logo

التعرض للنوازل على المنابر


بتاريخ : الأحد ، 19 ربيع الأول ، 1438 الموافق 18 ديسمبر 2016
بقلم : تيار الاصلاح
التعرض للنوازل على المنابر

إن للكلمة أثرها الفاعل، وقيمتها الكبرى، ودورها الحاسم في عمليات التغيير الإنساني على صعيد الدين، والعلم، والفكر، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، فالكلمة هي وعاء المعنى، ورسوله إلى القلوب والعقول، وهي القناة التي يتفاهم من خلالها البشر، ويتناقلون الآراء والأفكار، وكلما تقدمت الحياة وتطورت معارفها ازدادت قيمة الكلمة في حياتنا، وازداد دورها خطورة.

ودين الإسلام لم يغفل دور الكلمة؛ بل وضعها في إطارها الصحيح، واهتم بها الاهتمام اللائق، فجعلها الوسيلة الهامة في توصيل الرسالة، وهداية الناس، وتربية الأمة، وتوعية المجتمع، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح.

فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة التي تجعل القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، ومن فكر إلى فكر، فتنتعش الروح ويتجدد الإيمان.

إن خطبة الجمعة منبر دعوي هام، ووسيلة ممتازة لتذكير الناس بأمور دينهم وعقيدتهم، ونافذة واسعة لعرض الإسلام بنصاعته الكاملة، وتوعية المسلمين بالمرحلة التي يعيشونها، وبالأخطار والتحديات التي تحيط بهم، وحتى يستثمر الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل عليه أن يطرح المواضيع ضمن منهج متوازن شامل، يغطي المعاني والأفكار كلها التي يجب على المسلم أن يهتم بها.

فهناك من الخطباء من يهمل في موضوعاته أحداث الساعة التي تمسّ واقع المسلمين ووجودهم ومستقبلهم، فلا يجد الجمهور المسلم في خطبته متنفسًا لمشاعره العارمة وآلامه الغائرة، فيستمع إلى الخطبة دون أن يتفاعل معها.

وأهمية الخطبة وآثارها تكمن فيما يأتي:

1- قيام الخطبة بنصيب ضخم في تثقيف الأمة وترشيد نهضتها، ودعم كيانها المادي والأدبي، ووصل غدها المأمول بماضيها المجيد.

2- تحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة.

3- تقوي الإيمان وترقق الأفئدة وتزكي المشاعر، وتجعل الناس قريبين من ربهم وخالقهم سبحانه.

4- تؤدي إلى تغيير الآراء والقناعات الفكرية الخاطئة.

5- تساهم في تغيير العادات السيئة، وتحدث أثرًا جيدًا في تحسين أخلاقيات الفرد والمجتمع.

إن الرسالة التي يضطلع بها الخطيب عظيمة وأمانة التبليغ ثقيلة، وذلك من منطلق أن الخطيب الناجح أو مقومات الخطبة الناجحة هي التي تمس واقع الناس وتتصل بالعصر، وتنفتح على قضاياه الشاغلة.

إن جماهير الأمة المسلمة اليوم تتطلع إلى خطاب أصيل وعصري، يقبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويسلط أشعة الشريعة الغراء على قضايا العصر ومستجدات الأحداث، ومتغيرات الواقع التي يقف المسلم إزاءها في حيرة بين القبول والرفض، ويعالج كل هذه القضايا بروح من وسطية الإسلام وشموليته، وتميز منهجه في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتفرد قواعده الأصولية وأحكامه الفقهية في القدرة على وصف واستنباط الحلول لمشاكل الحياة البشرية كلها.

ولا شك أن هذا الخطاب لا يتأتى إلا لمن تعاهد نفسه بالتثقيف المستمر، واعتنى بالقراءة والمتابعة والاطلاع، فالثقافة الإسلامية بما تحمله من رسالة عالمية لكل الناس، وفي كل زمان ومكان، وبما تتميز به من خصائص وسمات تجعلها قادرة على التفاعل مع تطورات العصر ومنجزاته.

إن الإسلام اليوم بحاجة ماسة إلى دعاة يحسنون عرض أفكاره وقيمه ومثله ومبادئه وأخلاقه، بأسلوب جذاب وشيق وجميل؛ كي يقبل الناس على ثقافة الإسلام وفكره، انطلاقًا من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

فهناك أمران متلازمان:

الأول: ضرورة المعرفة الصحيحة للإسلام الحقيقي كدين وفلسفة اجتماعية، ونظام فكري وعقائدي بنّاء وشامل، وباعث على السعادة.

الثاني: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط.

