logo

الحضارة الغربية ومحاربة الدين


بتاريخ : الاثنين ، 16 ذو الحجة ، 1439 الموافق 27 أغسطس 2018
بقلم : تيار الاصلاح
الحضارة الغربية ومحاربة الدين

كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي، وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها، وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه، فنسي نفسه ومصيره، وفقد رشده، وقوة التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم، أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب، فضلًا عن البيوت، فضلًا عن البلاد.

وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة، ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات؛ فرارًا بدينهم من الفتن، وضنًا بأنفسهم، أو رغبة إلى الدعة والسكون، وفرارًا من تكاليف الحياة وجدها، أو فشلًا في كفاح الدين والسياسة، والروح والمادة، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم، وأكل أموال الناس بالباطل.

وأصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المجرمين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام، وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعًا صافيًا من الدين السماوي، ولا نظامًا ثابتًا من الحكم البشري(1).

ولقد كانت محاولة الفكر البشري في العصر الحديث، بقيادته الخطيرة من الفلاسفة الماديين والعلمانيين وخصوم الدين المنزل جملة، من أخطر المؤامرات التي حاصرت البشرية، وزلزلت عقيدتها في الإله الواحد، وفي الإيمان بالغيب والبعث والجزاء، وما تزال هذه المحاولة، منذ بدأت أولى حلقاتها بالخلاف الذي وقع في أوروبا بين رجال الدين وبين العلماء التجريبيين، فاسـتحدثت محاكم التفتيش، واضطهاد ومحاكمة الذين قدموا حقائق ومفاهيم تختلف عما في الكتب المقدسة، التي كانت في الحقيقة مما كتبه الأحبار والرهبان، ولم يكن من الحقائق التي جاء بها الدين الحق، والتي لم تكن في الواقع مما تختلف مع الوقائع الصحيحة.

ولقد كان من نتيجة هذا الصدام الشديد بين رجال الدين وبين العلماء التجريبيين آثاره البعيدة والخطيرة، والتي شكلت مع الزمن ومع توالي الأحداث هذه الصورة الخطيرة الموجودة اليوم، من سيطرة الإلحاد والعلمانية، والإنكار الخطير لرسالات السماء، والاستعلاء على الدين بصفة عامة، واندفاع الفكر البشري إلى مراحل خطيرة وآفاق عنيفة، وقيام دعاوى تنكر وحي السـماء جملة، وتعمل على إقامة دين بشري ومنهج حياة يستغني جملة عن الدين؛ بل ويصل في المغالاة إلى حد القول بأن البشرية أصبحت اليوم غير محتاجة إلى وصاية السماء بعد أن نضجت، وهو ادعاء زائف مغرور.

ذلك أن ما قُدم للناس باسم الدين في الغرب، والذي قامت عليه معركة الصراع بين رجال العلم وبين الكنيسة لم يكن هو الدين الحق المنزل على سيدنا عيسى عليه السلام، وإنما كان ذلك التصور الذي تشكل في عصر تالٍ على يد القديس بوليس، والذي تجمع كل المصادر على أنه وضـع روعي فيه التقريب بين المسيحية المنزلة وبين أديان روما والغرب الذي عبرت إليه الديانة المسيحية، وأنه أخذ الكثير من العقائد التي كانت قائمة في ذلك الوقت في أوروبا وفي روما بالذات.

ومن هنا فإن التنكر للدين المنزل على هذا النحو، الذي وصل في غلوه إلى أبعد الأبعاد، لم يكن موفقًا لأنه لم يكن صحيحًا.

كذلك فإن الغرب حين تنكر للدين جملة ولرسالة السماء عامة، على أساس نظرة في الصورة التي وقعت في مجتمعه، لم يكن منصفًا ولا عادلًا ولا مقيمًا نظرته على أسـاس صحيح؛ لأنه لم يدرس الأديان دراسة سليمة منصفة، بعيدة عن الأهواء والتعصب، وأنه لو درس الإسلام دراسة صحيحة، مرتفعة عن الأحقاد القديمة والخلافات والصراعات، لوجد فيه الأساس الصحيح للنظرة العلمية التي يتطلع إليها، ولما احتاج إلى أن يتجاوز بعناد وعنف النظرة إلى الدين جملة اعتمادًا على الصورة الأولى التي صدمته.

