أبناؤنا والقرآن
إن الأبناء والبنات زينة الحياة، وقد قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، ولا يكونون زينة وجمالًا ما لم يكونوا صالحين أخيارًا؛ بل ويفوت على والديهم الانتفاع بهم، ولا يحصل لهم بهم في الدنيا والآخرة حظًا ولا نصيبًا ما لم يكونوا أتقياء أبرارًا.
والأولاد أمانة عند الوالدين، كلَّفهما الله بحفظها ورعايتها، وأوصاهما بتربيتهم تربية صالحة في دينهم ودنياهم، فهما مسئولان بين يدي الله عن تربية أبنائهم، قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها»(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته»(2) .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «أدِّب ابنك فإنك مسئول عنه، ماذا أدبته وماذا علَّمته؟ وهو مسئول عن برّك وطواعيته لك»(3).
وصلاح أبنائنا لن يكون إلا ببذل الجهد الكبير للاعتناء بهم، وتربيتهم، وحسن توجيههم ورعايتهم، فنسعد بهم في دنيانا وأخرانا، فيكونون ذخرًا لنا عند الله، وصدقة جارية لا ينقطع ثوابها ما بقي أثرها.
قال ابن قيم الجوزية: «وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته؛ ففاته انتفاعه بولده، وفوّت عليه حظه في الدنيا والآخرة»(4).
ولا طريق للتقى والصلاح والبر إلا بتربية هؤلاء الأبناء والبنات على نهج القرآن، ونشأتهم حتى يكونوا من أهل القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(5).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عَلَّم آيةً من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت»(6).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة أشياء: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(7).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا, أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته»(8).
قال الأستاذ محمد الصباغ: «سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلًا جاء يسترشد لتربية ابن له أو بنت وُلِدت حديثًا، فسأله كم عمرها؟، قال: شهر، قال: فاتك القطار، وقال: كنت أظن في بادئ الأمر أني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أن ما قلته الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي؛ فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، يظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه»(9).
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «من تعلم القرآن الكريم عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته»(10).
لكن الناظر في حال كثير من أفراد الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، يرى أن هجماتِ أعدائهم قد أثرت في أبنائهم، وأن مخططات مفسديهم قد انحرف بسببها كثير من فلذات أكبادهم، فتشوهت صورة الجيل الصاعد، وانحرفت عن خطى أسلافها.
وما كان هذا الأمر ليقع لولا ذلك الفصام النكد الذي وقع بين كثيرٍ من المسلمين وبين كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وسير أسلافهم، فوجدوا أنفسهم بلا أسس، وبلا مبادئ، وبلا تاريخ، وبلا قدوات، فانهزموا في أنفسهم، وبهرهم تقدُم غيرهم، فتعلقوا بركابهم، وتشبثوا بأذنابهم، وأخذوا بمفاسدهم، وَعَجَزوا في مدنيتهم عن مواكبتهم .
لذلك كان لزامًا على الجميع معرفة قواعد التربية الصحيحة؛ ليعرف كل فرد دوره ومكانته، وأساليب تطبيق ما تعلم في حياته العملية، وبيئتهِ الأسرية، ليؤدي دوره الرائد في إخراج جيل صالح، ومجاهد ناجح، ومؤمن متمسك بدينه، ساع لإرضاء ربه، حريص على الأخذ بسنة نبيه، مترسم خطى سلفه الصالح.
وقد تضمن القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وسير سلف هذه الأمة كمًّا هائلًا من المبادئ والقيم والمعاني والآداب، والأساليب التربوية، التي يجب أن يُربَّى عليها الصغير، ويشرب قلبه الأخذ بها منذ نعومة أظفاره.
