logo

الفشل وذهاب الريح


بتاريخ : الأربعاء ، 13 ذو القعدة ، 1442 الموافق 23 يونيو 2021
بقلم : تيار الاصلاح
الفشل وذهاب الريح

إذا كان ثمة خطر محدق يهدد وحدة الأمة المسلمة فهو خطر التفرق والتنازع؛ لأنه إذا فشت أوبئته فإنّ الثمن ستدفعه الأمة مِن رصيد قوتها وتماسكها وبقائها، كما أنه يهدّد سجل نجاحاتها بالإخفاق والضُّمور المرحلي.

الاختلاف طبيعة كونية:

قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].

إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض، إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله.

فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف، ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات، {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118- 119]، هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافًا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق، ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعًا حين تصلح وتستقيم، هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح، الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات، فلا يقتلها ولا يكبحها؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.

ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون، وحكم عدل يرجع إليه المختصمون، وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين: {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].

ولا بد أن نقف عند قوله تعالى: {بِالْحَقِّ} فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب، وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم، لا حق غيره، ولا حكم معه، ولا قول بعده، وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس، وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض، بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة، ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة، ولا يقوم على الأرض السلام، ولا يدخل الناس في السلم بحال.

ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم، والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف، إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق، وهو مصدر واحد لا يتعدد؛ هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه (1).

قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر} [آل عمران: ١٥٢]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: ٤٣]، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦]، ومعنى قوله تعالى: {فَتَفْشَلُوا} أي: فتضعفوا وتجبنوا، ومعنى قوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل (2).

ويلاحظ أن الخطاب القرآني قد ربط بين هذه المعاني، ورتب بعضها على بعض؛ رَبْط النتيجة بسببها، وتَرَتُّبَ المعلول على علته؛ وهذا شأن منهج القرآن الكريم في كثير من آياته، التي تقرر قانونًا عامًا، لا يتبدل ولا يتغير، بل يجري على سَنَنٍ ثابت مطرد لا اختلال فيه ولا تبديل {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

فقوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال: 46]، إخبار واضح، ونهي جازم، وسنة ثابتة، يدل على أن الفشل والتراجع -على مستوى الأمة أو الأفراد- إنما مرجعه إلى التنازع والاختلاف؛ إذ العلاقة بين الأمرين علاقة تلازمية، كعلاقة السبب بالمسبَّب تمامًا، لا تتخلف إلا إذا تخلفت سُنَن الحياة الكونية، كأن تصبح قوة الجاذبية إلى السماء لا إلى الأرض.

وعلى ما تقدم، فإن النهي عن التنازع يقتضي الأمر بمنع أسباب التنازع وموجباته، من شقاق واختلاف وافتراق؛ والأمر بتحصيل أسباب التفاهم ومحصلاته، من تشاور وتعاون ووفاق.

ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء والتوجهات، وهو أمر مركوز في الفطرة والجِبِلِّة البشرية، بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ آثاره، ومغبة مآله، ورتب عليه في الآية هنا أمرين: الفشل {فَتَفْشَلُوا}، وذهاب القوة {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، والفشل في الآية هنا على حقيقته، إذ يعني الفشل في مواجهة العدو ومدافعته؛ وذهاب الريح في الآية، كناية عن ذهاب القوة، والدخول في حالة الضعف والوهن.

إنّ للاختلاف آفاتٍ كثيرةً ونتائجَ سلبيةً لا يمكن حصرُها، ومنها تفرق الأمة وتمزقها وتنازعها، ورفع الخير عنها، وذهاب البركة من أعمال أهلها، ولتدرك ذلك تأمّل قول المولى عز وجل: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، والفشل هو انحطاط القوّة، والآية وإن كانت ورادة في سياق ذكر القتال إلا أن معناها عام، فكل تنازع يؤدي إلى انحطاط القوّة، ويؤدي إلى انعدام الإقدام على العمل، وذلك أن التنازع يثير التغاضب ويزيل التعاون بين الناس، بل ويجعلهم يكيدون بعضهم لبعض، فينشغل بالهم بذلك وباتّقاء بعضهم بعضًا، وتنصرف الأمّة عن الاهتمام بالأهداف المشتركة، والأعمال التي تنفع الجماعة وتصد كيد الأعداء، فيتمكّن منهم العدوّ، لأن الله تعالى يكل المتنازعين إلى أنفسهم، فلا يؤيديهم ولا ينصرهم، لأنهم قد اشتغلوا عن ذكره وعن نصرة دينه، ولو أخلصوا عملهم لله، ولم يشب إخلاصهم شائبة إرادة شيء من الدنيا لما اختلفوا الاختلاف الذي يؤدي إلى التنازع.

