العقيدة ليست متونًا تحفظ
إن المواقف المتخاذلة اليوم، وعدم الصدع والجهر بالحق والبراءة من الباطل وأهله؛ لهو أكبر دليل على أن التوحيد عند الكثير منا بقي في حدود العلم المجرد، أما أخذه علمًا وحالًا وعملًا فإنه أصبح مغيَّبًا عن الأمة، ومغيَّبًا عن المواقف والممارسات.
وإن مما يقضّ المضاجع ويثير الأشجان أن تغيب كلمة الحق عند كثير من دعاة المسلمين وعلمائهم في هذه الأحداث التي تمتحن فيها العقيدة، وبخاصة الأصل الأصيل لكلمة التوحيد ألا وهو الولاء والبراء، والذي هو واضح في هذا الصراع غاية الوضوح وجلي أشد الجلاء.
وإن المسلم ليحتار ويتساءل أين ما كنا نتعلمه من ديننا وعقيدتنا من أن كلمة التوحيد إنما تقوم على الولاء والبراء؛ الولاء لله عز وجل، وعبادته وحده، ومحبة ما يحبه ومن يحبه، والبراءة من الشرك وأهله ومن كل ما يبغضه سبحانه ومن يبغضه، وإعلان العداوة له.
وهذه هي وصية الله تعالى لهذه الأمة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
إي والله إنه لسؤال محير: أين دروس المساجد؟ وأين محاضرات أهل العلم، وأشرطتهم المسجلة، وبيانهم للناس فيها عقيدة التوحيد القائمة على الولاء والبراء؟
وليكن معلومًا لدى الجميع أن هذا الدين يرفض اختزال المعارف الباردة في الأذهان المجردة، فالمرء لا يكون قائمًا الليل بمجرد علمه بفضل ذلك وأحكامه، ولا يكون ورعًا بمجرد علمه بالورع، ولا يكون صابرًا بمجرد علمه بالصبر وتعريفاته وأنواعه، ولا يكون متوكلًا بمجرد علمه بالتوكل وأقسامه.
إن العلم في هذا الدين يقتضي العمل، ويتحول في قلب المسلم إلى حركة وأحوال ومواقف؛ إذ لا قيمة للمعرفة المجردة التي لا تتحول لتوِّها إلى حركة ومواقف؛ بل إن العلم المجرد حجة على صاحبه إذا لم يقتضِ عنده العمل.
قال صاحب روح البيان: إن المراد بالعالم هو الذي يعمل بعلمه.. فلا يغترّ أهل الهوى من علماء الظاهر بذلك، فإن كون العلم المجرد منجيًا مذهب فاسد، فإن العالم الفاجر أشد عذابًا من الجاهل؛ بل العالم هو الذي يعمل بعلمه، ويصل إلى العرفان بتصفية القلب (1).
قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
فإذا تجرد العلم عن العمل؛ فلا فائدة فيه، ولو كان العلم المجرد في العمل ينفعُ أحدًا لنفع إِبليس؛ فقد كان يعرف أَن الله واحد لا شريك له، وأَن مصيره لا شك إِليه؛ لكن حين صدر إِليه الأمر من الله تعالى: أَن اسجد لآدم، أبى واستكبر وكان من الكافرين، ولم يشفع له علمه بالوحدانية؛ ذلك أَن العلم المجرد عن العمل لا وزن له عند رب العالمين.
إن الإيمان هو التصديق الذي يجزم به العقل، ويطمئن به القلب، وتخضع له الإرادة، وتعمل بهديه الجوارح.
والعقيدة هي القوة الدافعة والمحركة لسلوك الإنسان ونشاطه في شتى المجالات، وهي الركيزة الأساسية التي تبنى عليها العقيدة الإسلامية، والمحور والأساس الذي يرتكز عليه تربية المسلم، في كافة جوانب تربيته.
إن الإيمان في الإسلام ليس قولًا يقال ولا دعوى تدعى، إنما هو حقيقة يمتد شعاعها إلى العقل فيقتنع، وإلى العاطفة فتجيش، وإلى الإرادة فتتحرك وتحرك (2).
ومعني هذا أن في الإيمان عنصر (معرفة)؛ فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعرف ذلك الشيء إلى درجة التصديق واليقين، بقطع النظر عن كون المعرفة صحيحة وكاملة أو خاطئة وناقصة.
وفي الإيمان عنصر (عاطفة)، تتمثل في خوف أو حب أو رجاء، وهي التي تزود المؤمن بالحرارة وبالقوة الدافعة.