ما يجب على المربي مراعاته:
أولًا: على المربي أن يراعي مراحل عمر الصغير، وأن يراعي ميوله، وقدراته على الفهم والأخذ بما يلقى عليه، فليس كل طفل يعامل كالآخرين؛ لذلك لا بد من مراعاة الاختلاف بين كل طفل وآخر، وأن يبنى على هذا الاختلاف ما يلقى على الصغير كمًّا وكيفًا.
ثانيًا: وعليه أن يعلم أن فطرة الصغير سليمة، وأن ما يلحقها من كدر مرده إلى مؤثرات خارجية، وأن المربي يتحمل الجزء الأكبر من ذلك.
ثالثًا: وعليه أن يعلم أن الأخلاق تقبل التغيير، من حسن إلى سيء، ومن سيء إلى حسن؛ لذلك كان واجب المربي عظيمًا في متابعة الصغير، وفي ملاحظة خلقه وسلوكه، فما كان حسنًا سعى في تثبيته، وما كان سيئًا سعى في تقويمه وإصلاحه.
رابعًا: وعليه أن يوطِّن نفسه على الصبر، فإن مرحلة الطفولة طويلة، والواجب الملقى عليه كبير، والتربية رسـالة شريفة، مهمته فيها: بذر الحسن، وتقويم المعوج، وقلع القبيح، وصيانة العود، وحماية الموجود، والنتائج بيد الله سبحانه.
خامسًا: وعليه أن يعلم أن الصغير يملك قدرات عقلية عظيمة؛ كالذكاء، وسرعة التذكر، والاستيعاب لما يلقى عليه، وهذه القدرات بحاجة إلى إظهار وتنمية، وإلا اضمحلت، أو انحرفت، وهذا يرينا جزءًا من عظم الواجب الملقى على المربي، أبًا كان أو غيره(11) .
أهمية تعليم الصغير القرآن:
إن من أعظم ما يجب صرف الهمم إليه في تربية الأبناء: تعليمهم كتاب الله تعالى .
لذلك ينبغي لولي الصغير أن يوجهه إلى تعلم كتاب الله تعالى منذ صغره؛ لأنه به يتعلم توحيد ربه، ويأنس بكلامه، ويسري أثره في قلبه وجوارحه، وينشأ نشأةً صالحة على هذا .
قال الحافظ السيوطي رحمه الله: «تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشئون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها، وسوادها بأكدار المعصية والضلال»(12).
وقال ابن خلدون: «تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، بسبب آيات القرآن، ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي بني عليه ما يحصل بعد من الملكات»(13).
قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79)} [الإسراء:78-79].
وقال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»(14) .
وعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بِعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال عمر: «من استعملت على أهل الوادي؟» [أي: مكة]، فقال نافع: «ابن أَبْزَى»، قال: «ومن ابن أبزى؟»، قال: «مولى من موالينا»، قال عمر: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين»(15).
فهذا ابنُ أَبْزَى وهو عبد أُعتق أصبح أميرًا على أشراف أهل مكة؛ من الصحابة والتابعين، وما رفعه إلى هذه المنزلة إلا علمه بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وهذه البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم، معاشر الآباء والأمهات، أن أبناءكم سيكون لهم مقام الرفعة في الدنيا والآخرة؛ لكونكم علمتموهم كتاب الله، وحرصتم على تمسكهم به، وتطبيقهم ما جاء فيه.
كيف لا؟ وما ساد عطاء، ومجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، ومكحول، وغيرهم من سـادات المسلمين، وهم موالي، كانوا يباعون؛ إلا بكتاب الله تعالى.
وهذه بشارة ثالثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، معاشر الآباء والأمهات: قال صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، لَهُ أَجْرَان»(16).
فكيف بكم، عباد الله، يا من أرسلتم أبناءكم لحفظ كتاب الله تعالى، وحرصتم على ذلك، إذا جئتم ربكم يوم القيامة فترون أبناءكم مع خير ملائكة الله تعالى، وهم السَّفَرَةُ الكِرَامُ البَرَرَةُ عليهم السلام؟ من يُفَرِّطُ في هذا، ويزهد فيه؟ إلا من ظلم نفسه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فَيُشَفَّعَان»(17).