الاختلاف سبب للفشل ورفع البركة:

وذهاب الريح المراد به: الغلبة، وهي استعارة، وجه الشبه فيها أنّ الريح لا يمانع جَريها شيء، والمعنى: وتَزولَ غلبتكم وظهوركم ونفوذُ أمركم، وذلك لأنّ التنازع يفضي إلى التفرّق والوهن، وذهاب المهابة من صدور الأعداء، وإن للتمسك بكتاب الله تعالى ولتماسك صفوف المؤمنين أثرًا في النصرة من جهة إثارة الرعب في قلوب الأعداء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ» (3).

ولا يقولنّ قائل: كيف لا ينصرنا الله تعالى ونحن أهل الحق إذا اختلفنا وتنازعنا، لأننا نقول إن الخطاب في الآية المذكورة كان موجّها للمؤمنين، ولأصحاب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في السنة ما يؤكد أن الاختلاف يرفع الخير والبركة عن أعمال وأحوال خير الناس، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد هم أن يخبر أصحابه في عام من الأعوام بليلة القدر، فوجد في طريقه رجلين يختصمان فنسي ما أراد أن يقوله للناس، يحكي لنا ذلك عبادة بن الصامت فيقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة» (4)، والتلاحي: هو التنازع والمخاصمة.

لقد حدث بسبب الاختلاف ما هو أعظم من هذا أثرًا، فقد هم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته أن يكتب كتابًا يتركه لأصحابه ولأمته حتى لا يضلوا من بعده، ولا شك أن هذا خير عظيم، ولكنه لم يفعل، وما ذاك إلا لاختلافهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حكى لنا ذلك ابن عباس رضي الله عنه إذ قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا وكثر اللغط، فقال: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع»، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية (أي المصيبة كل المصيبة) ما حال بين رسول الله وبين كتابه (يعنى الاختلاف) (5).

والذي نستفيده من هذين الحديثين: أن الاختلاف يكون سببًا لرفع الخير والبركة عن كل أحد، ولو كان المختلفون في أنفسهم صالحين، لأنه إذا كان سببًا لصرف الخير عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فغيرهم أولى، وإذا كان الشيء المرفوع هو الحكمُ والخبرُ الذي فيه العصمة والهداية التي لا يتطرق إليها احتمال، فرفع غيره من أمور الدين والدنيا من باب أولى.

وإنما كان التنازع مفضيًا إلى الفشل، لأنه يُثير التباغض والشحناء، ويُزيل التعاون والألفة بين النفوس، ويدفع بها إلى أن يتربص بعضها ببعض، ويمكر كل طرف بالآخر، مما يُطْمِع الأعداء فيها، ويشجعهم على النيل منها، ويجرئهم على خرق حرماتها، واختراق محارمها.

وكم أُتيت أمة الإسلام على مر تاريخها -القديم والحديث- من جهة التنازع والتباغض، مع وضوح النص وصراحته في النهي عن هذا.

ومن ثَمَّ، جاء صدر الآية آمرًا بطاعة الله ورسوله، إذ بطاعتهما تُتلاشى أسباب التنازع والاختلاف، وبالتزام أمرهما تتجمع أسباب النصر المادي والمعنوي؛ فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الموجِّه الأساس للآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لأمر الله ورسوله، وجعلوا أهواءهم على وَفْق ما يحب الله ورسوله انتفى النزاع والتنازع بينهم، وسارت الأمور على سَنَنِ الشرع الحنيف، وضُبطت بأحكامه وتوجيهاته.

