الجن
إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنهًا وصفةً وأثرًا، ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار، نعرف منها القليل، ونجهل منها الكثير، وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار، وندرك بعض هذه القوى، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها، وتارة بصفاتها، وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا(1).
إن المتأمل لقصة أولئك النفر من الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليستمعوا القرآن، وما ظهر من مسارعتهم للإيمان، وعدم ترددهم في قبول الحق، وتصديقهم بالرسول، والإيمان بما جاء به، ثم مسارعتهم للدعوة والعمل بما علموا، ليَعلم الأثر الكبير للإيمان الصادق الذي يدفع للعمل والجد.
قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29].
حقائق عن الجن:
ومن النصوص المتناثرة في القرآن عن الجن، ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث، نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن، ولا زيادة.
هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقًا اسمه الجن، مخلوق من النار، لقول إبليس في الحديث عن آدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وإبليس من الجن لقول الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، فأصله من أصل الجن.
وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر، منها خلقته من نار، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس، لقوله تعالى عن إبليس، وهو من الجن: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس، للقول السابق: {إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}.
وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي، لا ندري أين، لقوله تعالى لآدم وإبليس معًا: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ} [البقرة:36].
والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها.
وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب؛ لقول الله تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا(8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا(9)} [الجن:8-9].
وأنه يملك التأثير في إدراك البشر، وهو مأذون في توجيه الضالين منهم، غير عباد الله، للنصوص السابقة، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين: {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص:82-83].
وغير هذا من النصوص المماثلة، ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة، وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به.
وأنه قابل للهدى وللضلال، بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن:14-15]، وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى الإيمان، بعد ما وجدوه في نفوسهم، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد.
وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن، وهو حسبنا، بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل(2).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.
قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تِهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدًا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم: وقالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا (2)} [الجن:1- 2]، وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، وإنما أوحي إليه قول الجن(3).
قال ابن عباس: كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين، فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم رسلًا إلى قومهم.
قال ثابت بن قطبة: جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا: إنا كنا في سفر، فرأينا حية متشحطة في دمائها، فأخذها رجل منا فواريناها، فجاء أناس فقالوا: أيكم دفن عمرًا؟ قلنا: وما عمرو، قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقُتِل(4).
وعن البراء رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كان السنة المقبلة قال: أيها الناس، أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، وما سواد بن قارب؟ قال: فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئًا عجيبًا، قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب، قال: فقال له عمر: يا سواد، حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: إني كنت نازلًا بالهند، وكان لي رئي من الجن، قال: فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل، فقد بُعث رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتحساسها وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى أخير الجن كأنجاسها
فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى راسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب، إن الله عز وجل بعث نبيًا فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس قُدَامَاها كأذنابها
فانهض إلى الصفوة من هاشم واسمُ بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس ذوو الشر كأخيارها
فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجن ككفارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة، يعني: مكة، والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مرحبًا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك»، قال: قلت: يا رسول الله، قد قلت شعرًا، فاسمعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: «قل يا سواد» فقلت:
أتاني رئي بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ساقي الإزار وَوَسَّطت بي الدعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعًا يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب
قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: «أفلحت يا سواد» فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن(5).
وعن علقمة قال: قلت لابن مسعود رضي الله عنه: هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه أحد منا، ولكنا كنا معه ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير، أو اغتيل، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن»، قال: فانطَلَق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم»، فقال صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم»(6).
المسارعة إلى العمل:
قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، يتعجب المرء من مسارعتهم، حالما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين، وجيء بالفاء التي تفيد التعقيب للدلالة على ذلك.
وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية، فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم، وقد حملت نفوسهم ومشاعرهم منه ما لا تطيق السكوت عليه، أو التلكؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة من امتلأ حسه بشيء جديد، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب، يدفعه دفعًا إلى الحركة به والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جد واهتمام: {قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30].
