logo

الفوضوية في الدعوة


بتاريخ : الجمعة ، 17 محرّم ، 1437 الموافق 30 أكتوبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الفوضوية في الدعوة

أن يمضي الداعية على غير هدى, وبدون ترتيب، فليس هناك نظام ولا خطة ولا هدف، ولا معالم واضحة للسير، وإنما كل ما هناك رؤية عابرة، وكلمة طائرة .

شيء مؤسف حقًا أن يفكر مسلم بهذه الطريقة، فأية عبقرية هذه التي تأتي بها الفوضى؟! فالكون كله مبني على النظام والدقة المتناهية، وكل شيء فيه مصرف ومدبر بحكمة، وليس من شيء يتم هكذا جزافًا أو عبثًا أو ارتجالًا أو مصادفة أو اعتباطًا، حاش لله القائل في كتابه العزيز: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، قدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه، ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء، وتأثيره في كيان هذا الوجود.

وشعائر الإسلام كلها، من صلاة وصيام وحج وزكاة، كلها لها أوقات مخصوصة وشروط محددة، فلا مجال للفوضى، ولكن يبدو أن الفوضى في العقول وفي الفهوم وفي القلوب، وهذه ضررها أكبر من الفوضى في الأشياء والمحسوسات، وكما قال مصطفى صادق الرافعي: «من الخطأ الكبير أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك».

إن الانضباط في الانفعالات والأحاسيس، والانسجام في الأفكار، ووضوح الرؤية والهدف، يجعل الشخصية أكثر اتزانًا، والترتيب والنظام في الهندام وفي المكان وفي الأعمال، وفي كل شيء في الحياة، يشيع في النفس ارتياحًا، ويجعل الأمور تسير بانسيابية أكثر، وأما الفوضى فلن تأتي إلا بالفوضى.

من مظاهر الفوضوية في الدعوة:

- لا يدري ما يقول، وهذا شعور يدل على فوضوية الداعية، فحين يكون مع المدعو تجده صامتًا لا يدري ماذا يقول، أو تجده يرمي الكلام على عواهنه دون وعي وتفكير، وأحسن الأحوال أن تخطر في باله قصة أو فكرة فيقولها، دون أن تكون منتظمة في إطار منسق مع غيرها من الأفكار والقصص.

- ماذا أعطيه؟ تسأل الداعية أحيانًا: ماذا أعطيت المدعو ليقرأه أو ليسمعه؟ فتجد خلطًا عجيبًا من العناوين، وتجد أشياء غير جيدة، وتجد أشياء لا تناسب المستوى الفكري والإيماني للمدعو، وتجد أن بعض الجوانب فيها تطغى على بعض.

- عدم التجانس التربوي: وهذه ظاهرة خطيرة، وصورة سيئة من صور الفوضوية لدى الدعاة، فحين يغيب النظام, وتحل الفوضوية، تتأمل في طرائق التربية، فتجد أن الداعية الذي تميز في الجانب الإيماني يغترف من بضاعته للمدعو فيغرقه بالإيمانيات، أما الفكر والثقافية والمهارات العملية فتجده أبعد ما يكون عن محاولة تلقينها لصاحبه! وتجد الداعية الذي تميز بالفكر والاطلاع يغرق صاحبه في بحر من القراءات والتحليلات، وهكذا تصبح لدينا في النهاية تضخمات لجوانب معينة على حساب جوانب أخرى.

- الانتقاء العشوائي: فالداعية يهتم بمن جاء إليه، ودخل تحت سقف مسجده، دون تأمل وتفكير: هل يصلح هذا المدعو أم لا؟ إلى أي مرحلة سأصل معه؟ ومن ثم نجد من يمشي مع صاحبه سنين ذوات عدد ثم يصاب بالإحباط؛ لأنه فوجئ أن صاحبه هذا لا يمكن أن يستمر بحال! أفلا وعيت ذلك من قبل؟(1).

- عدم محاسبته نفسه وعدم معرفة عوامل النجاح وأسباب الإخفاق: قال الماوردي في معنى المحاسبة: «أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل»(2)، وقال ابن القيم رحمه الله: «هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد)، فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود»(3).

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، قال صاحب الظّلال: «وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله؛ بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة.

وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير، مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلًا ورصيده من البرّ ضئيلًا؟! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبدًا، ولا يكفّ عن النظر والتقليب»(4).