ولقد أثارت عظمة الفقه الإسلامي في قابليته الفذّة على تلبية حاجات كلِّ عصر إعجاب البشرية جمعاء، علمًا أنَّ المسائل المستجدة لا تخص عصرنا فحسب؛ بل كانت تظهر في كل عصر منذ بزوغ فجر الإسلام، حيث كانت الحضارة الإسلامية في توسع مضطرد، يتمخض عنه مسائل مستحدثة وحاجات مستجدة، أدى الفقه الإسلامي خلالها دوره الخطير، محافظًا على أصالته دون الاستعانة بمصادر أخرى.

وإن فقدان التوجه الإسلامي الهادف خلال القرون الأخيرة، وانبهار المسلمين بتقدم الغرب وتطوره من جهة أخرى؛ قد أفضيا إلى التصور الموهوم بأن الإسلام لا يصلح لعصرنا الجديد هذا.

إن الإسلام طريق، وليس منـزلًا على الطريق، أو موقفًا من مواقفه، وقد عبر عن نفسه بنفسه بأنه الصراط المستقيم، فمن الخطأ إحداث تغيير في هذا الطريق بسبب تغيير منازله؛ وذلك لأن لكل حركة منظمة عنصرين أساسيين؛ هما:

التغيير، وهذا يحصل في المواقف على التوالي.

والثبات، وهو صفة الطريق ومحور الحركة.

ومن هذا المنطلق كان تداول العلماء لمصطلح (فقه الواقع) كضرورة حياتية، والتركيب (فقه الواقع) معناه: فهم الأمور الحادثة والوقائع النازلة.

وإزاء ما تعانيه الأمة من جهل بالإسلام، وبعد عن تمثل روحه وفهم رسالته، وتخلف عن الالتزام بمنهجه الشرعي والأخلاقي في الحياة، إضافة إلى حجم التحديات القائمة في وجهه، وشراسة الحرب المعلنة عليه؛ إزاء ذلك كله، فإن ثقل الواجب الملقى على عاتق الدعاة إليه، ومنهم العاملون في الخطابة والوعظ في المساجد، يزداد ويكبر ليوازي حجم تلك التحديات الجسيمة والحرب اللئيمة؛ مما يستدعي ألَّا تنحصر ثقافة الداعية المسلم في حدود تحصيله للعلم الشرعي فحسب، وإنما تتجاوزه إلى الإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من علوم زمانه؛ ليكون ذلك كله مكملًا لثقافته الشرعية، ومعينًا على استكمال متطلبات القيام بواجب الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم.

ولن يملك الواعظ والخطيب أن يكون معالجًا للواقع المريض إلا بمعرفة أمراضه، وكشف أسبابها ووصف أدويتها، ولن يكون مصلحًا في الناس ولا مؤثرًا في نفوسهم ولا مقنعًا لهم إلا بالعلم والحكمة والوعي؛ تلك التي تجتمع في إطار ثقافة خاصة لا يكتمل تحصيلها بغير القراءة الواعية المستمرة.

وهذه الثقافة ستكون سلاحه الذي يواجه به جهل الناس بقيم الإسلام وأحكامه، وانشغالهم المفرط بشئون دنياهم عن أمور دينهم، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساسًا لإصلاح الواقع وبناء المستقبل، وستكون هذه الثقافة عونًا له على حسن النظر في سطور كتاب الواقع، الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان التوعية والتذكير.

وإن غياب هذه الثقافة سيجعل الواعظ والخطيب معزولًا عن الواقع، يحلِّق وحيدًا في أجواء خالية، ويدور في حلقة مغلقة، بعيدًا عن إدراك حاجة المجتمع، وتحديد مستلزمات الإصلاح، وتحقيق رسالة الوعظ، والقيام بواجب التوعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومما ينبغي على القائمين على الخطابة والدعوة مراعاته حال وقوع نازلة:

- أن مجال التطبيق يحتاج إلى حذر شديد؛ لأن الجمود فيه، مثل التسيب سواء بسواء، عمل على عكس ما يريده الشرع؛ لذلك يعيب ابن القيم على أناس تشددوا هنا، فسدوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، مع علمهم وعلم غيرهم قطعًا أنها حق مطابق للواقع، ظنًّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله، إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر(1).

- المحافظة على الثوابت الدينية، التي هي بالأساس القيم المنصوص عليها في القرآن والسنة، وتبقى وسائل تنزيل تلك القيم في الواقع مفتوحة في الغالب الأعم لإبداع الأمة واجتهاداتها، التي تختلف من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة.

