نصوص فهمت خطأ
{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
قال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة.
فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد (1).
وعن حذيفة في هذه الآية قال: نزلت في النفقة، أي في ترك النفقة في سبيل الله عز وجل، وهذا الذي قاله حذيفة جاء مفسرًا في حديث أبي أيوب الذي أخرجه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وبن حبان والحاكم من طريق أسلم بن عمران قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلًا، فصاح الناس سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا بيننا سرًا؛ إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها (2).
وعن ابن عمر قال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم، فصاح المسلمون وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب فقال يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرًا: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه ما يرد علينا فقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، فكانت التهلكة: الأموال وإصلاحها وترك الغزو (3).
وقد فهم من فهم من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، انغماس الرجل في العدو حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها.
وقد توعد تعالى على ترك الجهاد فقال: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم (4).
ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سفيان الغامدي- أحد قواد أهل الشام- بلد الأنبار- وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي- وقتلوا عاملها حسان بن حسان البكري: أما بعد فإن من ترك الجهاد رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار، وضرب على قلبه، وسيم الخسف، ومنع النصف، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنباء.. إلخ (5).
وعن أبي إسحاق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب: إن حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا، قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84]، إنما هذا في النفقة، ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب (6).
قال السعدي: والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبًا أو مقاربًا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف، أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجرًا أو بنيانًا خطرًا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله، واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض، التي في تركها هلاك للروح والدين (7).
وعن ابن عباس في قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة (8).
وعن الضحاك بن أبي جبيرة قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وقال الحسن البصري: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: هو البخل.
وقال سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير في قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أن يذنب الرجل الذنب، فيقول: لا يغفر لي، فأنزل الله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] (9).
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبيدة السلماني، والحسن، وابن سيرين، وأبي قلابة -نحو ذلك، يعني: نحو قول النعمان بن بشير: إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي: يستكثر من الذنوب فيهلك.
عن زيد بن أسلم في قول الله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وذلك أن رجالًا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير نفقة، فإما يقطع بهم، وإما كانوا عيالًا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (10).
والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف، وبخاصة في نظام يقوم على التطوع، كما كان يقوم الإسلام (11).
إن بعض الناس يقصر أو يتثاقل في الإنفاق على أهله شحًا وبخلًا، والشح والبخل من أوامر الشيطان، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، ولكن متى علم المؤمن أن الإنفاق على نفسه وأهله ليس بغرم؛ وإنما هو مكسب وغنيمة، فالإنفاق فيما أمر الله به غنيمة؛ لأنه زيادة في الإيمان وسبب لبركة المال ونموه، وسبب للأجر المدخر عند الله، أما الإمساك عما أمر الله به فهو نقص في الإيمان، وسبب لمحق بركة المال ونقصه ولعقوبة الله ومقته، ثم أن الممسك البخيل إن فاته المال ونزع منه في الدنيا فقد حرم خير الدنيا والآخرة، وإن بقي حتى مات صار لغيره غنمه وعليه غرمه وإثمه.
ألا وإن من إنفاق المال في طاعة الله أن تنفقه في الإحسان إلى القرابات الذين لا تجب عليك نفقتهم، إما لكون مالك لا يتحمل الإنفاق أو لغير ذلك، فهديتك على غنيهم هدية وصلة، وصدقتك على فقيرهم صدقة وصلة.
وإن بعض الناس في هذه الناحية يقصر ويفرط، فتجده يقتصر على الإحسان إلى القرابة الذين يتبادلون معه الصلة؛ وهذا في الحقيقة ليس بصلة، وإنما هي مكافأة للصلة أو مجلبة لها، فالواصل حقيقة هو الذي يصل من قطعه ويعطي من حرمه.
وأبواب إنفاق المال في الخير كثيرة، وكلما كان الإنفاق أنفع لعمومه أو شدة الحاجة إليه أو جلبه لمصالح أخرى كان أفضل وأجدى، وكل نفقة تبتغي بها وجه الله فأنت مأجور عليها لدخولها في الإحسان، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] (12).
فالآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يبذلوا أموالهم في الجهاد في سبيل الله بصفة خاصة، وفي كل موطن من مواطن الخير بصفة عامة، لأن عدم البذل في سبيل الخير يؤدى إلى ضعف الأمة واضمحلالها.