ولذلك فهو حين أقام نهضته اعتمد الأصول الإسلامية في العلوم وقوانين الوجود وسنن الكون، واعتمد تراث المسلمين الزاخر في قوانين الاجتماع والاقتصاد والتربية، غير أنه نقل ذلك كله إلى إطار مختلف، قوامه تراث اليونان وفلسفة الرومان، وبذلك صهر المعطيات الإسلامية في العلوم التجريبية، في وضع قائم على الفكر الوثني والمادي والإباحي، فظهرت الحضـارة المعاصرة وهي عاجزة عجزًا كاملًا عن الاستجابة الصحيحة لمطامح الإنسان وأشواقه الروحية؛ لعجزها الأساسي وقصورها في الجانب الإلهي والجانب الأخلاقي، فهي قد استعلت عن إسلام وجهها للخالق الكريم، وللوجهة التي رسمها للبشرية عن طريق الدين الحق، كما أنها تنكرت للقيم الأخلاقية؛ ومن ثَم أخذت تتحرك في إطار التعصب للجنس وللون، واتجهت إلى الاستعمار والسيطرة وإبادة الأجناس الضعيفة والملونة، ونهب ثروات الأمم وإفقارها؛ فضلًا عن إنشاء أدوات الدمار الشامل، وتعريض البشرية للأخطار، وإقامة طبقة الأمم العليا ذات الثراء الفاحش، والأمم الفقيرة التي انتهبت ثرواتها وتعيش تحت خط الفقر.

وما تزال الحضارة المعاصرة انطلاقًا من هذا التصور الفكري، الذي عزل نفسه تمامًا عن مفهوم الدين الحق، وعن مفهوم الإسلام نفسه كمنهج حياة، يقوم على أساس العدل والإخاء البشري والرحمة والسماحة والعطاء، ومن ثم فقد أحدث تلك الآثار الخطيرة التي تعيشها البشرية اليوم حين حجبت تمامًا منهج الدين السماوي المنزل، واندفعت وراء الفكر البشري، الذي انطلق من أهواء الفلاسفة وأحقاد العلمانيين، الذين حاولوا أن يرسموا للبشرية منهجًا مختلفًا يقوم على أساس نظريات دارون وفرويد وماركس، في تصورٍ للإنسان بأنه من سلالة القرد، وأنه خاضع لشهوتي البطن والفرج، وأنه حيوان ناطق له حريته المطلقة في المطامع البشرية والجنسية، والاندفاع وراء اللذات إلى أبعد الحدود.

وفي خلال هذه التجربة الخطيرة، منذ عصر النهضة الأوربية 1500م تقريبًا وإلى اليوم، في هذه القرون الخمسة واجه الفكر البشري ضربات صاعقة وهزائم شديدة وأزمات مريرة، أكدت للناس فشله وعجزه وقصوره عن العطاء الحقيقي للنفس الإنسانية، المتطلعة إلى الجمع بين روحها وماديتها، وبين قلبها وعقلها، وبين دنياها وآخرتها، فقد اسـتعلت بالمادة والعقل، واندفعت من خلال منهجها الرأسمالي والماركسي، فلم تحقق إلا ذلك الاضطراب العالمي الخطير، الذي يتحرك فيه العالم اليوم، حين أقام نظامه على الاقتصاد الربوي والقانون الوضعي، وعلى العلمانية والمادية والإباحية.

أما نظرية دارون، التي كانت القاعدة الأساسية لكل الفكر المادي والفلسفة المادية، فقد لقيت هزائم شـديدة مضطردة، أكدت فسادها وعجزها عن إقناع الناس بها، سواء من خلال الدراسات الأكاديمية العلمية، أم من خلال الحفريات التي كشفت عن أن الإنسان قبل ملايين السنين كان منتصب القامة كما هو الآن، وأنه خلق من جنس مستقل غير مختلط بأجناس أخرى، هذا ما يقرره العلماء التجريبيون منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وما تزيدهم الحفريات والأبحاث إلا تأكيدًا له.

أما نظرية فرويد فقد أثبت فسادها وعجزها منذ اليوم الأول، عندما قرر علماء النفس أن عوامل كثيرة تشكل الحافز النفسي في الإنسان، وأن الجنس هو أحد هذه العوامل، ولكنه ليس أكبرها ولا أوحدها.

أما نظرية ماركس فقـد تحقق لها الفشل المتصل والهزيمة الكبرى بعد أن تبين أن البشرية أقرب إلى الالتقاء والتعارف والائتلاف أكثر من الصراع، الذي اعتبره ماركس مصدرًا لقيام المجتمع الشيوعي.

وليست هذه النظريات الثلاثة وحدها التي واجهت الفشل، ولكن الحقيقة أنه لا توجد نظرية واحدة لقيت النجاح، ومصدر ذلك أنها خالفت في الأصل سنن الله في الكون وقوانينه تبارك وتعالى في بناء الأمم والمجتمعات والحضارات، وأنه ما من نظرية بشرية إلا أصابها الاضطراب، وتجاوزتها الأيام، وغلبتها قوى التغيير والتحول فاحتاجت إلى الإضافة والحذف.