وفي الإيمان عنصر (إرادة)، يتطلب عملًا وإنجازًا؛ فالمؤمن قوي الإرادة يقوم بالعمل الذي يدفعه إيمانه إليه بلا تعب أو تردد.
إذن فالإيمان عقيدة تجمع بين الفكر والعاطفة والإرادة، وتوحدها وتوجهها في سبيل الكيان الذي تعلقت به النفس (3).
والإيمان في الإسلام ليس مجرد إعلان التصديق باللسان، أو مجرد القيام بأعمال اعتاد المؤمنون أن يقوموا بها، وليس هو مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان، لأن كل هذه المظاهر قد توجد ولا يبرز الإيمان الحقيقي؛ بل هو عمل نفسي تنكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه في الواقع، انكشافًا يصل إلى حد الجزم الموقن (4).
وبعبارة أخري ليس الإيمان في الإسلام مجرد معرفة ذهنية محضة كمعرفة المتكلمين والفلاسفة، ولا مجرد تذوق روحي مجنح كتذوق المتصوفة، ولا مجرد سلوك تعبدي، كسلوك النساك والمتزهدين.
إنه مجموع هذا كله سالمًا من الشطط والإفراط والتفريط، مضافًا إليه إيجابية تعمر الأرض بالحق، وتملأ الحياة بالخير وتقود الإنسان إلى الرشد (5).
يقول تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، ويقول تعالي: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15].
ومن ثم، فإن الإيمان الصادق ليس مجرد إدراك ذهني أو تصديق قلبي- غير متبوع بأثر عملي في الحياة -.. كلا!، إنه اعتقاد وعمل وإخلاص، ومهما كان الاختلاف حول مفهوم الإيمان، وصلة العمل به، فإن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان الكامل (6)، ومما يجدر ذكره أن المقصود بالعمل هنا هو التطبيق الصادق، أو التنفيذ الكلي للمبادئ التي نعتقدها في ضمائرنا، إلى نتائجها النهائية، فالعمل هو إذن استعمال العلم أو إخراج الفكرة من حيز التنفيذ المجرد إلى الواقع الملموس (7).
وعلي هذا فالإيمان ليس بالتمني؛ بل هو ممارسة حياتية، وله مظاهر في الواقع الإنساني، والقرآن لا يجد تعبيرًا أكثر تركيزًا ودقة من هذه الممارسة من كلمة العمل الصالح، وهي كلمة جامعة من جوامع القرآن تشمل كل ما تصلح به الدنيا والدين، وما يصلح به الفرد والمجتمع، وما تصلح به الحياة الروحية والمادية معًا (8).
يقول تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج: 50]، ويقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]، ويقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (9).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة من نفاق. حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» (10).
وهكذا نجد أن الإسلام ربط بين العقيدة والسلوك ربطًا لا انفصام له، حتى جعل العمل دليلًا على وجود العقيدة، وعلى ذلك بنى المسئولية والجزاء، ويجب تبصير المتربين بهذه الحقيقة، وتلك العلاقة بين العقيدة والسلوك في نظر الإسلام، لأن ذلك سيكون من عوامل دفعهم إلى الالتزام بالسلوك بموجب العقيدة (11).
وبذلك يتربى المسلمون علمًا وعملًا، وترسخ العقيدة الإسلامية في قلوبهم، ويظهر أثرها في أخلاقهم وأعمالهم، والتربية تعني بالدرجة الأولى بتغيير السلوك الإنساني، لأنه لا فائدة من التغيير لو اقتصر على مجرد الحصول على معارف ومعلومات جديدة.
صحيح أن تغيير السلوك لا يتم بصورة سليمة، إلا إذا سبقته القاعدة المعرفية، لكن من الصحيح أيضًا أن هذه القاعدة ليست إلا وسيلة لغاية وأداة لتحقيق هدف هو الممارسة الفعلية لقيمة ما أو لاتجاه ما (12).
والإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، ويعنى هذا وجود تلازم وثيق بين العقيدة الإسلامية، وبين التربية والعمل، لأن التربية هي تلك العملية الموجهة توجيهًا قائمًا على (تبصير) للعمل، لتحويل الأفكار والمبادئ، على المستوى النظري إلى سلوك على المستوى الفعلي، وهو التلازم والتلاحم بين العقيدة والعمل؛ لأن التربية سوف تعجز بالتأكيد عن القيام بمهمة التشخيص الواقعي والتجسيد الفعلي إذا توسلت إلى ذلك بالأساليب النظرية وحدها، وإنما يتم لها ذلك بإجراءات وأفعال وأعمال تنحت في أرض الواقع، فتشكل الإنسان بالفعل (13).