وهذه بشرى رابعة، يسوقها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم معاشر الآباء والأمهات، أنَّ أبناءكم، الذين حفظتموهم كتاب الله تعالى، يشفع لهم القرآن عند ربكم، فلا يرضى حتى يأخذ بأيديهم إلى جنات عدن، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا، ولباسهم فيها حرير.
فيا من تخشون على مستقبل أبنائكم، يا من تسهرون في التفكير والتخطيط لهم، هذا كتاب الله تعالى، حبل الله المتين، الذي من تمسك به نجا، وأَمِنَ من الهلاك، وعاش حياةً طيبة، وكان مآله في الآخرة مع الفائزين.
أما في الآخرة فيبشرنا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أن القرآن سَيُحَلِّي أبناءنا أحسن الحلل، وَسَيُسْكِنَهُم الله به الظلل، وسـيُنيلهم أعظم الحسنات، ويجعلهم في أعلى الدرجات .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب، حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب، زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب، ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ، وارق، وتزاد بكل آية حسنة»(18) .
وقال صلى الله عليه وسلم :«يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»(19).
لماذا نحبب أبناءنا في القرآن:
بجانب الفضائل السابقة؛ هناك أسباب تدعونا إلى أن نحبب القرآن إلى أبنائنا، وهذه الأسباب كثيرة، ولعل من أهمها ما يلي:
1- أن القرآن هو عقل المؤمن، ودستور حياته، فهو كلام الله تعالى الذي تولى حفظه دون سائر ما نزل من كتب سماوية؛ لذا فإن أبناءنا إذا أحبوه تمسكوا بتعاليمه، ومن ثَم لم يضلوا أبدًا.
2- أن القرآن هو خير ما يثبِّت في النفس عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وإذا ارتبط قلب الطفل بالقرآن وفتح عينيه على آياته؛ فإنه لن يعرف مبدأً يعتقده سوى القرآن، ولن يعرف ما يستقي منه دينه غير القرآن، ولن يعرف بلسمًا لروحه وشفاءً لنفسه سوى التخشع بآيات القرآن، وعندئذٍ يصل الوالدان إلى غايتهما المرجوَّة في تكوين الطفل روحيًّا، وإعداده إيمانيًّا وخُلقيًّا.
3- لأن القرآن هو الرسالة الإلهية الخالدة، ومستودع الفكر والوعي، ومنهج الاستقامة والهداية، ومقياس النقاء والأصالة، فإذا أحبه الطفل كان ذلك ضمانًا لهدايته واستقامته وسَعة أُفُقه، ونقاء سريرته، وغزارة علمه.
4- لأن القرآن إذا تبوأ مكانة عظيمة في نفوس أبنائنا شبوا على ذلك، ولعل منهم من يصبح قاضيًا، أو وزيرًا، أو رئيسًا، فيجعل الله تعالى القرآن العظيم له دستورًا ومنهاجًا، بعد أن ترسخ حبه في نفسه منذ الصغر.
5- لأن حب الطفل للقرآن يُعينه على حفظه، ولعل هذا يحفظ الطفل، ليس فقط من شرور الدنيا والآخرة، وإنما أيضًا من بذاءات اللسان، ففَمٌ ينطق بكلام الله ويحفظه يأنف ويستنكف عن أن ينطق بالشتائم والغِيبة والكذب وسائر آفات اللسان.
6- لأن أبناءنا أمانة في أعناقنا، وسوف نُسأل عنهم يوم القيامة، و«كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت»(20)؛ فالضياع قد يكون أخلاقيًّا، وقد يكون دينيًّا، وقد يكون نفسيًّا، وقد يكون ماديًّا، كفانا الله وإياكم شر تضييع أبنائنا، ولن نجد أكثر أمانًا من القرآن نبثُّه في عقول وأرواح أطفالنا؛ حفظًا لهم من كل أنواع الضياع.