ويحذّر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس فيقول: «أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يئول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور؛ يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنسَ بها، وعسر عليه فطامها»(5).

- غياب الخطة والهدف: التخطيط هو تحديد الأهداف المراد تحقيقها، ورسم خط السير إليها، وتحديد وسائل ذلك السير، مع وضوح التصور لما يمكن أن يحدث أثناء العمل من المستجدات والتطورات، ووضع ما يناسب ذلك من طرق التعامل مما بات يسمى بـالخطة والخطة البديلة، شريطة أن يستهدف ذلك أكبر قدر ممكن من المكاسب، وأقل قدر ممكن مِن الخسائر.

إن أغلب الناس تكون حياتهم ضمن نطاق إدارة الكوارث؛ أي أنهم ينتظرون حتى تبدأ كارثة أو مشكلة، ثم يسعون في طلب الحل، وبالتالي غياب التخطيط في حياتهم.

والتخطيط يتميز بخاصيتان؛ الأولى أنه يقودك من حيث أنت الآن إلى حيث تود أن تكون، والثانية أنه يحدد الموارد المطلوبة لتحقيق الهدف من حيث التكلفة والوقت.

إن أهم معوقات التخطيط هي عدم وضوح الأهداف، وعدم وجود خطط يومية وأسبوعية وسنوية، وعدم تحديد الأولويات، وترك الأعمال قبل إنهائها والشروع في أعمال أخرى، والأهم هو عدم تحديد أزمنة واقعية للتنفيذ.

فيتحرك الداعية دون تحديد لهدف عام أو خاص وغير واضح؛ ولكنه رأى الناس يعملون فعمل معهم فهو لا يدري لماذا يسير؟ ولا كيف يسير؟ والجهل بهذين مصيبة وأي مصيبة.

إن سير الدعوة بدون تخطيط معناه الفوضى وعدم الانضباط، وانظر في واقعنا: لو سألت أحد الدعاة: ما هي المرحلة التي بلغها صاحبك؟ لما عرف كيف يجيب، ولو طلبت منه أن يشرح لك تصوره التفصيلي للمرحلة القادمة لما أجابك إلا بعموميات لا تفصيل فيها.

وعمومًا، فما ذكرته هنا مجرد صور وخواطر وأفكار حول هذه القضية الخطيرة، والباب مفتوح للنقاش والإضافة والإفادة.

آثار الفوضى:

ضياع الأوقات والطاقات:

فالفوضى تذهب عليه الأوقات وهو يتخبط في أحواله، فما أن يبدأ بمنهج إلا وتراه ينقلب إلى غيره، وما أن يمسك إلا وينتقل إلى غيره، وهكذا حتى يذهب عمره وهو لم يحصل شيئًا، فهو بذلك يعيش عقوقًا لوقته، كما قال أحد الحكماء: «من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه»(6).

إن الحفاظ على الوقت من أوجب الواجبات وأهمها في حياة المؤمن، الذي ينبغي له تسخير الوقت واستثماره في كل ما يعود عليه بالفائدة في دينه ودنياه، متأسيًا في ذلك بسلفنا الصالح الذين كانوا يعرفون للوقت حقه، مما خوَّلهم في أقل من قرن من الزمان أن يُحدِثوا انقلابًا جذريًا في مفاهيم كثير من المجتمعات التي حملوا الإسلام إليها.

الفشل المحقق:

العمل المنظم المتقن يتطور ويرتقي، والعمل الفوضى يتدهور وينتهي.

كثير من الناس يتجنب التخطيط ووضع الأهداف مخافة الفشل، ولو حاولوا لنجحوا؛ بل إن من يحاول تزداد خبرته ولو لم ينجح، فالمعرفة والخبرة التي ستكتسبها في سعيك لتحقيق هدف ما يمكن أن تساعد على تحقيق هدف ربما أكبر من السابق.

فالفوضى بالتالي هي الفرار من الفشل المتوقع إلى الفشل الواقعي أو الحقيقي.

الفتور والانقطاع:

فالفوضوي لا يرى ثمارًا تشجعه على مواصلة الطريق، فالمربي في حلقته حينما تكون أعماله ارتجالًا ولا تنظيم، فلا شك أنه لن يرى ثمارًا تشجعه على الاستمرار في العمل، فمن ثم تكون نهايته الفترة يعقبها توقف وانقطاع .