- العمل بطريقة منظمة ومتدرجة ورفيقة تراعي الواقع، وتحاول الارتفاع به إلى النموذج المأمول في تدرج، وعلى قدر الوسع والاستطاعة، ودون هزة عنيفة، ويروي لنا التاريخ أن الخليفة عمر بن عبد العزيز طلب منه ابنه عبد الملك يومًا أن يقضي على المظالم والمفاسد المتراكمة دفعةً واحدةً دون تأخر، مهما تكن النتائج، قائلًا له: «ما لك لا تنفذ الأمور، فوالله، ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق»، ولكن عمر بن عبد العزيز أوضح ذلك قائلًا: «لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة»(2).

- إشاعة المودة وبناء العلاقات الإيجابية، والابتعاد عن التعصب والأحقاد، وتوفير الثقة في الآخرين، وإحسان التعامل معهم، وهذه كلها سمات لها دور مهم في بناء أحوال المجتمع على الطمأنينة والشعور بالاستقرار، والتفرغ بالتالي للإنجاز والعطاء.

- القدرة على التعامل بنجاح مع الأزمات التي تواجه المجتمع، والقدرة على إدارة الصراعات القائمة داخل المجتمع، بشكلٍ يستطيع من خلاله أن يتمكن من القيام بما يلزم من تغييراتٍ للاستجابة للحد الأدنى من متطلبات الشرع.

- الابتعاد عن خطاب المزايدة السياسية، الذي ينطلق من خلفية الإقصاء والاستئصال؛ مما يؤدي عادة إلى تسميم الأجواء، ونشر التدابر والتنافر والصراع عوض التآلف والتكامل والتنافس الإيجابي، وزرع الثقة وإيجاد أجواء صحية للتنافس، تسهم في تهيئة مناخ التوافق بين الفاعلين؛ مما يعزز الاستقرار والعمل(3).

إن الداعية قد يحدث له من النوازل ما لا قول فيه للعلماء، أو فيه قول لهم ولكن ظهر موجب تغييره من نحو بنائه على عرفٍ طارئٍ أو مصلحة مؤقتة، فإذا حدث من النوازل ما لا دليل عليه خاصّ بجزئه من كتاب أو سنّة، أو ما لا قول فيه للفقهاء، أو فيه قول لهم ولكن ظهر من مناطه ما يوجب إعادة النظر فيه؛ لكونه مبنيًّا على عرفٍ طارئٍ ونحوه، فإن على الفقيه القادر الاجتهادَ في النازلة، وردَّها إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو تخريجَها على الأصول والقواعد المقررة منهما، أو على الأصول والفروع المذهبية(4).

وإذا نزلت بالناس نازلة لها مساس بدينهم أو دنياهم فإن خطباء الجمعة من جملة من يهرع الناس إليهم، ويريدون رأيهم فيها، حتى إنهم يفرحون بتطرق الخطيب للنازلة، وينزعجون من تجاهله لها؛ ولذا فإنه لا بد للخطيب من العناية بفقه النوازل، وكثرة القراءة فيه، والتأمل الكثير في النازلة، وسؤال أهل العلم والاختصاص بها، وعرض تأملاته تجاهها عليهم، وأخذ ما لديهم من علم ومعرفة بها مما ليس عنده.

ويقول تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83]، فقد جعل الله عز وجل معالجة النوازل لأهل الاستنباط؛ ليستمدّوا ذلك من الكتاب والسُّنَّة، والقواعد والأصول المقررة منها.

وعلى هذا دَرَج العلماء في تقرير أحكام النوازل المستجدة، يقول الشيرازي: «واعلم أنه إذا نزلت بالعالم نازلة وَجَبَ عليه طلبها في النصوص والظواهر في منطوقها ومفهومها، وفي أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره، وفي إجماع علماء الأمصار، فإن وجد في شيء من ذلك ما يدل عليه قضى به.

وإن لم يجد، طلبه في الأصول والقياس عليها، وبدأ في طلب العلة بالنص، فإن وجد التعليل منصوصًا عليه عمل به، وإن لم يجد المنصوص عليه ضم إليه غيره من الأوصاف التي دل الدليل عليها، فإن لم يجد في النص عَدَلَ إلى المفهوم، فإن لم يجد في ذلك نظر في الأوصاف المؤثرة في الأصول من ذلك الحكم، واختبرها منفردةً ومجتمعة، فما سلِم منها منفردًا أو مجتمعًا علَّق عليه الحكم، وإن لم يجد علَّل بالأشباه الدالة على الحكم، فإن لم يجد علل بالأشبه إن كان ممن يرى مجرد الشبه، وإن لم تسلم له علة في الأصل علِم أن الحكم مقصور على الأصل لا يتعداه، فإن لم يجد في الحادثة دليلًا يدله عليها من جهة الشرع، لا نصًا ولا استنباطًا، أبقاه على حكم الأصل في العقل»(5).

