logo

الداعية الحليم


بتاريخ : الأربعاء ، 9 ربيع الآخر ، 1439 الموافق 27 ديسمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية الحليم

الحلم مَلَكة تعمل على ضبط النفس، وهو درجة سامية لا يصل إليها إلا من استطاع أن يَكبح زِمام غضبه.

تحلم عن الأدنين واستبق ودهم       ولن تستطيع الحلم حتى تحلما

من الصفات اللازمة للداعية الحلم وضبط النفس عن الغضب؛ لأن ميدان الداعية صدور الرجال ونفوس البشر، وهي متباينة ومختلفة كاختلاف صورهم وأشكالهم؛ لذا قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87].

ورغَّبنا صلى الله عليه وسلم في الحلم بقوله: «من كظَم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يُخيَّر من الحور العين ما شاء»(1).

مواقف عملية:

ما حدث حينما كُسِرت رَباعيَتُه وشُجَّ وجهه صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وقد شق ذلك على أصحابه كما يروي لنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قيل: «يا رسول الله، ادعُ على المشركين»، قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أُبعَث لعَّانًا؛ وإنما بُعثت رحمة»(2).

وينقل ابن مسعود رضي الله عنه لنا ذلك؛ حيث قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ضرَبه قومه فأدْمَوه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(3).

فالحلم خلق من أخلاق الفضلاء، ومزية من المزايا التي يتصف بها العقلاء، وعادة غالب من كانت فيه كان يُعدَّ من الزعماء، وهي صفة يحبها الله تعالى في عبده؛ ولذلك جاء وفد عبد القيس من ضمن الوفود الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون الإسلام، فقدموا عليه وكان أحدهم أشج [يعني: كان به جرح مفتوح في يوم من الأيام، ثم التأم بعد ذلك، وكان قد شج في مشاجرة مع قريب له، فضربه بشيء شج رأسه، فكان مشهورًا بهذا الوصف، أشج عبد القيس، يعني: المشجوج من بني عبد القيس].

فلما قدموا ابتدروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل يريد أن يسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه؛ لينال من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأخر هذا الرجل قليلًا؛ فقد كانوا أتوا من سفر، وقد اتسخت ثيابهم، فأراد أن يتنظف، فنظف نفسه ولبس ثوبين طيبين، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة جميلة، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من فرحه بالآخرين، وقال لهذا الرجل معظمًا فعله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة»(4).

قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63].

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأسر بحلمه القلوب، ويرغم أنوف أناسٍ تعمدوا الإغلاظ له حتى يصيروا طوع أمره، ينزلون عند دعوته، وحفلت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، والتابعين لهم رضوان الله عليهم أجمعين؛ بالحلم، ومجانبة الغلظة والشدة والغضب، ونورد هنا بعض المواقف التي نستفيد منها، ونتربى عليها، ونقتدي بها في هذا الجانب.

فمن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء(5).

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله، لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: «يا أنيس، أذهبتَ حيثُ أمرتُك؟»، قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: «والله، لقد خدمته سبع سنين، أو تسع سنين، ما علمت قال لشيء صنعتُ: لم فعلتَ كذا وكذا؟، ولا لشيء تركتُ: هلا فعلتَ كذا وكذا؟»(6).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العضاه، فنزل تحت شجرة واستظل بها، وعلق سيفه، فتفرق الناس في الشجر يستظلون، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا، فإذا أعرابي قاعد بين يديه فقال: «إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، مخترط صلتًا، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فشامه، ثم قعد فهو هذا»، قال: ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم(7).

وهذه القصة العجيبة من سيرة معاوية رضي الله عنه أن رجلًا من قريش قال: «ما أظن معاوية أغضبه شيء قط»، فقال بعضهم: «إذا ذكرت أمه غضب»، فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: «أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلًا»، ففعلوا، فأتاه في الموسم فقال له: «يا أمير المؤمنين، إن عينيك لتشبهان عيني أمك»، قال معاوية: «نعم، كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان»، ثم دعا مولاه شقران فقال له: «أعدد لأسماء المنى دية ابنها؛ فإني قد قتلته وهو لا يدري»، فرجع مالك بن أسماء المنى وأخذ الجعل، فقيل له: «إن أتيت عمر بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا»، فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات، فبلغ ذلك معاوية فقال: «أنا والله قتلته»، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول:

ألا قل لأسماء المنى أم مالك       فإني لعمر الله أهلكت مالكا(8).