إن وكل إليه أمر في العمل للدعوة إلى الله ضيعه وما أتقنه، لا يؤديه على أكمل وجه، ولا يستطيع أن يستمر فيه، يبدأ في عمل ثم يتركه، يبدأ في أمر في الدعوة إلى الله ثم لا يلبث أن يتركه ولا يستطيع أن يتحمله.

فعندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم، وغير مستوعبة للواقع، ولا مدركة للإمكانيات، ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب؛ فإن هذه الاندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها، فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور، ويترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية؛ بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم يعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساسًا للانطلاق أو العمل.

صور من الفوضى:

الفوضى في طلب العلم:

وهذا من أعظم الفوضى، ففيه الفتوى على الله بغير علم، فتجد الفوضوي يقرأ كل ما يقع في يده، وينفق أمواله على كل كتاب تقع عليه يداه، ويقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: «ومن أعماه الله لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالًا».

فالفوضوي الذي يتتبع الرخص بين المذاهب، أو يخبط خبط عشواء في هذا المذهب وذاك فمسلكه خطير، ونقل الشاطبي عن ابن حزم أنه حكى الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب بغير مستند شرعي فسق لا يحل.

يؤخر الأصول، ويهتم بالفروع، ويقدم آلة العلم على الكتاب والسنة، وهذه لا يرتضيها الربانيون الذين قال الله فيهم: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].

إن الرباني هو العالم الفقيه الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمة، ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره، فإن جمع الإنسان هذا كله قدر له أن يكون من الربانيين في العلم.

الفوضوية في التعامل مع الأوقات:

كإعطاء العمل البسيط فوق مايستحق من الجهد والوقت، وتضييع الساعات الطوال دون عمل البتة، وتراكم أكثر من عمل في وقت واحد، وقتل الأوقات في أمور تافهة .

يقول ابن القيم: «فأما ما تؤثره كثرة الخلطة: فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود يوجب له تشتتًا وتفرقًا وهمًا وغمًا وضعفًا وحملًا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء، وإضاعة مصالحه، والاشتغال عنها بهم وبأمورهم، وتقسم فكره في أداء مطالبهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة»(7).

فالقليل من يفكر قبل أن يصاحب ما هي الثمرة من هذه الصحبة؟ هل ستزداد علمًا منه؟ أو خلقًا؟ أو مجرد راحة وأنس؟بل ينبغي للإنسان أن يبحث ويلازم من كان يفوقه حتى ينال ويأخذ مما عنده، وهذا لا يعني عدم الانبساط وإدخال السرور .

الفوضوية في الدعوة إلى الله:

فمن الفوضوية أن تجد الرجل يربي جيلًا على العشوائية، فمن صور العشوائية العشوائية في البرامج المطروحة، فتجده لا يفكر ولا يتأمل ما هو المناسب وغير المناسب، وإنما قد تكون وليدة الساعة أحيانًا.

العشوائية في الدروس الملقاة، والإهمال الفظيع للتربية الإيمانية، فلا عجب أن ترى من الشباب من يسلكون الفوضوية.

فترى الشاب متحمسًا في الأعمال الإغاثية، ثم لا يلبث أن يعود الى الأعمال الدعوية، ثم لا يلبث أن يعود الى عمل دعوي آخر وهكذا، فعند ذلك هل ترجى ثمرة من أشجار انقطع عنها الماء ولم تجد من يرعاها؟

عدم العدل في الحكم على الآخرين: فيقول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، فعندما يعجب الشاب بداعية إلى الله من حيث قوة أسلوبه؛ فتجده يكيل له بالمدح والثناء، ثم بعد فترة تجده يذم كلامه وأسلوبه.

فالفوضوية تظهر جلية في تغيير المواقف، مع عدم وجود أسباب صحيحة، وإنما هي المزاجية.

والعمل الدعوي مجال مفتوح له طرقووسائل عدة، الابتكار فيه لا مانع منه،واستخدام بعض الطرق والوسائلالتقليدية مشروع أيضًا؛ وذلك وفق ضوابط وأصول متفق عليها من قبل الدعاة، بناءً علىأسس الشريعة الإسلامية الراسخة، ولكل داعية أسلوبه وطريقته.

لكنه من الملاحظ أن هناك آفة قد استشرت في بعض الصفوف،تلك الصفوف التي يحرص أصحابها على الكسب الذاتي؛ فهم يحرصون على كسب أكبر عدد منالمدعوين، وهذا واقع حاصل.