يقول الماوردي: «ليس من حادثة إلا ولله فيها حكم قد بينه من تحليل أو تحريم، وأمر ونهي»(6).

والداعية يجد في حل النوازل الفقهية والحكم عليها طريقًا إلى معرفة أحكام دينه، وهو مأمور بالالتزام بأحكام الشرع والاعتصام بها؛ تصحيحًا لعقيدته وعبادته ومعاملاته ومناكحاته وكافة تعاملاته، وطلبًا لمرضاة الله عز وجل ببراءة ذمته من واجبها، والفوز بالنعيم يوم القيامة.

 يقول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، ويقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا} [آل عمران:103]، وحبل الله هو الكتاب والسنة.

 ويقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:3]،  ويقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، ويقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].

 فدلت هذه الآيات على وجوب التزام المسلم بهدي الكتاب والسنة، والتحذير من مخالفتهما.

أقسام النوازل:

تنقسم النوازل من حيث موضوعها إلى نوازل فقهية وغير فقهية.

خصائص النازلة الفقهية:

والحاصل أن النازلة لا بد من اشتمالها على ثلاثة معان؛ الوقوع، والجدة، والشدة، فهذه قيود ثلاثة لا بد من وجودِها في النازلة.

القيد الأول: الوقوع، بمعنى الحلول والحصول.

وقد خرج بهذا القيد المسائلُ غيرُ النازلة، وهي المسائل الافتراضية المقدرة، وهذه المسائل الافتراضية نوعان: إما مسائل يستحيل وقوعها، وإما مسائل يبعد وقوعها.

ولما كانت المسائل الواقعة على قسمين: قسم سبق وتكرر وقوعه من قبل، وقسم لم يتقدم له وقوع؛ كان لا بد مِن الإتيان بالقيد الآتي، وهو:

القيد الثاني: الجدة: بمعنى: عدم وقوع المسألة من قبل، والمراد بذلك عدم التكرار.

وقد خرج بهذا القيد: نوازل العصور السالفة، وهي تلك المسائل التي سبق وقوعها من قبل، فيما إذا تكرر وقوعها.

فالنوازل الفقهية إذًا تختص بنوع من الوقائع، وهي المسائل الحادثة التي لا عهد للفقهاء بها؛ حيث لم يسبق أن وقعت مِن قبل.

القيد الثالث: استدعاء الحكم الشرعي: أي أن تستدعي هذه المسألة حكمًا شرعيًا؛ بحيث تكون ملحة من جهة النظر الشرعي.

وقد خرج بهذا القيد ما نزل من وقائع جديدة، إلا أنها لا تتطلب نظرًا شرعيًا، وإنما تتطلب رأيًا طبيًا، أو موقفًا عسكريًا؛ كالأمراض غير المعهودة، والكوارث الطبيعية الحاصلة بأمر الله وتقديره، والتقلبات الاقتصادية والسياسية، فهذه الوقائع لا تعد من قبيل النوازل بهذا الاصطلاح، وإنما هي نوازل غير فقهية.

من أمثلة النوازل السابقة:

اختلافهم في موته صلى الله عليه وسلم: فزعم قوم منهم أنه لم يمت، وإنما أراد الله رفعه إليه، كما رفع عيسى بن مريم إليه، وزال هذا الخلاف وأقر الجميع بموته حين تلا عليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه قول الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال رضي الله عنه: «من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت»(7).

ثم اختلفوا بعد ذلك في موضع دفنه عليه الصلاة والسلام، إلا أن هذا الخلاف ارتفع برواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنبياء يُدْفنون حيث يُقبَضون»(8)، فدفنوه في حجرته.

ثم اختلفوا بعد ذلك في الإمامة، وأرادت الأنصار أن تبايع سعد بن عبادة، وقالت قريش: «إن الإمامة لا تكون إلا في قريش»، ثم إنهم اتفقوا على مبايعة أبي بكر الصديق خليفةً للمسلمين(9).

أهمية معرفة النوازل:

1- إنارة السبيل أمام الناس بإيضاح حكم هذه النازلة؛ حتى يعبدوا الله على بصيرة وهدى ونور، في منهج إسلامي واضح، فلو ترك أهل الحل والعقد، وهم المجتهدون، التصدي لتلك النوازل دون إيضاح لأحكامها لصار الناس في تخبط، ثم استفتوا من لا يصل إلى رتبة الاجتهاد، وهذا قد يفتي بغير علم فيَضِل ويُضِل، وعلى هذا الأساس فلا بد من طَرْق هذا الباب.