ولقد تبين أن قوى التدمير، التي عملت منذ قرون عديدة على هدم المجتمع الإنساني وتحطيمه، من خلال إقامة كل الوسائل لهدم الدين المنزل فيه، ودفعه إلى الإباحة والإلحاد، رغبة في تدميره والسيطرة عليه لحساب إمبراطورية الربا التلمودية، هي التي كانت وراء هذه المؤامرة كلها، وأنها كانت وراء ماركس وفرويد ودارون ودوركايم، وقد اعترفت في (بروتوكولات صهيون) بهذا صراحة، وأنها هي التي خلقت ذلك الصراع بين المجتمع البشري بإقامة أيديولوجيتين، هما الرأسمالية والشيوعية، لتحقيق الهدف الأكبر الخفي.

ولقد كان منطلقها الدعوة إلى هدم القديم جملة، ووصفه بالبالي والرجعي، وهي تخفي وراء القديم كل مقدسات الأمم، من دين وخلق وعقيدة وقيم وتراث كريم، وصولًا إلى رسالات السماء الخالدة.

إن دعاوى الاسـتعلاء، بكشف أسرار الطبيعة والقوى الكامنة فيها، ونسبته إلى قدرة العقل الإنساني، هي دعاوى باطلة؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي وجه العقل الإنساني لفهم أسراره وكشف له طريقها، ولكن الإنسان الظالم لنفسه وجه هذا العطاء وجهة الاستعلاء والغرور والسيطرة والدعوى الكاذبة بأنه من قدرة العقل البشري، ومـن هنا كانت تلك المحاولة الخطيرة التي جرى عليها العلم الحديث، وهو تسمية الحقائق بغير أسمائها، ومنها اسم (الطبيعة)، ومحاولة وصفها بالقدرة والعطاء هو اسم مضلل، يراد به إخفاء الاسم الحقيقي وهو الله تبارك وتعالى، وهذا مغمز خطير في الحضارة الحديثة؛ إنكار صاحب العطاء الأول، والذي إليه ترجع الأمور والذي تقوم وجهة الحضارة كلها والمجتمع كله والإنسان كله منه وإليه، والإقرار بعبوديته، وتوجيه كل معطيات الحياة إلى ما أقام للإنسان من منهج حياة، فلا تكون للمطامع الفردية أو الاستعلاء أو استعباد البشر، وإنما لتكون للناس كافة وفق النظام الرباني، الذي جعل للفقراء حقًا في مال الأغنياء، وجعل للضعفاء مصادر لحفظهم من التكفف.

أما دعوى تحرير الجنس البشري من أوهام الماضي، وتحطيم الأغلال التي عاقت العقل عن التقدم والانطلاق الحر، فهي عبارات يراد بها التنكر للدين الحق، وإلا فإن الديـن هو الذي حرر الجنس البشري من أوهام الوثنية، التي أعادتها الحضارة الحديثة مرة أخرى، وبصورة أشد عنفًا وقوة مما كانت في عصور اليونان والرومان(2).

إن أخطر ما يدعو إليه الفكر البشري لهدم الدين الحق هو:

أولًا: فكرة التطور المطلق: وهي فكرة مسمومة يراد بها إنكار وهدم الثوابت التي أقامها الإسلام والدين الحق، وهي الحدود التي رسمها الله تبارك وتعالى للبشرية.

ثانيًا: فكرة المسـئولية الجماعية، وهي الادعاء بأن المجتمعات هي المسئولة عن الأخطاء وليس الأفراد، وهو مفهوم مضلل خطير، فإن المسئولية في الحقيقة، وفي تقدير الدين الحق، هي مسئولية فردية، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ومحاسب عليه.

ثالثًا: فكـرة (حرية الانطلاق) وحرية الفكر، وهي دعوى باطلة؛ إذ إن هناك في الإسلام الحرية المسئولة، أما حرية الفكر بالصورة التي يتحدثون عنها فهي فكرة ماسونية، يراد بها حرية تدمير القيم وإشاعة الإلحاد، والإسلام يرى أن كل إنسان حر في معتقده، ولكنه لا يقبل أن يجاهر أهل الإلحاد بإلحادهم ليفسدوا المجتمعات.

رابعًا: فكرة الحرية الجنسية والاندفاع وراء المغريات والملذات، وهي حرية باطلة؛ لأن فيها اعتداء على حريات الآخرين، والإسلام لا يقر الاغتصاب ولا الإغراء ولا كل محاولات الخداع، ويطالب بحماية المرأة من مغريات الإباحية والفساد.