ومما يجدر ملاحظته أن الإسلام قوة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور تتحرك لتحقيق مدلولها في الخارج، ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع.
وهدف الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطني بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادات ثابتة أو قانون، مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة، لتبقى حية متصلة بينبوعها الأصيل (14).
وحيث إن الدين الإسلامي، عقيدة ومعرفة وسلوك، فلا بد من الاهتمام بهذه الجوانب جميعًا، في كل المواقف التعليمية، وفي سائر المواد الدراسية؛ لأن الإسلام ومفاهيمه التي يستبطنها، ومبادئه التي يؤسس عليها، وقيمه التي تشكل أخلاقياته وسلوك معتنقيه، ليست مقصورة على مادة بعينها يمكن أن نطلق عليها (مادة الدين) ... وإنما الإسلام أكثر من هذا شمولًا؛ حيث يفرض على التخصصات العلمية والأدبية المختلفة مطالب تتحقق بها مبادئه وأخلاقياته، وتشريعاته، وكل ما يحتويه (15).
وعلى هذا، فإن التربية الدينية ليست مادة تعليمية مستقلة بذاتها، وليست مقصورة على دروس الدين وحفظ آيات من القرآن الكريم ونصوص من الحديث الشريف، بل تتعدى كل ذلك إلى الجو المدرسي عامة، وإلى المواقف التعليمية في سائر المواد الدراسية، أي أن التربية الدينية ليست مادة دراسية، يجرى عليها ما يجري على سائر المواد الدراسية، بل هي تبدأ بالمعرفة التي تدرس، ولكنها لا يجوز أن تنتهي بهذه المعرفة كما تنتهي كثير من المواد الدراسية؛ بل يجب أن تنتقل المعرفة الدينية بعد اقتناع العقل بها إلى العاطفة لتنفعل بها، وتثور لها، فيكون العزم والتصميم الإرادي القوي على ترجمة المعرفة إلى سلوك مطبق في الحياة على النحو الذي نراه في القدوات الطيبة... وهذا هو الذي يعبر عنه المربون بترجمة المعارف الدينية إلى سلوك، وهو بعض ما نسميه في الميدان المدرسي بالنشاط.
فإذا وقفت المعرفة الدينية عند حد العلم، ولم تنتقل إلى التأثر العاطفي بها والانفعال لها، أو كانت هنالك عاطفة لم تصل إلى حد الإخراج الفعلي للمثل الدينية في صورة إنسانية، لم تكن مؤدية إلى الغاية المرتجاة منها، ومن هنا يظهر الفرق بين التربية الدينية وغيرها من المواد الدراسية، التربية الدينية تبدأ بمعرفة تتحول إلى عاطفة، والعاطفة تهيئ إلى سلوك.
وهذا يعني أن المعلومات والمعارف الدينية وحدها، لا قيمة لها في ذاتها، إن لم ينعكس أثرها في حياة المتعلم؛ لأن الدين الإسلامي لا يقوم بالوعظ وحده، ولا بحفظ نصوص من القرآن والحديث فقط، بل هو روح وتأثر.
وبالرغم من أهمية العقيدة الإسلامية وأثرها التربوي -على هذا النحو- فإن نظرة بسيطة إلى واقعنا التربوي في عالمنا الإسلامي المعاصر، تدل على أن التربية الدينية، لا تجد الاهتمام الكافي، في سائر المؤسسات التربوية والثقافية في المجتمع، ويكفى للدلالة على ذلك أن الأصول الدينية الإسلامية -شأنها في ذلك شأن الأصول الدينية المسيحية واليهودية- في التربية العربية، محدودة الأثر، لا تتعدى آيات من الكتب المقدسة الثلاثة تحفظ وتستظهر، وقد يفهم معناها وقد لا يفهم، وهى تردد بشكل أو بآخر في دور العبادة، وفى برامج الإذاعة والتليفزيون، ولكنها لا يتاح لها أن تتحول إلى سلوك عملي، لا في المدرسة، ولا في المنزل، ولا في الشارع، إلا فيما ندر (16).
ويزيد من انعدام فاعليتها أن أجهزة الإعلام... تهدم ما تبنيه المدرسة؛ بما تقدمه في الصحف وفي الإذاعة وفي السينما وفي التلفزيون، من مواد هدامة للدين والخلق، ولا شك أن إهمال التربية الدينية في البيت والمدرسة والمجتمع، قد أدى إلى كثير من تدهور الأخلاق، وسوء السلوك، والانحراف عن الطريق المستقيم (17).