ثم ختم سبحانه الآية بالترغيب في الإحسان فقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي: أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها، لأنه سبحانه يحب المحسنين في كل شئونهم، ويثيبهم على ذلك بما يسعدهم في دينهم ودنياهم.
هذا، وتأمل معي في هذه الآيات تراها قد رسمت أحكم منهاج وأعدله في شأن الحرب والسلّم.
إنها تأمر المؤمنين أن يجاهدوا أعداءهم الذين بدأوهم بالقتال، وأن يقتلوهم حيث وجدوهم، ويخرجوهم من حيث أخرجوهم، كما تأمرهم أن يبذلوا أموالهم في سبيل الله بدون إمساك أو بخل، وهذا من أقوى أنواع الحض على الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله.
ولكنها في الوقت نفسه تنهاهم عن الاعتداء، وتنهاهم عن القتال في الأشهر الحرم وفي الأماكن المقدسة إلا إذا قاتلهم المشركون فيها، كما تنهاهم عن قتالهم إذا ما انتهوا عن عدوانهم وكفرهم، لأن شريعة القرآن تستجيب لداعي السلّم متى كف المعتدون عن العدوان، واحترموا كلمة الإسلام.
وبذلك نرى أن القتال في الإسلام ليس من أجل الغنائم، أو الاستغلال أو الاستعباد، أو التباهي.. كلا ليس لأجل شيء من هذا، وإنما هو من أجل الدفاع عن الحق وأهله، حتى تكون كلمته هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى، وبهذا تسعد الإنسانية، وتنال ما تصبو إليه من عزة وفلاح (13).
ووقوع فعل تلقوا في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة، أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيًا عنه محرمًا، ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم، وهو ما يكون حفظه مقدمًا على حفظ النفس، مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك، فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة؛ لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين.
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه أبو أيوب؛ وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو، فقال القاسم بن محمد وعبد الملك بن الماجشون وابن خويز منداد ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة، وكان بنية خالصة لله تعالى، وطمع في نجاة أو في نكاية العدو، أو قصد تجرئة المسلمين عليهم، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة (14).
قال الطبري: والتارك النفقةَ في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه مستسلم للهلكة بتركه أداءَ فرضِ الله عليه في ماله، وذلك أن الله جل ثناؤه جَعل أحد سِهام الصدقات المفروضات الثمانية في سبيله، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]، فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه، كان للهلكة مستسلمًا، وبيديه للتهلكة ملقيًا.
وكذلك الآئسُ من رحمة الله لذنب سلف منه، مُلق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وكذلك التارك غزوَ المشركين وجهادَهم، في حال وجوب ذلك عليه، في حال حاجة المسلمين إليه، مُضيعٌ فرضا، مُلقٍ بيده إلى التهلكة.
فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: {وَلَا تُلْقُوْا بِأَيدِيكُم إِلَى التَهْلُكَةِ} ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة -وهي العذاب- بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم -بترككم ذلك- عذابي (15).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام.
قال ابن عباس: فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر رضي الله عنه في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه.
فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله.
قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه»، فحمد الله تعالى عمر رضي الله عنه وانصرف (16).
وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية؛ لاحتمال اللفظ لها، وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف، فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو، فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلًا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين.
وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجزئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأسًا أن يحمل عليهم، فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك، وأرجو أن يكون فيه مأجورًا؛ وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، ولكنه مما يرهب العدو، فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين.
والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره؛ وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على المسلمين.
فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111]، وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله.
وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعًا في الدين، فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] (17).
***
----------
(1) تفسير ابن كثير (1/ 528).
(2) فتح الباري لابن حجر (8/ 185).
(3) نيل الأوطار (5/ 246).
(4) تفسير ابن كثير (4/ 154).
(5) التحرير والتنوير (3/ 55).
(6) تفسير ابن كثير (1/ 529).
(7) تفسير السعدي (ص: 90).
(8) تفسير ابن كثير (1/ 529).
(9) المصدر السابق.
(10) تفسير ابن كثير (1/ 530).
(11) في ظلال القرآن (1/ 192).
(12) الضياء اللامع من الخطب الجوامع (2/ 278).
(13) التفسير الوسيط لطنطاوي (1/ 416).
(14) التحرير والتنوير (2/ 215).
(15) تفسير الطبري (3/ 593).
(16) أخرجه البخاري (5729).
(17) أحكام القرآن للجصاص (1/ 318).