والواقع أن كل هـذه المحاذير التي سقط فيها الفكر البشري، بدعوى حريته وبلوغه الرشد وعدم حاجته إلى وصاية الأديان السماوية، قد تكشف فسادها، وظهرت آثارها الخطيرة في تدمير المجتمعات الغربية، وهم اليوم يحاولون نقلها إلى المجتمع الإسلامي، ولهم وسائل خطيرة، وهناك من يسمع لهم، ولكنا نحذر وندعو شبابنا إلى اليقظة والوعي، وعدم الاستسلام للمغريات، وفهم الغايات الخطيرة التي تراد بالأمة الإسلامية.

إن هذا الانحراف الذي أصاب الفكر الغربي والحضارة الغربية، بانحيازهما إلى الفلسفة المادية (الإلحاد والإباحية)، ووقوفهما موقف العناد والحرب والتعصب إزاء حقيقة أزلية أساسية، لا سبيل للأمم والحضارات إلى تجاوزها أو إنكارها، هذه الحقيقة هي (الدين المنزل)، بكل ما يمثله من إيمان بالله تبارك وتعالى، والعقيدة، والبعث والجزاء، وبما يحمله من منهج رباني لبناء الحياة الإنسانية على أساس (إسلام الوجه لله)، ومن خلال القيم التي أرساها.

هذا الإعراض عن هذه الحقيقة الأزلية، وإقامة الحياة والمجتمع والفرد على شطره المادي وحده، هو مصدر كل الأزمات التي تواجه الحضارة الغربية والمجتمع الغربي، وهو النذير بتدمير هذه الحضارة.

هذه الحقيقة التي وصل إليها اليوم عشرات من الباحثين الغربيين، الذين دخلوا الإسلام فعلًا والذين لم يدخلوا، وأمامنا الآن مجموعة من الحقائق:

أولًا: فشـل الأيديولوجيتين: الرأسمالية والماركسية وانهيارهما بعد عجزهما عن العطاء في بيئاتهم أساسًا وفي العالم الإسلامي تبعًا لذلك.

ثانيًا: سقوط جميع النظريات الفلسفية الاجتماعية والاقتصادية، ابتداءً من نظرية دارون إلى نظرية فرويد إلى نظرية ماركس، إلى الوجودية إلى نظرية دوركايم إلى نظرية مالثوس إلى نظرية ميكيافيلي، هذا الحصاد المسموم المدمر الذي يفخر به العلمانيون والملاحدة.

ثالثًا: تبين مدى الفارق البعيد عن العلم والفلسفة، فالعلم اليوم يقرر وجود خالق عظيم وراء هذا الكون، يدبره ويحفظه لحظة بلحظة، أما الفلاسفة فهم الذين ما زالوا يوقدون نار الإلحاد، ويشكون في وجود الله تبارك وتعالى والأديان والكتب السماوية.

رابعًا: تبين عدم إمكان خضوع العلوم الإنسانية للتجربة المادية، فضلًا عن موقف الإسلام من استخدام العلم لخدمة البشرية، لا لاستعلاء الجنس الأبيض وتهديد البشرية بنذر القنبلة الذرية.

وبعد فلم يكن المسلمون في حاجة إلى أن يتسولوا فتات موائد الغرب، سواء في قانونه أو علومه الاجتماعية أو منهجه السياسي، فهم لهم منهجهم الأصيل، المنهج الرباني الذي عاشوا به أربعة عشر قرنًا دون أن تخترقه متغيرات العصور أو البيئات لأنه من صنع الله تبارك وتعالى.

وليسـت لهم حاجة إلا إلى العلوم التجريبية والتكنولوجيا لتنصهر في بوتقة فكرهم، لا ليكونوا خاضعين لأصحابها، حتى يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي الرباني الأصيل ليصحح هذا الانحراف الذي أصاب البشرية منذ خمسة قرون، من خروجه على منهج الله تبارك وتعالى، وليستقيم أمر البشرية في وجهتها إلى الحق، وإقامة مجتمع العدل والرحمة والإخاء البشري.

لماذا ينظر الغرب إلى الإسلام والمسلمين نظرة سلبية؟

ينظر كثير من أبناء الحضارة الغربية إلى الإسلام والمسلمين نظرة سلبية محضة؛ نتيجة لعدة عوامل ساهمت في ذلك، فما هي تلك العوامل؟ وكيف يساهم المسلمون في تثبيت تلك العوامل؟ عوامل هذه النظرة السلبية متعددة؛ منها:

1- النظرة العقدية {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وهذا إقرار للواقع؛ فهم يروننا منحرفين عن عقيدتهم التي توارثوها، كما يسمعون من رجال دينهم، وهذا كما يفعل الغالبية مِنَّا إذ يكتفون بما ورثوه من آبائهم، وبما يسمعونه من علماء الإسلام دون أن يبحثوا في عقيدة الآخر ويعرفوا فسادها.