2- الحرص على تأدية الأمانة التي حملها الله العلماء؛ فقد أخذ الله الميثاق على العلماء ببيان الأحكام الشرعية وعدم كتمانها، وقد حصر التكليف بهم؛ فكان لزامًا عليهم التصدي للفتوى في النوازل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وذلك إبراءً للذمة بالقيام بتكاليف إبلاغ العلم وعدم كتمانه.

ضوابط تناول النازلة:

1- التجرد في تناول النازلة والإخلاص لله في ذلك.

2- الإلحاح بالدعاء وطلب الفتح من الله أن يلهمه رشده وصوابه وتوفيقه إلى السداد وإصابة الحق في هذا الأمر، قال ابن القيم رحمه الله: «الفائدة العاشرة: ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي؛ لا العلمي المجرد، إلى مُلهِم الصواب ومُعلم الخير وهادي القلوب أن يلهمه الصواب، ويفتح له طريق السداد، ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من أَمَّل فَضْل ربه ألَّا يحرمه إياه»(10)، وقال في موضع آخر: «الفائدة الحادية والستون: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(11)، وكان شيخنا [أي ابن تيمية] كثير الدعاء بذلك»(12).

3- فقه حقيقة النازلة: وذلك بتصورها تصورًا واضحًا، وتصويرها تصويرًا دقيقًا يدور على الإحاطة بها من جميع الجوانب؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتحقق ذلك من ثلاثة أمور:

أ- جمع المعلومات المتعلقة بموضوع النازلة؛ فيعرف حقيقتها، وأقسامها، ونشأتها، والظروف التي أحاطت بها، وأسباب ظهورها، وغير ذلك.

ب- الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع النازلة.

ج- تحليل القضية المركبة إلى عناصرها الأساسية.

4- تكييف النازلة تكييفًا فقهيًا: وهذا التكييف يفيد في تحديد مسار البحث بتعيين مصادره المُعِينة في معرفة الحكم؛ كما أنه يضيق دائرة البحث في المصادر والمراجع الواسعة.

5- عرض النازلة على المصادر الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع؛ كما فعل الصحابة والتابعون، وقد لا يجد الباحث نصًا صريحًا في المسألة لأنها نازلة، ولكنه يجد دلالة النصوص عليها بالالتزام أو التضمن، فقد يدل النص على النازلة بدلالة المفهوم.

6- عرض النازلة على أقوال الصحابة واجتهاداتهم، فقد كان عمر رضي الله عنه ينظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد نظر في قضاء أبي بكر رضي الله عنه.

7- البحث عن حكم النازلة في اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية، وحينئذ؛ فللباحث حالان: الأولى: أن يجد نصًا في النازلة ذاتها، وذلك مثل: بنوك الحليب؛ فقد تكلم ابن قدامة في المغني في كتاب الرضاع عن مسألة مشابهة جدًا لهذه النازلة، وكذلك نازلة عقد التأمين؛ فقد تكلم عليه ابن عابدين في معرض كلامه عن السوكرة.

ب- ألَّا يجد الباحث نصًا في النازلة بذاتها، لكنه يجد نصًا قريبًا منها؛ فحينئذ يتمكن بواسطته من فهم النازلة ويسهل الحكم عليها.

8- البحث في قرارات المجامع الفقهية والندوات الفقهية المتخصصة، وذلك مما يسمى بالاجتهاد الجماعي، فلا بد من النظر في مثل هذه المجامع العلمية.

9- البحث في الرسائل العلمية المتخصصة؛ كرسائل الدكتوراه والماجستير في علوم الشريعة الإسلامية، وخاصة فيما يتعلق بالنوازل المعاصرة.

10- إذا لم يجد الباحث حكمًا للنازلة فيما سبق من خطوات فإنه يعيد النظر في النازلة، ثم يفترض فيها أقسام الحكم التكليفي، من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم، ويبحث في كل افتراض ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد، ويوازن بينهما مراعيًا عند إجراء تلك الموازنة النظرات التالية:

أ- عدم مصادمة النصوص الشرعية.

ب- اعتبار مقاصد الشريعة الإسلامية.

ج- اعتبار أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.

د- اعتبار موافقة القواعد الشرعية الكبرى.

11- إذا لم يتوصل الداعية إلى حكم شرعي في النازلة توقف فيها لعل الله يهيئ مِن العلماء من يتصدى للإفتاء فيها.

أقسام النوازل باعتبار مصدرها:

تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: النوازل الكونية التي لا يد للبشر فيها؛ كالزلازل والأعاصير والفيضانات ونحوها.

القسم الثاني: النوازل التي وقعت بسبب البشر؛ كالحروب، ونشر الأوبئة، والتلاعب الاقتصادي والبيئي ونحو ذلك.