على أنَّه من المهم هنا حمل (الفشل) في الآية على معنى أعم وأوسع، بحيث يشمل الفشل في أمور الحياة كافة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث لا يقتصر الفشل على ساحات الوغى والقتال فحسب - كما هو السبب الذي وردت لأجله الآية الكريمة- وهو معنى لا تأباه اللغة، ولا يمنعه الشرع؛ وهذا أولى بفهم الآية، كما يُعلم ذلك مِن تتبُّع مقاصد القرآن، وكلياته الأساسية.

وحاصل القول في الآية: أن الاختلاف والتنازع عاقبته الفشل والخسران، وأن التعاون والوفاق سبب للفوز والنجاح في الدنيا والآخرة؛ والقارئ لتاريخ الأمم والشعوب -بما فيها تاريخ أمتنا الإسلامية- لا يعجزه أن يقف على العديد من الأحداث والشواهد والمشاهد -وعلى المستويات كافة- التي تصدق ما أخبر به القرآن الكريم. وصدق الله إذ يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، فهل يعمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي، أم ما زالوا عنه غافلين؟ (6).

السبب الرئيسي للنزاع:

فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم- مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة- فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها؛ مهما تبين له وجه الحق فيها، وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداء، ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة، إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة، إنها طاعة القيادة العليا فيها، التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها، وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله، ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلًا، والمسافة كبيرة كبيرة (7).

قال تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنًا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة، وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه، إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله، شرط الإيمان وحد الإسلام، شرطًا واضحًا ونصًا صريحًا {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (8).

وقد شخص شيخ الإسلام ابن تيمية الأسباب والنتائجَ لحالة الاختلاف والتنازع الحاصل في الأمة، فقال: وهذا التفريق الذي حصل مِن الأمة -علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العملَ بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: ١٤].

فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب (9).

إن تفرق النجب وتنازعها؛ يفتح الباب على مصراعيه لتسلط الأعداء وتمكنهم من الأمة، والاستيلاء على مفاصل حراكها بوجهٍ عام، وبقدر تنازُع هذه النخب واختلافها يكون تسلط الأعداء والخصوم.

وإنّ التنازع المرير، وحالة التشرذم التي تشهدها الساحة الإسلامية، تجعلنا نقف مليًّا لنتأمل الفوضى الثقافية والفكرية، والتي تُنبئ عن حالةٍ من الضعف والتشرذم، نتيجة انحراف البوصلة الثقافية كنتيجةٍ حتمية لأخطاء إحداثياتها العلمية والعملية.

وفي لفتةٍ ذات مدلولات تربوية جديرة بالتأمل يقول ابن عاشور رحمه الله: وإنما كان التنازع مُفضيًا إلى الفشل؛ لأنه يثير التغاضب، ويزيل التعاون بين القوم، ويحدث فيهم أن يتربص بعضُهم ببعضٍ الدوائر، فيحدث في نفوسهم الاشتغال باتقاء بعضهم بعضًا، وتوقع عدم إلفاء النصير عند مآزق القتال، فيصرف الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكن منهم العدو (10).

التنازع والتفرق مفض إلى جحدِ نعمة الله وتبديل دينه، ومعول هدم في بنيان الأمة، وسبب لتقويضِ قوتها وخيريتها التي كتبها الله لها، ولذا جاء التحذير القرآني من الخلاف الذي وقع فيه مَنْ قبلنا من الأمم، فحملَهم على التلاعُن وسفك الدماء مع مجيءِ البيِّنات الهاديات المانعات من الوقوع في ذلك: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تُناصِحوا من ولاه الله أمركم، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (11).

والتفرُّق في الدين فيه مفاسِد عظيمة، فهو يقوض الأركان ويهدم البنيان، وسبب لبراءة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من أهله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه» (12).

إن التلازم الحقيقي بين ذهاب الريح وتسلط الأعداء؛ يوضحه ما ورد في حديث ثوبان من تداعي الأمم؛ ونزع هيبة المسلمين من صدور أعدائهم، فمتى ازدادت الحالة الغثائية لدى الأمة؛ ازدادت نسبةُ التسلُّط والتداعي عليها؛ فقد أخرج أبو داوود في سننه من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهَن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت» (13).

وهذا لا يتأتى إلا مِن خلال النظرة الواقعية للأحداث التاريخية التي تشابه وتحاكي واقعنا المعاصر في جوانب الضعف والهوان، وتشخيص الداء، دون تبرير للأخطاء، أو اتهامٍ للآخرين، عبر رؤية تتسم بالشفافية والوضوح.