7- لأن ذاكرة الطفل صفحة بيضاء، فإذا لم نملأها بالمفيد، فإنها ستمتلئ بما هو موجود! فإذا أحب الطفل القرآن أصبح فهمه يسيرًا عليه؛ مما يولد لديه ذخيرة من المفاهيم والمعلومات التي تمكنه من غربلة وتنقية الأفكار الهدامة، التي تغزو فكره من كل مكان.
8- لأننا مُقبِلون، أو أَقبَلنا بالفعل، على الزمن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أن فيه: «تلد الأَمَة ربتها»(21)؛ أي: تتعامل الابنة مع أمها وكأنها هي الأم، فلعل حب القرآن في قلوب الأبناء يخفِّف من حدَّة عقوقهم لوالديهم في ذلك الزمان.
9- لأن أطفالنا إذا أحبوا القرآن وفهموه، ثم عملوا به وتسببوا في أن يحبه غيرهم، كان ذلك صدقة جارية في ميزان حسنات الوالدين إلى يوم الدين، يوم يكون الإنسان في أمسِّ الحاجة لحسنة واحدة تثقل ميزانه.
10- لأن القرآن هو حبل الله المتين، الذي يربط المسلمين بربهم، ويجمع بين قلوبهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، وما أحوج أبناءنا، حين يشبوا، لأن يرتبطوا بشتى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، في وقت اشتدت فيه الهجمات على الإسلام والمسلمين في كل مكان(22).
متى نبدأ مع الطفل حفظ القرآن؟
يقول خبراء التربية: أول ما ترى الطفل يحفظ الإعلانات والأناشيد، ويردد الكلام حوله بسهولة ويسر فإنه يستطيع أن يحفظ القرآن، وهذا يختلف من طفل لآخر، فربما تجد طفلًا يميز الأمر من سن ثلاث سنين، وغيره أربع سنوات أو خمس وهكذا، وهذا ما يسميه خبراء التربية بالفروق الفردية، وربما لا يعقل الطفل معنى الحفظ المنتظم الدائم إلا بعد سن السادسة أو السابعة على الأكثر، وهذا ما يسميه الفقهاء بسن التمييز، وهو العمر الذي يدرك فيه الولد، من ذكر أو أنثى، ما يصلح له من الأمور فيستغني عنده عن رعاية الوالدين في أداء الأشياء العادية، من ملبس ومأكل ونحو ذلك.
ولا ينبغي أن نتفاجأ بما نراه أحيانًا أن بعض الأطفال حفظ القرآن كاملًا وهو ابن سبع سنين، فهذا وإن كان آية من آيات الله، وموهبة تستحق التقدير والتكريم، إلا أنها فلتات وليس قاعدة يقاس عليها.
كيف نحفظ أبناءنا القرآن؟
1- حب القرآن:
فابنك لا يحفظ ليرضيك أو لئلا يغضبك أو ليفلت من اللوم والعقاب، نريد أن نغرس في أبنائنا حب القرآن، وأنه عندما يحفظ القرآن فإن الله يحبه ويقربه، ويكون موفقًا في حياته، ونكلم الطفل عن ثواب تلاوة القرآن، وكذلك عن جزائه في الجنة كما في الحديث: «يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»(23).
فإذا كبر الطفل وتبوَّأ مكانةً دنيوية فإنه سيجعل القرآن له دستورًا ومنهاجًا، بعد أن ترسَّخ حبه في نفسه منذ الصِّغَر.
2- القدوة الصالحة:
إن القدوة من أفضل الوسائل في تربية الأولاد وأعظمها أثرًا؛ وذلك لأن الولد ينظر إلى والديه على أنهما مثلٌ أعلى له، فهو يحاكي فعلهما، ويقلد سلوكهما، فالابن حين يجد من أبويه القدوة الصالحة في كل شيء فإنه يتشرب مبادئ الخير، ويتربى على الفضيلة والأخلاق الطيبة، وحب القراءة والحفظ واستغلال الأوقات والفراغ، والعكس فإنه حين يجد من أبويه القدوة السيئة من تضييع للأوقات ولا مبالاة؛ فإنه ينهج طريق الضياع واللهو واللعب.