ومن ثم ينبغي العناية التامة بالتربية الدينية، وتحقيق الانسجام والتعاون بين سائر المؤسسات التربوية والثقافية في المجتمع، للوصول إلى الغاية المنشودة منها، لأن مهمة التربية الدينية بالذات لا ينهض بها فرد واحد أو مؤسسة تربوية واحدة، بل هي مسئولية كل هذه المؤسسات، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة.
وإن أول واجب على المدرسة في كل مراحلها أن تعمل على بث الميل الديني في نفوس (المتعلمين)، وتساعد في تربيتهم تربية دينية قويمة، كي ترسخ العقيدة الدينية في قلوبهم، ويظهر أثرها في أخلاقهم وأعمالهم (18).
ولن تتحقق كل تلك الأهداف المنشودة من التربية الدينية، ما لم تصحبها القدوة الصالحة والنموذج الطيب، الذي يحتذيه المتعلم؛ في الأسرة والمدرسة وسائر المؤسسات التربوية والثقافية في المجتمع.
يضاف إلى ذلك، أنه لكي تثمر التربية الدينية ثمرتها المرجوة، يجب أن تربط الدراسة بالحياة، وأن تعمل على توثيق الصلة بين الدين الإسلامي والحياة، فليس الدين جزءًا من الحياة، وليس منفصلًا عن الحياة، ولكنه متصل بالحياة كل الاتصال، غير أنه في حاجة إلى من يفهمه، ويدرك روحه (19)، وهذا من أهم الواجبات التي تقع على عاتق العلماء والدعاة؛ إذ يمكنهم أن يربطوا موضوعات الدين بالحياة الواقعية، عند شرح الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحكام الإسلامية، مع ضرب الأمثلة التوضيحية لها من واقع الحياة الاجتماعية، وكل ذلك وصل للتربية الدينية بالحياة، التي تفوقها هذه التربية الدينية.
وفي الحياة مشكلات كثيرة يمكن أن تكون التربية الدينية حالة لعقدها، فعلى المعلم أن يستعرض مشكلات الحياة، وأن يختار منها ما يناسب درسه، وسيجد في الصحف اليومية والمجلات، وفيما تقع عليه عينيه وعين تلاميذه، مددًا كثيرًا منها.
وهذا يعني ضرورة تثبيت العقيدة الدينية لدى الطلاب وتربية الضمير الخلقي والوازع الديني فيهم، في دروس التربية الدينية، وفيما يتصل بها من نشاط روحي وتهذيب خلقي، وممارسة فعلية لشعائر الدين وللفضائل المنشودة... وأن الدين لا يكون بالإيمان وحده، ولا يقتصر على أداء الفروض وإقامة الشعائر، إنما يتم بالعمل الصالح والإخلاص في أداء الواجب والإنتاج المثمر (20).
وبهذا يتربى المسلم علمًا وعملًا، فيصفو قلبه ويتهذب سلوكه، ويفكر بعقله ويمارس عمله ويحسن فيه، فتنمو شخصيته من كافة جوانبها، ويتكامل في حياته الجانبان الفكري والتطبيقي العملي، وبالتالي يستطيع أن يمارس دوره كإنسان منتج، في المجتمع الإسلامي.
إن العقيدة الإسلامية هي كل خبر جاء عن الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمَّن خبرًا غيبيًّا لا يتعلَّق به حكم شرعي عمَلي (21).
وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فاشترط في صدْق إيمانهم بالله ورسوله كونَهم لم يَرتابوا، أي: لم يشكُّوا، فأما المرتاب، فهو مِن المنافقين، والعياذ بالله (22).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يَلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكٍّ فيهما، إلا دخل الجنة» (23)، بالنسبة للمؤمن يَعتقِد العديد مِن الاعتقادات، فذِهنُه مثلًا يَجزم بأن الله موجود، وأن الله له صفات الكمال، وبأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله، وبأن القرآن كلام الله حق، وأن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم صدق.
ويُمكِن تعريف العقيدة الإسلامية بتعريف مختصَر، فنقول: العقيدة هي التصديق الجازم بالعقائد الواردة في القرآن والسنَّة والعمل بمقتضاها، أو المسائل العِلمية التي صحَّ بها الخبر عن الله ورسوله، والتي يَجب أن يَنعقِد عليها قلب المسلم.