إن الساسة الغربيين يرون أن الشباب الأوروبي المسيحي بالوراثة أصبح أغلبه ملحدًا لا ينتمي إلى المسيحية ولا لأي دين، بينما أعداد المسلمين تتزايد، والتمسك بالإسلام بين الأجيال الجديدة أعلى نسبة من تمسك الشباب المسيحي بدينه؛ وهذا الأمر يُراقبه السياسيون ورجال الدين المسيحي، فيرون بالحسابات والإحصائيات أنه خلال القليل من عشرات السنين ستتحول أوروبا، تلقائيًّا وبدون حرب، إلى قارةٍ مسلمة.

إضافة إلى ذلك ما يراه الغربيون وساستهم، ورجال دينهم خاصة، من ازدياد مظاهر الالتزام بالدين بين المسلمين؛ فصلاة الجمعة تُقام في بعض المساجد أكثر من مرَّة متتالية في المسجد نفسه بسبب كثرة الأعداد التي تُغلق الطرقات، كما يرون الحجاب ينتشر بين النساء والفتيات المسلمات؛ بما يُثير الفضول لدى الأوروبيات لمعرفة سرِّ التمسك بأحكام الإسلام، التي يرون أنها تُضَيِّق عليهن؛ وهذا يفتح باب المناقشات مع المسلمات؛ مما يفتح الباب لمعرفة الأوروبيات بالإسلام أكثر.

ومما يزيد الأمر اشتعالًا، ويُعَدُّ مؤشرًا خطيرًا بالنسبة إليهم، أن كثيرًا من المساجد هناك كانت في أصلها كنائس، اشتراها المسلمون وباعها المسيحيون نتيجة هجران المسيحيين لها؛ مما يدفع القيادات الكنسية المختلفة، الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية، إلى التعاون أحيانًا، متجاوزين تكفيرهم لبعضهم؛ ليتعاونوا في وجه المسلمين، وبيع الكنائس لبعضهم؛ لكي يحرموا المسلمين من شرائها وتحويلها إلى مساجد؛ فقد أذهلهم النمو المتسارع لبناء المساجد في أوروبا؛ ففي عام 1970م كان في إيطاليا، مقر الفاتيكان معقل الكاثوليكية في العالم، مسجدٌ واحد أو اثنان على الأكثر، أما الآن ففي إيطاليا سبعمائة مسجد، وهذا النمو الكثيف للمسلمين يُثير انزعاجهم وقلقهم الشديد.

2- انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، فالغرب يرى في فلسفته أن الإنسان لكي يُبدع ويتطوَّر لا بد له من منافس، وإذا كان وحده هو المنتج المفكِّر فلن يكون هناك دافع للمنافسة؛ ولأن هناك طبيعة عدوانية شريرة تسري في دماء الساسة الغربيين ورجال الدين؛ فهم جعلوا المطلوب عدوًّا وليس منافسًا، وكان العدو المقترح بعد سقوط الاتحاد السوفيتي هو الإسلام!

3- أصحاب المصالح، إن لدى هؤلاء مصلحة أكيدة وكبيرة في تشويه صورة المسلمين، وتضخيم الخوف منهم، وتصويرهم كعدوٍّ خطير في أعين الشعوب الغربية المسيحية؛ وأخطر أصحاب المصالح هم السياسيون والعسكريون؛ فبعد انهيار الشيوعية وتفكُّك الاتحاد السوفيتي لم تَعُدْ هناك ضرورة لوجود حلف الناتو (الأطلنطي)، وبالتالي وجب حلُّه، والاستغناء عن الأسلحة الكثيرة، وتوقف عجلة الإنتاج في المصانع العسكرية الغربية، وبالتالي تسريح عشرات الآلاف من العمال، وخسارة مئات أو آلاف المليارات من الدولارات.

لذا عمد أصحاب المصالح إلى تضخيم قوة المسلمين، مع تصويرهم كعدوٍّ مخيف من أجل إبقاء الحلف، وبالتالي لزم اصطناع حروب تستهلك الأسلحة، وتفتح الباب للأموال القادمة من خزائن الدول الأخرى ثمنًا للسلاح، وثمنًا لمساعدة الغرب العسكرية لها.