وينشأ ناشئ الفــــــتيان مـــــنا على ما كان عوَّده أبوه
وما دان الفتى بحجًا ولكن يعـــوَّده التــــــــدين أقــــربوه
وهذه القدوة تبدأ والطفل جنين في بطن أمه، فقد أثبتت البحوث في علم الأجنة أن الجنين يتأثر بما يحيط بأمه، ويتأثر بحالتها النفسية، حتى إنه يتذوق الطعام الذي تأكله، ويُقبل عليه أكثر مما يُقبل على غيره من الأطعمة، وتَعرُّض الأم للكثير من الضغوط يؤدي إلى إفراز هرمونات تمر إلى الجنين من خلال المشيمة، فإذا تعرض الجنين لضغوط نفسية مستمرة فإنه سيكون في الأغلب طفلًا عصبيًا، صعب التهدئة، ولا ينام بسهولة.
إذن فالحالة النفسية للأم تنعكس، بدون أدنى شك، على الجنين؛ لأنه جزء منها؛ لذا فإن ما تشعر به الأم من راحة وسكينة، بسبب الاستماع إلى القرآن أو تلاوته، ينتقل إلى الجنين؛ مما يجعله أقل حركة في رحمها، وأكثر هدوءًا؛ بل ويتأثر بالقرآن ليس في هذه المرحلة فقط، وإنما في حياته المستقبلية أيضًا.
كما أثبتت التجارب الشخصية للأمهات أن الأم الحامل التي تستمع كثيرًا إلى آيات القرآن، أو تتلوه بصوت مسموع يكون طفلها أكثر إقبالًا على سماع القرآن وتلاوته وتعلُّمه فيما بعد؛ بل إنه يميِّزه من بين الأصوات، وينجذب نحوه كلما سمعه وهو لا يزال رضيعًا.
لذا فإن الإكثار من تلاوة القرآن والاستماع إليه في فترة الحمل يزيد من ارتباط الطفل عاطفيًا ووجدانيًا بالقرآن؛ ما يزيد من فرصة الإقبال على تعلُّمه وحِفظه فيما بعد.
فإن خرج الابن إلى الدنيا فينبغي أن يرى العناية بالقرآن متمثلة في والديه.
وينبغي أن يكون لك ورد يومي من كتاب الله، فلا يمر يوم دون قراءة للقرآن، فيراك ابنك وأنت تمسك بالمصحف ترتل وتقرأ، وهكذا فيحاول أن يقلدك ويحاكيك .
إن قراءتك للقرآن أمامه أو معه يحفز الطفل؛ بل ويحببه في القرآن، بخلاف ما لو أمرته بذلك وهو لا يراك تفعل ذلك.
واحرص أيضًا على أن تستمع للقرآن بالأصوات الخاشعة كثيرًا، فإن هذا يؤثر إيجابًا على ابنك، وربما علقت هذه العبادة في ذهنه.
3- الحفظ على يد معلم:
لا بد من معلم للقرآن لصحة نطق الآيات؛ ومن ثم تسهيل الحفظ، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6].
أو الحفظ المنتظم مع أحد الوالدين إذا كانا بإمكانهما ذلك، أو الانتظام مع مدرسة لتحفيظ القرآن.
وعلى المعلم قبل بدء تحفيظ الطفل أن ينشئ علاقة بينه وبين الطفل تُبنى على المحبة، بحيث يحب الطفل معلمه، وبالتالي يستطيع أن يستقبل الطفل من معلمه القرآن، ومن الممكن إعطاء المعلم شيئًا من الهدايا لإهدائها للطفل تشجيعًا له .