إن التوحيد ليس متنًا يحفظ ولا قواعد تستظهر، بل التوحيد حقيقة تقوم في القلب وتظهر آثارها على الجوارح، فلهذا كان الناس على درجات متفاوتة في هذا الأصل العظيم فمن الناس من يبلغ في التوحيد أعلى الدرجات، أرأيتم إبراهيم عليه السلام حين ألقاه قومه من شاهق في النار المضطرمة وهو يرى ألسنة اللهب تحته ويعلم أنه عما قريب سيصبح شواءً تأكله النار، فما كان منه إلا أن قال: حسبنا الله ونعم الوكيل (24).
مثال آخر: أيضًا لإبراهيم عليه السلام بلغ به توحيد الله عز وجل أن قَدَّمَ مَحَابَّ الله وَمَرَاضِيهِ على مَحَابِّ نفسه، حتى إنه لـمَّا أمره ربه أن يذبح ابنه فلذة كبده قال له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، هو لا يستشيره ولكنه يتلطف إليه بالعرض، فما تدري أتعجب من الأب أم تعجب من الابن، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فقال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103]، هذا هو التوحيد، {فَلَمَّا أَسْلَمَا}، أي استسلما لله، وخَلَّصَا قلبيها من التعلق بما يخالف مراد الله عز وجل، ووقع ذلك بالفعل والعمل، قال: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، كما يصنع من يريد أن يذبح الشاة حين يشد رأسها ليجر السكين على الحلق، حينئذ وقع مراد الله عز وجل وتحقق التوحيد، قال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} [الصافات: 104- 107]، أرأيتم كيف يكون التوحيد.
فهذا مثال على إمام الموحدين في الأولين وهو إبراهيم عليه السلام.
وإمام الموحدين في الآخرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يَبْلُغُ به أن يقول: «وَاللهِ يَا عَمَّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالقَمَرُ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَدَعْ هَذَا الأَمْرُ مَا تَرَكْتَهُ أَوْ أَمُوتُ دُونِهِ» (25).
ولما أحاطت به قريش تبحث عنه ووقفوا على فم الغار في الهجرة، قال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدميه لرآنا، فقال له: «لا تحزن إن الله معنا، يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (26).
فبهذا نعلم أن التوحيد درجات متفاوتة، من الناس من يخلص قلبه لله عز وجل فيأتي بقلب سليم، قال ربنا عز وجل على لسان نبيه إبراهيم: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 87- 89]، قال ابن القيم: القلب السليم: هو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم في محبة الله، مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل طريق (27).
ومن الموحدين من يشوب توحيدهم نوع رياء، نوع حضور دنيا، نوع شهوات، نوع شبهات، فهو سُلَّمٌ متفاوت المراتب، فالناس فيه ليسوا سواءً؛ بل يتفاوتون بحسب ما قاموا به من معرفة الله والقيام بعبوديته.
قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].
ومثل المؤمن كمثل رجل يحمل في يده مشعلًا مضيئًا يضيء لنفسه ويضيء لغيره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]، فالإيمان هدى إذا استنار القلب بنور الإيمان جعل الله لصاحبه فرقانًا بين الحق والباطل، وأذهب عنه الحَزَنَ، وشرح صدره، وأنار قلبه، ووفقه إلى كل هدى (28).
-----------
(1) روح البيان (3/ 314).
(2) التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا (ص: 9).
(3) نحو تربية مؤمنة (ص: 85- 86).
(4) الإيمان والالتزام (ص: 143- 144).
(5) التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا (ص: 9).
(6) الإيمان والحياة (ص: 285).
(7) مفهوم الإيمان والعمل في الفرق الإسلامية (ص: 226).
(8) الإيمان والحياة (ص: 286).
(9) أخرجه مسلم (47).
(10) أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58).
(11) التربية الأخلاقية الإسلامية (ص: 221).
(12) نشأة التربية الإسلامية (ص: 154).
(13) دراسات في التربية الإسلامية (ص: 4).
(14) أضواء على التربية في الإسلام (ص: 44).
(15) بحوث في التربية الإسلامية (ص: 61).
(16) في التربية الإسلامية (ص: 221).
(17) التربية الإسلامية وفلاسفتها (ص: 49).
(18) المرجع السابق (ص: 48).
(19) المرجع السابق (ص50).
(20) الاتجاهات التربوية المعاصرة/ المدرسة الشاملة، العدد (19) (ص: 17).
(21) انظر: الحاوي من فتاوى الشيخ الألباني (ص: 9).
(22) معارج القَبول (ص: 419).
(23) أخرجه مسلم (27).
(24) أخرجه البخاري (4536).
(25) سيرة ابن هشام (1/ 266).
(26) أخرجه البخاري (3653)، ومسلم (2381)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(27) إغاثة اللهفان (1/ 7).
(28) التوحيد ليس متنًا يحفظ/ العقيدة والحياة.