أقسام النوازل باعتبار زمنها: 

يمكن تقسيمها إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأول: نوازل وقتية، أو مداها قصير؛ كالزلازل والبراكين والفيضانات ونحوها، وهذه لا بد للخطيب من معالجتها؛ لأن وقتها يفوت، وإذا أتى بها في غير وقتها كان تأثيرها في الناس ضعيفًا.

القسم الثاني: نوازل مرشحة لزمن أطول؛ مثل الحروب التي تمس المسلمين، والأوبئة، والأزمات المالية، وهذه تحتاج إلى أكثر من خطبة في معالجتها؛ لأنه يغلب على الظن أنه تمتد إلى أشهر، وربما جاوزت ذلك إلى سنوات. 

القسم الثالث: النوازل المزمنة، وهي التي تمتد إلى عقود، وأوضح مثال عليها احتلال اليهود لبيت المقدس، كما كان احتلال الصليبيين له نازلة امتدت تسعين سنة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ولم يهدأ للمسلمين بال حتى طهروه من رجس الصليبيين.

وفي النوازل التي تطول أقترح ما يلي:

أولًا: عدم إهمالها بسبب طول أمدها، ولا حصر الخطبة فيها على حساب موضوعات أخرى؛ فإن النازلة مهما عظمت فليست كل شيء.

ثانيًا: من سمة النوازل التي يطول أمدها أن أحداثها تشتعل بين حين وآخر، فيناسب أن يكون الحديث عنها حال اشتعالها بسبب حادثة وقعت أو تطور طرأ فيها.

ثالثًا: في مثل هذه النوازل يحتار كثير من الخطباء في الحديث عنها؛ لأن غالب موضوعاتها مكرورة، وقد سئمها الناس من كثرة الحديث عنها، وإن جعل الخطيب الخطبة في السبب الذي حرك النازلة أو الحدث الذي استجد فيها ربما انقلبت خطبته إلى تحليل سياسي، وهذا ليس جيدًا في خطبة الجمعة، التي ينبغي أن يحافظ الخطيب على سمتها الشرعي؛ ولذا فإنه لا بد من موضوع مفيد يكون أصلًا للخطبة له تعلق بالنازلة، وفي أثنائه أو بعده يعرج الخطيب على الحدث المتجدد في النازلة.

توجيهات عامة في النوازل:

التوجيه الأول: ألَّا يتكلم الخطيب في النازلة إلا بعلم، سواء فيما يتعلق بها من أحكام شرعية، أو في الإخبار عنها، أو في إرشاد الناس لما يعملونه حيالها؛ فليست خطبة الجمعة مقالة في صحيفة أو مجلة يبث فيها الكاتب آراءه الشخصية؛ بل هي عبادة مشروعة، وتكتسب مصداقية عند الناس، فلا يحسن بالخطيب أن يهز هذه المصداقية، أو يستغل المنبر لبث آرائه الشخصية وهي لا تتسق مع النصوص، مع اشتراط امتلاكه للآلة العلمية في النازلة، فالخطأ يكون بسبب الجهل أو بسبب الهوى، فليحذرهما الخطيب.

التوجيه الثاني: إذا استعصى على الخطيب فهم النازلة، أو تنزيل الأحكام الشرعية عليها؛ لشدة التباسها، وكثرة الخلاف فيها فلا يحسن به إهمالها بالكلية، وعليه أن يتلمس فيها مواضع الاتفاق، ومواطن العبرة والاتعاظ، وحينئذ لم يهمل النازلة بالكلية والناس يتشوفون لكلامه فيها، ولم يقل فيها بلا علم.

التوجيه الثالث:

أن يفرق الخطيب في تناوله للنازلة بين بدايات وقوعها وبين انتشارها وعموم البلوى بها؛ ليكون ذلك أدعى لقبول توجيهه للناس؛ فإن المعاصي ينسي المتأخر منها المتقدم حتى يألفها الناس، وإن الفتن يرقق بعضها بعضًا، كما في الحديث.

التوجيه الرابع: إن كانت النازلة فيها يد للكفار والمنافقين؛ كالحروب التي يفتعلونها، أو الأزمات الاقتصادية التي يحدثونها في بلاد المسلمين، فهي فرصة للخطيب في بيان العداوة الأبدية التي يكنها الكفار والمنافقون للمؤمنين، كما دل على ذلك كثير من الآيات القرآنية؛ كقول الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} [البقرة:109]، وقوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1].

وفي وجوب الحذر منهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71]، وقوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].