إن من طليعة خطوات الاتجاه الصحيح لبناء وحدة الصف المسلم، وتجنيب الأمة ويلات التسلط والهزيمة، هو إيجاد وتهيئة أجواء من القبول النفسي للنقد الذاتي البناء لدى طلبة العلم والدعاة، لتدارس أسباب ومآلات التفرق والاختلاف ومن ثم تجنبها وتفعيل فقه الوفاق.

إن النصر لا يتأتى إلا عبر قنطرة الوحدة الصادقة، والائتلاف الصحيح، وليس عبر مبادرات شكلية، وكيانات جبهوية اجتمعت فيها الأجساد، وافترقت القلوب، وليس لها مِن رصيد الوحدة سوى البيانات تلو البيانات.

إننا مطالبون بأن نبدأ بالإصلاح مِن الداخل، وهو الإصلاح المنهجي الصحيح الذي اختطه القرآن الكريم منهجًا واضح المعالم، صريح العبارة، قوي اللهجة، في تقريرٍ لمنهجية النقد الذاتي البنّاء للمؤمنين الصادقين وهم يتساءلون عن مصابهم الجلل في غزوة أحد حيث قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا} [آل عمران: ١٦٥]، فيأتي الردُّ الصريح دون مواربة أو مجاملة؛ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: ١٦٥].

قال مجاهد: وذهبت ريحُ أصحابِ محمدٍ حين نازعوهُ يوم أحد (14).

وفي غزوة حنين قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: ٢٥].

إنها التربية بالأحداث؛ والتي ربى القرآن الكريم الرعيل الأول عليها، ليسير على خطاها المؤمنون الصادقون، والمربون المخلصون، لاستلهام تجارب الأمة ومعرفة أسباب هزيمتها أمام الأعداء.

والتي ما إن يجفَّ حبرها حتى تعود الصراعات مرة أخرى، وعندما نخسر المعركة نرمي بفشلنا وذهاب ريحنا على المؤامرات الخارجية فقط، ونتناسى النقد الذاتي والأسباب الحقيقية لخسارة المعركة.

وتأمل أخي الكريم كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم إحدى القضايا الخلافية العلمية، وذلك من خلال اتِّباع أسلوب التوجيه المباشر، والتنبيه بأخذ العِبرة ممن قبلنا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رجلًا قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كانَ قبلكم اختلفوا فهلكوا» (15).

إن تجارب العمل المؤسسي ذي الأطياف المتعددة تؤكد وترسخ أن رص الصفوف ووحدة الكلمة إنما يبدأ حراكه العملي من طلبة العلم والدعاة، كما أن سبيل التفرق والاختلاف يبدأ مِن الكلمة واللسان، ومن ثم إلى السنان.

وهذا بدوره يجعل المسؤولية المنوطة بطلبة العلم والدعاة في جمع الكلمة ووحدة الصف في موقع محوري بارز، فهم القدوات العملية للأمة، وقد شرفهم الله تعالى بحمل هم هذا الدين، وأناط بهم مسؤولية الدعوة إلى الله تعالى، وإن واجبهم الديني والأخلاقي يحتم عليهم أن يكونوا مصلحين بين أطياف المجتمع، موحدين لشتاته، مقربين لوجهات النظر فيه، كما أن مِن واجباتهم الدعوية أن يسعوا إلى تسكين الثائرة، وألا يكونوا طرفًا سلبيًا في الخلافات الدعوية، ولا وقودًا في إذكاء نارها، أو طرفًا في النقاشات الجدلية التي تَشغلهم عن دورهم الذي تنتظره الأمة منهم.

فرُب كلمة أو تغريدة صدق قائلها مع الله؛ فصدقه الله، فجمع الله به الصفوف، وألف به بين القلوب، وكم من كلمة أو تغريدة قالت لصاحبها: دعني دعني (16).

وكما أوصى علي بن أبي طالب فقال: الاختلاف حالِقَةُ الدين، وفَسَادُ ذات الْبَيْنِ، وإياكم والخصومات؛ فإنها تحبط الأعمال، والاختلاف يدعو إلى الفتنة؛ والفتنة تدعو إلى النار {وَلَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] (17).