والآفة التي يقع فيها هؤلاء كثيرًاهي ما أسميه تجاوزًا (الفوضى الدعوية)؛حيث يقوم كل واحد منهم بالتوجه إلىشخص واحد، فيتوجهون كلهم إلى الشخص نفسه، ويبدأ كل منهم بسلوك أساليبه وطرقهالدعوية معه.

وأسباب توجههم له بهذا الشكل عديدة؛ مثل: حرصه علىالمحافظة على الصلاة، أو حسن أخلاقه، أو أنه في بداية طريق الانتكاسة، فيعملون كماسلف كل بحسب أسلوبه وطريقته.

ويحرص كل منهم على أن يكون التزامهواستقامته على يده،ويعمل على أن يضمه لمجموعته، وما إلى ذلك، وبهذا يقومونبالهدم لا البناء، فلا يجد أحدهم غضاضة في التحذير من فلان، ولو بطريقة غير مباشرة،ليكسبه هو في صفه.

ولا مانع عندهم أيضًا من التصادم الذي قد يبدو كله أوشيء منه أمام المدعو.

إضافة إلى ما يحصل من هدم بسببالاختلاف في الطرق والوسائل الدعوية تبعًا لاختلاف وجهات النظر،وفي هذهالحالة فإما أن يكون المدعو ذكيًا ويصادمهم بعضهم ببعض، وإما أن يأخذ كلامهم ويضرببه عرض الحائط، وإما أن يجامل الجميع فيصبح مذبذبًا.

وعندئذ يكونون كالمنبتِّ الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًاأبقى، حرصوا على الكسب لحساباتهم الذاتية، فهدموا، أو جعلوا أساس البناء هشًا إن لميهدموه.

وهذه الآفة علاجها سهل يسير، وهو أنيحرص كل من يعمل في المجال الدعوي على نقاء النية وإخلاصها لله،إضافة إلىالوعي بأهمية العمل المنظم المنسق، وهذا جانب مهم في العمل الدعوي، وهو أن هذاالمجال يحتاج إلى تنظيم وتنسيق وتضافر وتعاون، لئلا يحصل الهدم دون شعور، ونكونكالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.

أسباب الفوضى:

التشتت الذهني:

التشتت يعني عدم القدرة على اتخاذ قرار صحيح، وهذا نتيجة التربية التي لم تولد عند المتربي الاهتمام بالتصنيف التصاعدي حسب الأهمية، وحسب الارتباط؛ مما قد يولد عند الفرد التشتت الذهني، وعدم الاكتراث بحسن التدبير.

ولذلك فإن من جملة التعامل مع الحقائق ترتيب الأولويات في القضايا التي تحتاج إلى معالجة، وهذا الترتيب لا ينبع إلا من إدراك عميق لطبيعة القضايا والظرف العام الذي تجري فيه المعالجة(8)، ففي مجال الدعوة التي تحتاج إلى فقه ترتيب الأولويات إذا فقدها الشخص قد لا ينجح في التأثير على المدعوين.

ويرجع أغلب التشتت الذهني إلى عدم الاقتناع بأهمية ما نفكر به، أو إلى أن هناك ما هو أهم منه.

ضعف التربية:

فالذين تربوا على ألَّا يجعلوا المسئولية عليهم وإنما على غيرهم، وعطلوا طاقاتهم؛ فستأتي عليهم الأيام بمسئوليات جسام، لا يدرون كيف يتعاملون معها، وتراهم هكذا في فوضوية من أمرهم، لا يحسنون إدارة أمورهم؛ لأنهم اعتادوا أن يدبر أمورهم غيرهم.

ومما تجب الإشارة إليه في باب ضعف التربية ما يلي:

أ- ضعف البدايات، وعدم بناء الشخصية المسلمة على أسس قوية مؤصلة؛ مما يجعلها هزيلة غير متمكنة، تميل إلى ما قامت عليه وتحن إليه؛ مما يجعل صاحبها يعاني أيما معاناة.

ب- عدم التدريب على المبادرة؛ بل أحيانًا تربية الفرد على السلبية وانتظار التكاليف، فهو إمعة ومقلد.

ج- ضعف الثقة بالنفس، والخوف من الإحباط والفشل، والتهيب من كل جديد.

د- الغفلة عن مبدأ الثواب والعقاب، أو إساءة استخدامه.

هـ- التعنيف في المحاسبة، وتضخيم الأخطاء، وكثرة العتاب، وعدم مراعاة الفروق الفردية، والظروف الاجتماعية؛ مما يسبب للشاب نفورًا ووحشة وإحباطًا.