التوجيه الخامس:

اجتهاد الخطيب في الربط على قلوب الناس وتثبيتهم، وتعليق قلوبهم بالله تعالى، ودوام التمسك بدينه؛ وذلك في النوازل المخوفة التي لها مساس بأمن الناس وأرزاقهم، كما في النوازل السياسية والاقتصادية، ونوازل الكوارث والأمراض والأوبئة التي تفتك بالناس؛ فإن العقول تطيش فيها، وينحرف كثير من الناس بسببها في باب القدر، من هول الفاجعة، وفقد المال والأهل والولد، فيحتاجون إلى تثبيت وتصبير، وعلى الخطيب أن يركز الخطب في التوكل على الله تعالى، وتعلق القلوب به وحده دون من سواه، وبيان الحِكم في ابتلاءاته سبحانه لعباده، وكيف يواجهها المؤمن، والأجور العظيمة المرتبة عليها، وأسباب رفع العقوبات، وبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا النوع من النوازل مما تمس حاجة الناس إليه؛ كأحكام الموت الجماعي في التغسيل والدفن والتوارث ونحو ذلك. 

أصول هامة في التعرض للأزمة:

أولًا: أن الله تعالى لا يظلم أحدًا، وأن أفعاله سبحانه بين العدل والرحمة، ورحمته تسبق غضبه، ويؤمنون أن البشر كلهم مستحقون لعذاب الله تعالى؛ لأنهم مقصرون في شكر الله تعالى، ويكفرون نعمه سبحانه عليهم على تفاوت بينهم في ذلك، وقد جاء في الحديث: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»(13)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم غير ظالم لهم»(14)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان [يعني الإبهام والتي تليها] لعذبنا ثم لم يظلمنا شيئًا»(15).

ثانيًا: عدم الجزم بكرامات لم يقف عليها الخطيب بنفسه، أو تكون مما هو معتاد فيضخمها الناقل ويزيد عليها، خاصة في قصص الناجين؛ لأن الغرائب في قصص الناجين قد تقع للمسلم والكافر، والبر والفاجر، ولا تختص بأهل البر والتقوى؛ لحكم يريدها الله تعالى، وما يخفى علينا من أسرار أفعال الله تعالى ومقاديره في البشر أكثر مما نعلم.

ثالثًا: الاستدلال بالنازلة على قدرة الله تعالى وقوته، وأنه سبحانه إن أهلك بعض من حلت بهم الكارثة فهو سبحانه قادر على أن يهلك البشر أجمعين، وأن يبدل بهم غيرهم، كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133]، وقال تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]، وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم:19-20]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (17)} [فاطر:15-17]، وفي قدرته سبحانه على عباده قال تعالى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، وقال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95].

رابعًا: التخويف من الذنوب وآثارها السيئة على الأفراد والجماعات، وأنها سبب كل مصيبة تحل بالناس؛ لقول الله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وهذا قانون رباني، وسنة قدرية أن الله تعالى لا يصيب العباد إلا بما اقترفوا من العصيان. 

خامسًا: دعوة الناس إلى التوبة ومحاسبة النفس؛ فإن أثر النازلة لا يزال في قلوبهم، ويخشون أن يصيبهم ما أصاب غيرهم، مع بيان أن التوبة والاستغفار والدعاء أسباب لرفع العذاب، كما قال الله تعالى في التوبة: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، وقال سبحانه في الاستغفار: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، وقال تعالى في الدعاء: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].

سادسًا: تلمس لطف الله تعالى ورحمته بعباده، ونعمته عليهم، حتى على المصابين منهم؛ إذ لم يكن الأمر أشد مما أصابهم، والله تعالى قادر على أن يصيبهم بما هو أشد وأعظم وأكثر خسارة وضررًا، وتذكير الناجين من النازلة ومن لم تصبهم بنعمة الله تعالى بالنجاة.

سابعًا: دعوة الناس إلى مواساة أهل النازلة إن كانوا من المسلمين، والوقوف معهم ماديًا ومعنويًا لتخفيف مصابهم، وإشعارهم بالأخوة الإيمانية، والدعاء لهم على المنابر تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا على المنبر لما نزلت نازلة الجدب والحاجة بالناس، ثم دعا على المنبر أخرى لما غرقت الأرض، وتضرر الناس.

ثامنًا: إذا كانت النازلة مما له تعلق بتغير الأحوال الكونية فهي فرصة للتذكير بيوم القيامة، وما يجري فيه من تغيرات في الكون جاءت أوصافها في كثير من السور؛ كالواقعة والقيامة والتكوير والانفطار والانشقاق وغيرها.