كما يُستخدم ذلك الأمر في خدمة أهداف سياسية؛ فتضخيم صورة حركة حماس، مثلًا، وإعطاؤها صورة إعلامية أكبر من قدراتها العسكرية الفعلية، يهدف إلى تخويف المواطن الغربي بما يسمح للحكومات لتبسط يدها بالمنح والمساعدات المادية والعسكرية للكيان الصهيوني، التي يراها المواطن الغربي حامية له من العدو المسلم، الممثل في حركة حماس الإرهابية، كما صوَّروها له.

4- الفجوة الاقتصادية الكبيرة بين الغرب والعالم الإسلامي (ويُستثنى من ذلك بالطبع دول الخليج)، وبالفطرة الطبيعية عندما تكون هناك فروق ضخمة في الدخول ومستوى الحياة تثور المشاكل بين الفقير والغني؛ فمتوسط الدخل السنوي للفرد في النرويج، مثلًا، 42000 دولار، بينما في اليمن 1000 دولار، وفي النيجر 274 دولارًا، ومن هنا ينظر الغني إلى الفقير بقلق وسوء ظن، وأنه يريد أن يهجم عليه ليستولي على أمواله، ويرى براهين ذلك في موجات الهجرة غير الشرعية التي تفد على شواطئهم، وتملأ شوارعهم، وتُثير لهم المشكلات.

5- تزايد المسلمين في الدول الغربية، وإضافةً إلى ذلك فإن كثرة المواليد المسلمين في البلاد الغربية مقارنة بندرة المواليد بين الغربيين أنفسهم، لأنهم لا يُقبلون على الزواج أساسًا؛ مما يُهَدِّد التركيبة السكانية المسيحية الأوروبية؛ فالإحصائيات الغربية الرسمية تقول: إن نسبة المسلمين في أوروبا كلها تبلغ 5%، ومن المتوقَّع أن تصل عام 2050م إلى 20%.

فإذا علمنا أن الدين الإسلامي هو أكثر الأديان نموًّا في العالم، وأن هناك أعدادًا ضخمة من الغربيين تدخل الإسلام كل عام؛ حتى إن دولة كفرنسا الكاثوليكية، ذات التاريخ الصليبي العدائي ضد الإسلام والمسلمين، لو ظلَّت نسب الزيادة بين المسلمين وغير المسلمين ثابتة؛ فإن نسبة المسلمين عام 2060م ستتجاوز 50%؛ مما يجعلهم أغلبية.

6- الانحرافات السلوكية لدى بعض المسلمين في أوروبا، فهم يرون المسلمين يأتون بطرق غير شرعية في كثيرٍ من الأحيان، وهذه جريمة ومخالفة، وأكثر من ذلك أنهم يرون نسبة المسلمين لديهم داخل السجون أضعاف نسبتهم في المجتمع، وهؤلاء مسجونون في جرائم جنائية؛ كالمخدرات والدعارة والهجرة غير الشرعية؛ مما يُعطي صورة مشوَّهة عن المسلمين عمومًا في نظر الإنسان الغربي غير المسلم.

7- وجود بعض الأفكار المتطرفة لدى بعض الشباب المسلم، وهنا ينسب الغرب هذه الأفكار لا إلى هؤلاء الشباب وإنما إلى المسلمين عمومًا، ثم إلى الإسلام نفسه، وهم غير معذورين في هذه النسبة؛ ذلك لأنهم عندما يجدون نزعات تطرُّف من مجموعات من دين آخر، مسيحي أو يهودي، فإنهم لا ينسبونها إلى دينهم، وإنما ينسبونها لعرقهم أو جنسيتهم؛ أي إنهم مغرضون في فعلتهم هذه، ولكن جماهير الشعوب عندهم أحيانًا تُخدَع بهذه الأفعال؛ فترى الإسلام دين التطرف والإرهاب، وأن المسلمين، في حقيقتهم، خطر على العالم.

8- النمو السكاني الكبير، حيث ينمو عدد المسلمين بسرعة بالنسبة لغيرهم الذين يعيشون حياة إباحية ولا يفضلون الزواج؛ لذا فقد زاد عدد المسلمين في العالم من 800 مليون سنة 1980م إلى 1429 مليونًا في سنة 2000م، ثم زاد إلى 1570 مليونًا سنة 2011م، ومن المتوقع أنه عام 2025م، إن شاء الله، سيصل عدد المسلمين إلى 2500 مليون؛ أي: 2.5 مليار، بينما سيبلغ عدد المسيحيين بكل طوائفهم ومللهم مليارين فقط، وستُصبح تلك أول مرة في التاريخ يزيد فيها عدد المسلمين على أعداد غيرهم؛ هذا النمو السكاني يُثير فزعهم؛ حيث يخشون من سيطرة المسلمين على العالم بقوة العدد.