كما ينبغي ألا يكون الحفظ مبنيًا على الخوف والقهر، فإذا لم يستجب الطفل للمعلم ولم يتمكن من الحفظ فلا بد من اللين والرفق معه، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان الفحش في شيء قط إلا شانه»(24)، فالقرآن والعصا لا يجتمعان، فالعقاب البدني ليس واردًا في العلاقة بين المعلم والطفل، وإنما تكفي نظرة من عين المعلم تُشعر الطفل بغضب المعلم منه.
4- تيسير الحفظ على الأولاد:
وينبغي أن نهيئ الجو للحفظ بتخصيص مكان خاص للحفظ، ووقت محدد للحفظ، وانتظام يومي للحفظ، وإن كان الوقت قليلًا، فقليل دائم خير من كثير منقطع، كما يجب أن يستشعر الولد السكينة والهدوء وقت الحفظ.
ويعطى الطفل مصحفًا خاصًا به يحفظ منه، ويوضع في مكان محدد، ويكون ملكًا له ليعلم قيمته وأهميته.
5- عرض القرآن على سمع الطفل :
لماذا نجد الطفل يكرر كلمات الأناشيد والإعلانات بسهولة؟ لأن كثرة عرضها وسماعها أدى إلى حفظها لا شعوريًا من الطفل، فمن باب أولى عرض القرآن على الطفل من خلال تشغيل سور جزء عم في السيارة مثلًا، وفي غرفة الطفل أثناء لعبه، وأيضًا قبل النوم، وستلاحظ أن الطفل سيردد بعض الآيات التي لم يحفظها بعد من كثرة سماعه لها.
6- التشجيع :
التشجيع بالكلام؛ مثل أن تدعو له بعد فراغه من التسميع: بارك الله فيك، حفظك جيد، أنت ممتاز، وكذلك تقبيله واحتضانه وإظهار فرحك بما أنجز؛ خاصة عند إتمامه لحفظ سورة، وكذلك إخبار الأهل بأن فلان حفظ سورة كذا وكذا، فيلقى كلمات التشجيع التي تحفزه على المزيد من الحفظ والتقدم.
ومن التشجيع عمل حفلة صغيرة، كيك وحلوى مثلًا، يحتفل بها بالطفل، وتقدم له هدية بسيطة؛ لأنه حفظ جزءًا كاملًا، فهذه الفكرة تحفز الطفل وتشجع غيره .
ومن التشجيع إذا كان الطفل يحسن الصلاة جيدًا أن يصلي بك إمامًا في البيت، ويقرأ بما يحفظ من سور القرآن.
ومن التشجيع إقامة المسابقات التنافسية في الحفظ والتلاوة، وتوزيع الجوائز على المتفوقين لزيادة التنافس بين الأبناء.
7- أن نَقُص له قصص القرآن الكريم:
فالطفل يحب القصص بشكل كبير، فنقص عليه قصص القرآن بمفردات وأسلوب يتناسب مع فهم ومدركات الطفل؛ مثل قصة أصحاب الفيل، وقصة غلام الأخدود.
8- سجل صوته وهو يقرأ القرآن:
فهذا التسجيل يحثه ويشجعه على متابعة طريقه في الحفظ؛ بل حتى إذا ما نسي شيئًا من الآيات أو السور فإن سماعه لصوته يشعره أنه قادر على حفظها مرة أخرى.
أضف إلى ذلك أنك تستطيع إدراك مستوى الطفل، ومدى تطور قراءته وتلاوته.
9- التكرار في مراجعة القرآن:
وهذا هو الأسلوب الأمثل في تذكر القرآن وعدم نسيانه سريعًا؛ لأن التكرار يثبت الآيات في الذاكرة، وهناك أطفال يحفظون بسرعة دون تكرار؛ لكنهم بعد فترة قصيرة ينسون، فالتكرار ينقل الآيات من الذاكرة المؤقتة إلى الذاكرة المستديمة .
