الخطيب الناجح
ما أن ينتهي الخطيب من مقدمته، المعهودة سلفًا لدى جمهوره، حتى تجد الأنظار مترقبة، والكل يبحث عن القادم، وعما تنفجر عنه كلمات الخطيب من موضوع، والخطيب ذاته يجد نفسه بعد هذا الفاصل بين خيارات متعددة؛ إما أن يوضح ويصرح بما سيتناول الحديث عنه، أو يجنح بخيال المستمع إلى أمر ما، ينفذ من خلاله إلى أهمية ما يريد الحديث عنه، أو يستحضر من القرآن ما يبدأ به، أو من السنة ما يشرق به، أو يجنح بقصة مؤثرة من الماضي، أو حكاية من الحاضر، أو موقف غريب، أو ظروف طارئة، أو غير ذلك من المطالع التي يبدأ بها الخطيب خطبته.
والخطبة الناجحة هي التي ينبغي أن يكون لها ما يميزها في مقدمتها؛ من حُسن الاستهلال, والمدخل المشوق, وربط المشاعر مع الناس، والإنسان يستطيع أن يبدأ بُحسن الاستهلال؛ وهو أن يدل مطلع الخطبة على محتواها، أو أن يُشير إلى عكس ذلك, بحيث يجتهد المستمع في معرفة موضوع الخطبة التي يريد أن يؤديها، كذلك قد يبدأ بقصة، أو يبدأ باستفهام.
أما عن اختيار موضوع الخطبة فإنه يخضع لعدة عوامل؛ من ثقافة الخطيب وقدراته العلمية، فقد يختار الخطيب موضوعًا لا يجيد الحديث عنه لقلة علمه وضعف إدراكه، وكذلك يعتمد الداعية في اختياره للموضوع للطبيعة الثقافية والمجتمعية لجمهوره، فقد يختار من المواضيع ما لا يتناسب مع جمهوره.
إن كثيرًا من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلًا في الحديث عن القيامة وأحوالها تجد أن كثيرًا من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله، وما يجري فيه في خطبة واحدة، وهذا غير ممكن، ويؤدي إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة، كما هو مشاهد، لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة، لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيرًا في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات.
ويتبدَّى فقه الخطيب وحسن اختياره للموضوعات في الملامح التالية:
1- وضوح الهدف:
إنَّ من فقه الخطيب أن يكون مستحضرًا الهدف الذي يريد أن يتوصل إليه بخطبته، وأن يكون ذلك الهدف مشروعًا، وبحسب ذلك الوصف يبني خطبته وينظم عقدها، ويكون مقتنعًا بذلك الهدف، فيكون اختياره للموضوع نابعًا من صلاحيته للعرض على الناس، ومقدار النفع المتوقَّع لهم منه، لا أن يكون ناتجًا عن اندفاع عاطفي أو رغبة في إرضاء جمهور الناس، إذ صار ذلك همّ بعض الخطباء، شعروا أو لم يشعروا، فهم يهتمون بطرح ما يُرضي الناس وما يرغبون فيه، فيكون المؤثر في الخطيب الناس، في حين المفترض العكس.
أما الهدف العام فيوضحه قول الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: «يقصد بها [أي: خطبة الجمعة] الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنابه، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع إليها»(1).
وكلما ابتعدت خطبة الجمعة عن هذا الهدف العام صارت صورة لا روح فيها، ويقل أثرها أو ينعدم على المصلين.