإسلامي الحنيف (8).
----------
(1) أخرجه البخاري (4547)، ومسلم (2665).
(2) تفسير المراغي (3/ 99).
(3) زهرة التفاسير (2/ 1112).
(4) الشيخ محمد الغزالي والأقلام المسمومة/ کنوز الشیخ محمد الغزالی.
(5) موسوعة الغزو الفكري والثقافي وأثره على المسلمين (2/ 70).
(6) أخرجه ابن ماجه (4036).
(7) الأقلام المسمومة/ صيد الفوائد.
(8) الكتابات المسمومة وتخريب العقل المسلم/ إسلام ويب