تاسعًا: إن كانت النازلة كارثة نزلت بقوم ظهر طغيانهم، ومحادتهم لله تعالى، واستعلاؤهم على البشر، وأذيتهم لهم، فمن المناسب الحديث عن عاقبة المجرمين، ومصارع الظالمين؛ قال الله تعالى في قوم نوح: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ} [يونس:73]، وفي آية أخرى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37]، وقال تعالى في قوم صالح: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)} [النمل:50-52]، وقال تعالى في قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ} [الأعراف:84]، وقال تعالى في فرعون وجنده: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [الأعراف:103]، وقال سبحانه في عموم المكذبين من الأمم الخالية: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس:39]، وفي آية أخرى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنْذَرِينَ (73)} [الصافات:71-73]، وفي ثالثة: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25].

ففي هذه الآيات يأمرنا الله تعالى بالنظر في نهايات الظالمين، سواء ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي أو ظلموا غيرهم بأذيتهم لهم، والأغلب أن كلا نوعي الظلم يجتمع في الكافرين، وفائدة النظر في مصيرهم مجانبة طريقهم الذي أرداهم، والحذر من أعمالهم التي أوبقتهم، فتأسيًا بالقرآن في التذكير بمصير الظالمين ينبغي للخطيب أن يبين للناس عاقبة الظلم بأنواعه في الكوارث التي تحل بالظالمين. 

عاشرًا: التنبيه على ما يقع من أخطاء في التناول الإعلامي للكوارث والنوازل؛ فإن أكثر الإعلاميين من أجهل الناس بالعقيدة والشريعة، وأجرئهم على الكلام بلا علم أو بهوى، فتتسرب أقوالهم الخاطئة إلى العامة، ومن أخطائهم المتكررة:

 1- نسبة الحوادث الكونية إلى الطبيعة، أو تعليقها بأسباب مادية دون ربط ذلك بقدر الله تعالى وقدرته؛ كتفسير الزلازل بتصدعات في الأرض، والفيضان بمد البحر، ونحو ذلك. 

2- وصف من قضوا في النوازل الكونية بأنهم أبرياء، وهذا يشعر بأنهم مظلومون، ولازم ذلك أن من فعل بهم ذلك قد ظلمهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

3- في النوازل التي تصيب الكافرين، خاصة الدول المستكبرة، ينبري البررة لها، العاقون لأمتهم للوقوف معها أكثر من وقوفهم مع كوارث أوطانهم، رغم تشدقهم بالوطنية، فينقلبون إلى وعاظ ومفتين يقررون عدم الفرح بمصاب الآخرين، وهم الذين يفرحون دومًا بمصاب المسلمين ويشمتون بهم، ومنهم من يتعدى على الله تعالى في ربوبيته فيزعمون أن أولئك القوم لا يستحقون الكوارث؛ لأنهم أهل الحضارة والتقدم؛ ولخدماتهم للإنسانية، حسب قولهم، ولحاجة البشر إليهم، ومنهم من يجاوز ذلك فيقرر أن الدول المتقدمة قادرة على مواجهة عشرات الكوارث مهما كان حجمها، في لغة تأليهية لبعض البشر، يتحدون بهم رب العالمين جل جلاله، نعوذ بالله تعالى من الزيغ والضلال. 

وهنا ينبغي للخطيب التنبيه على هذه التجاوزات، وبيان الحكم الشرعي في موقف المسلم منها، ومواجهة المد الإلحادي المادي المستهين بعظمة الله تعالى وقدرته، وتكون مواجهته برد دعاوى أصحابها، وغرس تعظيم الله تعالى في القلوب.

حادي عشر: بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالنازلة؛ مثل التعامل مع شهداء الغرق والهدم ونحوه في الدفن وفي المواريث وغيرها، وخاصة في البلد الذي وقعت فيه الكارثة؛ لأن لفقه النوازل مناسبته في الديار التي أصيبت به(16).

***

_________________
(1) الطرق الحكمية، ص13.

(2) العقد الفريد (5/ 185).

(3) خطبة الجمعة والانفتاح على قضايا العصر، موقع: المجلس العلمي لعمالة طنجة.

(4) شرح الكوكب المنير (4/ 526).

(5) اللمع في أصول الفقه، ص73.

(6) أدب القاضي (1/ 565).

(7) أخرجه البخاري (3467).

(8) أخرجه الترمذي (1018).

(9) قصة السقيفة في صحيح البخاري (6442).

(10) إعلام الموقعين (4/ 172).

(11) أخرجه مسلم (770).

(12) إعلام الموقعين (4/ 357).

(13) أخرجه الترمذي (2499) وابن ماجه (4251).

(14) أخرجه أبو داود (4699).

(15) أخرجه ابن حبان (657).

(16) تناول النوازل على المنابر، موقع: الشبكة الإسلامية.