ولوا إلى قومهم مسارعين يقولون لهم: إنا سمعنا كتابًا جديدًا أنزل من بعد موسى، يصدق كتاب موسى في أصوله، فهم إذن كانوا يعرفون كتاب موسى، فأدركوا الصلة بين الكتابين بمجرد سماع آيات من هذا القرآن، قد لا يكون فيها ذكر لموسى ولا لكتابه، ولكن طبيعتها تشي بأنها من ذلك النبع الذي نبع منه كتاب موسى(7).
ثم مضوا في نذارتهم لقومهم في حماسة المقتنع المندفع، الذي يحس أن عليه واجبًا في النذارة لا بد أن يؤديه: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].
فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن، واعتبروا محمدًا صلى الله عليه وسلم داعيًا لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له: فنادوا قومهم: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} .
وآمنوا كذلك بالآخرة، وعرفوا أن الإيمان والاستجابة لله يكون معهما غفران الذنب والإجارة من العذاب، فبشروا وأنذروا بهذا الذي عرفوه(8).
التلطف في الدعوة:
وانظروا إلى دعوتهم: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30].
تلطف في الخطاب {يَا قَوْمَنَا} وبيان لحرصهم عليهم كونهم قومهم، ثم وصفوا ما سمعوا بالحق ترغيبًا لقومهم بأنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
ثم قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، دعوة لطيفة لإجابة داعي الله والإيمان به، وبيان للثواب المترتب على ذلك من المغفرة والإجارة من العذاب الأليم.
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ} أرادوا به ما سمعوه من الكتاب، ووصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما، وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب، وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وآمِنُوا به، أي بداعي الله تعالى، أو بالله عز وجل.
ثم بينوا عاقبة من يستكبر عن إجابة داعي الله فقالوا: {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:32].
وإظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال: يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير، وتربية المهابة، وإدخال الروعة(9).
أين عزيمتنا؟
أيها الإخوة، لقد شرفنا الله سبحانه وتعالى بهذا الدين، وجعلنا من أتباع سيد المرسلين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على دينه إلى يوم نلقاه، وأن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه.
وإن من واجبنا أن ندعو إلى الله، ونعمل بجد لإبلاغ الهدى للناس ونصحهم وإرشادهم، وتعليمهم مما علمنا الله، فيا عجبًا من تفريط أغلب الناس في ما أوجب الله عليهم من البلاغ والدعوة، وقعود همتهم، وانصرافهم إلى متاع الدنيا، وتركهم العمل لدينهم.
لقد حضروا للاستماع فاستمعوا للقرآن، ولمرة واحدة, ولكن بعد هذا الاستماع انطلقوا دعاة إلى قومهم، وانظر في لفظ الآية: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}، إنها ألفاظ تدل على الانطلاق بقوة وبهمة وإرادة عالية, إن فيها معاني الحرص والشفقة على الآخرين والغافلين: {إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}.
لقد توجهوا إلى قومهم وعشيرتهم, وحملوا همّ الإنذار والدعوة لهم, هذا كله لم يكن إلا بعد الاستماع لمرة واحدة للقرآن.
إن نفرًا من الجن استمعوا لآيات القرآن فتحركت الهمم, وشعروا أن القرآن نور, لا بد أن يصل لمن هو في الظلمات تائه، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بأن يدعو قومهم كما في ظاهر الآيات, ولكنه الإيمان الذي يبعث في كل من استمع له أن ينطلق ليُخْرِج الآخرين من الظلمات إلى النور.
فنحن نريد الآن أن نكون كالجن في سرعة تلبية النداء، بعد أن سمعوا القرآن رجعوا دعاة لله عز وجل.
____________________
(1) في ظلال القرآن (الأحقاف: 29).
(2)المصدر السابق.
(3) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، وغيرهم.
(4) تفسير القرطبي (الأحقاف: 29).
(5) دلائل النبوة، للبيهقي (2/251).
(6) رواه مسلم (450).
(7) في ظلال القرآن (الأحقاف: 30).
(8) المصدر السابق (الأحقاف: 31).
(9) روح المعاني (الأحقاف: 30).