وإبراز الشخص وتحميله مسئوليات كبيرة قبل نضجه وإعداده وتربيته، وهذا بلاء عواقبه وخيمة في العاجل أو الآجل(9).

الجليس الفوضوي:

عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح مثل العطار، إن لم يصبك منه أصابك ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين، إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه»(10).

فدل هذا الحديث على التحذير الشديد من جلساء السوء؛ لأنهم شر على من يجالسهم، وربما قصدوا أن ينفعوه فيضروه من حيث لا يشعرون.

وفي تمثيل الجليس السوء والجليس الصالح بحامل المسك أو نافخ الكير: فيه تجنب خلطاء السوء ومجالسة الأشرار وأهل البدع والمغتابين للناس؛ لأن جميع هؤلاء ينفذ أثرهم إلى جليسهم، والحض على مجالسة أهل الخير وتلقي العلم والأدب، وحسن الهدي والأخلاق الحميدة(11).

فالواجب على العاقل ترك صحبة الأحمق، ومجانبة معاشرة الفوضوي، كما يجب عليه لزوم صحبة العاقل الأريب، وعشرة الفطن اللبيب؛ لأن العاقل وإن لم يصبك الحظ من عقله أصابك من الاعتبار به، والأحمق إن لم يُعدِك حمقه تدنست بعشرته.

ضعف الإرادة:

فإن ضعيف الإرادة يتخاذل فتميل نفسه إلى الكسل، فلا يكون حازمًا في تنفيذ أعماله، فمن الصعب من كان هذا حاله أن يرتب أعماله وواجباته وفق نظام عمل سليم.

قال شيخ الإسلام: «والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريدًا للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة»(12).

حتى لا تكون فوضويًا:

يقول ابن الجوزي: «ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة من غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل»(13).

أن تحدد الواجبات التي على عاتقك، ثم انظر إلى يومك واجعل لكل واجب الوقت الذي يناسبه، ثم سجل ذلك في ورقة تذكرك إذا نسيت، وكتابة ذلك خير لك من حفظها في الذاكرة التي تغفل ويقع منها السهو.

ضع خطة زمنية طويلة المدى لكل عمل تقوم به، وقف وقفة محاسبة بعد فترة زمنية.

لا تضيع الوقت في الندم والشعور بالذنب على أزمنة مضت لم تستفد منها، ففي ذلك إحباط للنفس.

لا بد وأن يكون أحدنا قد تعامل مع شخص أو أكثر من النمط الفوضوي وغير المنظم، وربما أصابه الضجر من هذه اللامبالاة التي يتصف بها هذا الصنف من الناس، فأنت إن طلبت من أحدهم شيئًا يبقى يبحث عنه أين وضعه، أو أين كتبه إن كان رقم هاتف مثلًا، فأوراقه دائمًا مبعثرة، وأموره وأوقاته غير منظمة، والفوضى تملأ حياته، وفي أحيان كثيرة لا يكترث بالاعتذار منك إن تأخر عليك بالطلب الذي طلبته منه، أو إن لم يجده أصلًا، وأنت تبقى تنتظر، وقد تتعطل مشاغلك وتتأخر إن كانت تعتمد على هذا الشيء أو هذه المعلومة التي طلبتها منه.

مثل هذا الصنف من الناس لا يحسب حسابًا للوقت، ولا يكترث لضياعه، فأقل شيء يمكن أن يعيب الفوضى أنها مضيعة للوقت.

فكيف تعيب على إنسان شيئًا واقع أنت فيه وأنت لا تشعر، فليحذر الدعاة إلى الله أن تضيع أعمارهم هباءً، فهم أحوج الناس إلى اغتنام العمر، وتنظيم الوقت، والاستفادة منه.

______________

(1) الفوضوية في حياة الدعاة، موقع: صيد الفوائد.

(2) أدب الدنيا والدين، ص342.

(3) مدارج السالكين (1/ 187).

(4) في ظلال القرآن (6/ 3531).

(5) إغاثة اللهفان، ص82.

(6) فيض القدير شرح الجامع الصغير (6/ 288).

(7) مدارج السالكين (1/ 984).

(8) فصول في التفكير الموضوعي، ص99.

(9) الفتور، لناصر العمر، ص71.

(10) رواه ابن حبان (579).

(11) إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/108).

(12) مجموع الفتاوى (7/ 526).

(13) صيد الخاطر، ص33.