9- التاريخ العدائي الكبير بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي، على مدى قرون جرت معارك طويلة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق والغرب، وحدثت فيها فتوح إسلامية ثم احتلال غربي لبلاد الإسلام، ومجازر رهيبة ارتكبها المسيحيون في الحروب الصليبية، ثم في الاحتلال المعاصر في القرن العشرين، وإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المغتصبة، ثم احتلال العراق وأفغانستان.

10- التنظير للعداء، فقد قام الغرب بالتنظير لحالة العداء هذه؛ فقام فرانسيس فوكوياما بنشر كتابه (نهاية التاريخ)، يقول فيه: «إن الرأسمالية الحالية المسيطرة على العالم هي أفضل وأكمل نموذج لحياة البشر، وهي المحطة النهائية في مسيرة التاريخ؛ لذا يجب التخلُّص من أصحاب الأفكار والنظريات الأخرى كالإسلام».

ومن بعده نشر صمويل هنتنجتون كتابه (صدام الحضارات)، يذكر فيه أن الأصل في التعامل بين البشر هو الصراع والصدام، وذلك رغم أن الله تعالى بيَّن لنا في القرآن أن الأصل في التعامل مع الآخرين هو التعارف {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وأكثر من ذلك قام فوكوياما بتوجيه رسالة إلى الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، كلينتون، يدعوه للقضاء على المسلمين، ولمّا لم يستجب لذلك أعاد توجيه الرسالة للرئيس بوش الابن، ومن بعدها بدأت الحروب الأمريكية ضد المسلمين.

أما عن سؤال: كيف يمكن تغيير تلك الصورة السلبية لدى الشعوب الغربية عن المسلمين؟

فيمكننا أن نفعل ذلك من خلال التعريف بالحقيقة وبالإسلام، عبر ما نستطيع استخدامه من وسائل الإعلام؛ فشبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي؛ كالفيس بوك وتويتر، تُعتبَر وسيلة مُثلى للتعريف بالإسلام دينًا وحضارة.

وعلينا، أيضًا، أن نُبَيِّن للغربيين مدى ما فعله الغرب بنا من جرائم إنسانية، ليس بالحروب والقتل والتشريد والاحتلال فقط؛ بل على المستوى الحضاري أيضًا؛ فأحد الرحالة الألمان دخل الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي لها عام 1830م، فقال: إنني قلما قابلتُ رجلًا أو امرأة في الجزائر لا يكتب أو يقرأ، ثم دخل الفرنسيون الجزائر عام 1830م وخرجوا عام 1960م بعد مائة وثلاثين عامًا ونسبة التعليم في الجزائر 5% فقط، والأمية 95%؛ هذا فضلًا عن مليون وخمسمائة ألف شهيد مسلم قتله الفرنسيون، هذا ما فعله الغرب بنا، بينما المسلمون في الأندلس منذ أكثر من ألف سنة كانت لديهم نسبة الأمية صفرًا؛ وذلك في عهد عبد الرحمن الناصر.

كما أن علينا أن نمارس الإسلام في حياتنا اليومية وفي شوارعنا، من حيث النظافة والذوق وحُسن التعامل؛ فيرانا غير المسلم فيعرف قيمة الإسلام وتقدمه وروعته(3).

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم، في أنحاء الأرض، هو عالم القلق والاضطراب والخوف والأمراض العصبية والنفسية، باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه، وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية، وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية، والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار، وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار، ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة، وحرب الأعصاب، والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك! إنها الشقوة البائسة المنكودة، التي لا تزيلها الحضارة المادية، ولا الرخاء المادي، ولا يُسْر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة.

وما قيمة هذا كله إذا لم ينشئ في النفوس السعادة والرضا والاستقرار والطمأنينة؟

إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى! حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاءً عامًا، في أمريكا وفي السويد وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاءً ماديًا، أن الناس ليسوا سعداء، أنهم قلقون، يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء، وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج، وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة، وفي (التقاليع) الغريبة الشاذة تارة، وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة، ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب، الهرب من أنفسهم، ومن الخواء الذي يعشش فيها، ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها، فيهربون بالانتحار.

ويهربون بالجنون، ويهربون بالشذوذ، ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدًا، لماذا؟

السبب الرئيسي طبعًا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة، على كل ما لديها من الرخاء المادي، من زاد الروح من الإيمان، من الاطمئنان إلى الله، وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله، وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه.

ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير بلاء الربا، بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويًا معتدلًا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها، إنما ينمو مائلًا جانحًا إلى حفنة الممولين المرابين، القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف، يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة، ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين، ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها الجميع، والتي تكفل عملًا منتظمًا ورزقًا مضمونًا للجميع، والتي تهيئ طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع، ولكن هدفه هو إنتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح، ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين، وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعًا، وصدق الله العظيم: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275](4).

ومن أهم عوامل هذا الاضمحلال: الأمراض السرية الفتاكة، يدل على ذلك أن كان عدد الجنود الذين اضطرت الحكومة إلى أن تعفيهم من العمل، وتبعث بهم إلى المستشفيات، في السنتين الأوليين من سني الحرب العالمية الأولى، لكونهم مصابين بمرض الزهري، خمسة وسبعين ألفًا، وابتلي بهذا المرض وحده 242 جنديًا في آن واحد في ثكنة متوسطة.

وتصور، بالله، حال هذه الأمة البائسة في الوقت الذي كانت فيه، بجانب، في المضيق الحرج بين الحياة والموت، فكانت أحوج ما تكون إلى مجاهدة كل واحد من أبنائها المحاربين لسلامتها وبقائها.

وكان كل فرنك من ثروتها مما يضن به ويوفر، وكانت الحال تدعو إلى بذل أكثر ما يمكن من القوة والوقت وسائر الأدوات والوسائل في سبيل الدفاع.

وكان، بجانب آخر، أبناؤها الشباب الذين تعطل آلاف منهم عن أعمال الدفاع، من جراء انغماسهم في اللذات وما كفى أمتهم ذلك خسرانًا؛ بل ضيعوا جانبًا من ثروة الأمة ووسائلها في علاجهم، في تلك الأوضاع الحرجة.

يقول طبيب فرنسي نطاسي يدعى الدكتور ليريه: «إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري، وما يتبعه من الأمراض الكثيرة في كل سنة، وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية بعد حمى (الدق)» .

وهذه جريرة مرض واحد من الأمراض السرية التي فيها، عدا هذا أمراض كثيرة أخرى(5).

والأمة الفرنسية يتناقص تعدادها بشكل خطير؛ ذلك أن سهولة تلبية الميل الجنسي، وفوضى العلاقات الجنسية والتخلص من الأجنة والمواليد، لا تدع مجالًا لتكوين الأسرة، ولا لاستقرارها، ولا لاحتمال تبعة الأطفال الذين يولدون من الالتقاء الجنسي العابر، ومن ثم يقل الزواج، ويقل التناسل، وتتدحرج فرنسا منحدرة إلى الهاوية.

سبعة أو ثمانية في الألف هو معدل الرجال والنساء الذين يتزوجون في فرنسا اليوم، ولك أن تقدر من هذا المعدل المنخفض كثرة النفوس التي لا تتزوج من أهاليها، ثم هذا النزر القليل من الذين يعقدون الزواج، قل فيهم من ينوون به التحصن والتزام المعيشة البرة الصالحة؛ بل هم يقصدون به كل غرض سوى هذا الغرض(6).

والاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار؛ أما النافع منها فهو من الناحية المادية، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه، وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني، وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي، الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته.

فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى، مفلسة إفلاسًا كليًا من الناحية الثانية.

ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم، وهلاك مستأصل، كما هو مشاهد الآن، وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي، الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدًا(7).

ويقول يوسف القرضاوي: «الحضارة الغربية قدّمت للإنسان الغربي الوسائل، ولم تقدم له الغايات، قدمت له الرفاهية ولم تقدم له السكينة، منحته المادة وسلبته الروح، أعطته العلم وحرمته الإيمان، هذا ما صنعه الغرب، ناهيك بما صنعه بغيره من الشعوب، لقد قتل الغرب الآخرين ليحيا، وصنع من جماجمهم حجارة لبناء رفاهيته، وزخرف أبنيته بدمائهم»(8)، وإذا كان في الحضارة الغربية من خير فكله قد سبق به الإسلام، ولسنا في حاجة إلى أن نتسوّل من غيرنا ونحن أغنياء(9).

***

________________

(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص31.

(2) قضايا الدعوة الإسلامية من اليقظة إلى الصحوة (6/ 332).

(3) نظرة الغرب إلى الإسلام والمسلمين، موقع: طريق الإسلام.

(4) في ظلال القرآن (1/ 327).

(5) الحجاب، ص113-114.

(6) في ظلال القرآن (2/ 633).

(7) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 505).

(8) الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، ص101.

(9) مسلمة الغد، ص31.