وقد جاءت تكاليف الشريعة الإسلامية بكل سبب يضمن الائتلاف ويحول دون التنازع والتفرق؛ فشرعت أداء الصلوات الخمس في اليوم والليلة في جماعة بالمساجد والجوامع، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» (18).

والسعي إلى سماع الذكرِ وأداء صلاة الجمعة واجب، يلتقي المسلمون كل أسبوع، ويأتي الاجتماع السنوي المهيب في صلاة العيدين، وقد فرض الله الحج على المستطيع مرة في العمر فما زاد فهو تطوع، فالحج مؤتمر عظيم يضم جموعًا تأتي من كل فج عميق تؤم البيت العتيق في زمان معلوم لأداء شعيرة الحج، ليشهدوا منافع لهم، وغيرها من الشعائر والعبادات التي تأتي للشد على الروابطِ، والسعيِ إلى توحيد صفوف الأمة وجمع كلمتها.

وفي هدي القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وجاء التحذير من الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة بأشد العبارات وأغلظ العقوبات، قال صلى الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهلية» (19)، وقال: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان» (20).

فالخروج على جماعة المسلمين وإمامهم من أعظم أسبابِ الشقاق والتنازع؛ وجرثومة لو سمح لها بالحياة لقتلت جسد الأمة وأوردته موارد الهلكة.

والتطاحن والتنازع على متاع الدنيا شأن أهل الجاهلية وعادة أهل الكفر؛ ولذا نهى صلى الله عليه وسلم أهلَ الإسلام عن ذلك، فقال في خطبة يوم النحر: «لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (21).

إن الخلاف الناشئ عن تفاوت المدارك في الفهم، وتباين العقول في الاستنباط، لا يصح أبدًا أن يكون سببًا للفرقة والتنازع؛ لأنه اختلاف بين مجتهدين أساغه الشارع، وجعل الأمر فيه دائرًا بين أجرين لمن أصاب وأجرٍ لمن أخطأ كالخلاف بين العلماء والفقهاء فالمقصود معرفة الحق، والعمل به، والرغبة في الخير.

وما أحسن أن تكون المنابر ومنصات الإعلام الجديد بما تتيحه من وسائل التواصل الاجتماعي سببًا لاجتماع الكلمة، وطريقًا لصلة الرحم، وتوقير العالم والكبير، والعطف على الصغير، لا أن يكون عامل فرقة وخصومة وتنازع.

فعلينا أن نجتهد في تضييق دوائر الخلاف ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وأن نترفع عن كل خلاف سببه الهوى وحظ النفس الأمارة بالسوء، وأن ننشر دواعي توحيد الأمة وعلى رأسها التمكين لعقيدة التوحيد علما وعملًا في قلوب المؤمنين، وأن نتأدب بالآداب التي تجعل من خلافاتنا في الأمور الاجتهادية رحمة لا نقمة وعذابًا (22).

_________________

(1) في ظلال القرآن (1/ 215- 216).

(2) تفسير الطبري (١٣/ ٥٧٥).

(3) أخرجه البخاري (335).

(4) أخرجه البخاري (49).

(5) أخرجه البخاري (114).

(6) الاختلاف سبب للفشل ورفع البركة/ في طريق الاصلاح.

(7) في ظلال القرآن (3/ 1529).

(8) في ظلال القرآن (2/ 687).

(9) مجموع الفتاوى (٣/ ٤٢١).

(10) التحرير والتنوير (١٠/ ٣١).

(11) أخرجه مسلم (1715).

(12) أخرجه مسلم (1848).

(13) أخرجه أبو داود (٤٢٩٧).

(14) الجامع لأحكام القرآن (٨ /٢٥).

(15) أخرجه البخاري (٣٤٧٦).

(16) من مآلات التفرق والتنازع: الفشل وذهاب الريح/ مجلة رواء.

(17) أخرجه الهروي في ذم الكلام وأهله (٤/ ٢٤٧).

(18) أخرجه مسلم (649).

(19) أخرجه مسلم (1848).

(20) أخرجه مسلم (1852).

(21) أخرجه البخاري (121).

(22) الاختلاف سبب للفشل ورفع البركة/ في طريق الاصلاح.