10- الدعاء والاستعانة بالله:
فعلى كل أب وأم يحفظون أولادهم أن يدركوا أنهم يقومون بعمل عظيم، له قيمته عند الله سبحانه وتعالى، فنلازم الدعاء: اللهم أصلح لي في ذريتي.
ونستعين بالله في صلاح ذرياتنا، وندعوه سبحانه أن يصلحهم وأن يحفظهم بحفظه، وهذا الأمر سنة من سنن الأنبياء، فمن دعاء الخليل إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40].
وهذا زكريا دعا ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38].
ومن دعاء عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74](25).
من ثمرات تحفيظ القرآن الكريم للأبناء:
وحتى تكتمل فرحة الآباء بما لأبنائهم في طَرْقِ هذا الباب العظيم، فإن الله عز وجل تكفل ووعد لحفظة كتابه بثمرات كثيرة، منها:
- الرفعة في الدنيا والآخرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين»(26)، فهنيئًا لك أن يكون ابنك أو ابنتك ممن يرفعهم هذا القرآن العظيم ويعلي شأنهم.
- إرادة الله عز وجل بأبنائك الخير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»(27)، وأعظم الفقه في الدين قراءة وحفظ كتاب الله عز وجل مع التدبر.
- أنهم من أهل الله وخاصته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته»(28).
- أما منازل ذريتك في الآخرة فهي أعظم المنازل وأرفعها، «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»(29).
- يلبس حلة الكرامة يوم القيامة، «يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيُلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارضَ عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارقَ، ويزاد بكل آية حسنة»(30).
- القرآن شفيع لمن تحب يوم الفزع الأكبر، قال: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»(31).
- القرآن حجة يوم القيامة، قال: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين يعملون به، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران، تحاجان عن صاحبهما»(32).
- أن ابنك من خيار هذه الأمة، وكفى بها منزلة، قال صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(33).
- أن ابنك يعيش وينشأ في مجالس ذكر عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»(34).
– أن له بكل غدوة أجر حجة تامة؛ لقوله: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلّم خيرًا أو يُعلّمه كان له كأجر حاج تامًا حجته»(35).
***
____________
(1) أخرجه البخاري (2558).
(2) أخرجه الترمذي (1705).
(3) تحفة المودود، ص225.
(4) المصدر السابق، ص242.
(5) أخرجه البخاري (5027).
(6) السلسلة الصحيحة (1335).
(7) أخرجه مسلم (1631).
(8) صحيح الجامع (3602).
(9) نظرات في الأسرة المسلمة، ص146-147.
(10) جامع بيان العلم وفضله (1/ 511).
(11) تعليم ابنك القرآن، أحمد بن عبد العزيز الحمدان.
(12) بناء شخصية الطفل في الإسلام، ص12.
(13) منهج التربية النبوية للطفل، ص105.
(14) أخرجه مسلم (2699).
(15) أخرجه مسلم (817).
(16) أخرجه البخاري (4937)، ومسلم (798).
(17) أخرجه أحمد (6626).
(18) أخرجه الترمذي (2915).
(19) أخرجه أبو داود (1464).
(20) أخرجه أبو داود (1692).
(21) أخرجه مسلم (8).
(22) كيف نعين أبناءنا على حب القرآن الكريم، شبكة الألوكة.
(23) أخرجه أبو داود (1464).
(24) أخرجه ابن حبان (551).
(25) كيف نحفظ أبناءنا القرآن الكريم، موقع الراشدون.
(26) أخرجه مسلم (817).
(27) أخرجه البخاري (71).
(28) أخرجه أحمد (12292).
(29) أخرجه أبو داود (1464).
(30) أخرجه الترمذي (2915).
(31) أخرجه مسلم (804).
(32) أخرجه مسلم (805).
(33) أخرجه البخاري (5027).
(34) أخرجه مسلم (2699).
(35) أخرجه الطبراني (7473).