وقال معاوية: «يا بني أمية، قارعوا قريشًا بالحلم، فوالله، إن كنت لألقى الرجل من الجاهلية يوسعني شتمًا، وأوسعه حلمًا؛ فأرجع وهو لي صديق، أستنجده فينجدني، وأثيره فيثور معي، وما دفع الحلم عن شريف ولا زاده إلا كرمًا»(9).

وممن ضُرب بهم المثل في حلمهم وصفحهم الأحنف بن قيس، ومن ذلك ما روي أنه كان في الجامع بالبصرة، فإذا رجل قد لطمه، فأمسك الأحنف يده على عينيه، وقال: «ما شأنك؟»، فقال: «اجتعلت جُعْلًا على أن ألطم سيد بني تميم»، فقال: «لست سيدهم، إنما سيدهم جارية بن قدامة»، وكان جارية في المسجد، فذهب الرجل فلطمه، قال: فأخرج جارية من خفه سكينًا فقطع يده وناوله، فقال له الرجل: «ما أنت قطعت يدي، إنما قطعها الأحنف بن قيس»(10).

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه».

وقال الحكيم العربي:

والحـلم أعظم ناصر تدعونه       فالزمه يكفك قلَّة الأنصار

وخرج زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى المسجد، فسبه رجل في الطريق، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم، وقال لهم: «كفوا أيديكم عنه»، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: «يا هذا، أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره [يعني ذكر معايبي] ذكرته لك»، فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين قميصه له، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: «أشهد أن هذا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم»(11).

ودخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة، فمر برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه وقال: «أمجنون أنت؟»، فقال عمر: «لا»، فهمَّ به الحرس فقال عمر: «مه، إنما سألني: أمجنون؟ فقلت: لا»، وقال رجل لوهب بن منبه: «إن فلانًا شتمك»، فقال: «ما وجد الشيطان بريدًا غيرك»(12).

وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يتمثل حال الحلماء فيقول:

إذا سبني نذل تزايدت رفعـة       وما العيب إلا أن أكون مساببه

ولو لم تكن نفسي علي عزيزة       لمكنتها من كل نذل تحـاربه

قال ابن الأثير في تاريخه وهو يتحدث عن صلاح الدين الأيوبي: «وكان رحمه الله كريمًا، حليمًا، حسن الأخلاق، متواضعًا، صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه، وبلغني أنه كان يومًا جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز [أي: بحذاء] فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه ليتغافل عنها(13).

ذهب الحسن البصري رحمه الله إلى السوق ليشتري عبدًا سيئ الخلق، فقيل: «ولم؟»، قال: «حتى أتعلم فيه الحلم».

يعني: يسيء إلي وأحسن إليه إلى أن يكون الحلم سجيتي.

إن الحلم يحتاج إليه عميد الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس دراسته، والمعلم داخل فصله مع طلابه، والقاضي في مقطع أحكامه، والرئيس الأعلى في سياسة رعيته؛ بل يحتاج إليه كل إنسان ما دام الإنسان مدنيًّا بالطبع، ولا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة، ولئن كانت الحاجة إلى الحلم ماسّة في كل وقت فإنها في هذا الزمان أشدُّ مسيسًا؛ نظرًا لتغير طباع الناس بتغير أحوالهم ومعيشتهم، فبالحلم تسلم وتغنم، وتكفي نفسك شر من أساء إليك.

قيل للأحنف بن قيس: «ممن تعلمتَ الحِلْم؟»، قال: «من قيس بن عاصم المِنْقريّ، رأيته قاعدًا بفِناء داره، مُحْتبيًا بحمائل سيفه يُحَدِّث قَومه، حتى أُتي برجُل مكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك، فوالله، ما حَل حَبْوته، ولا قطَع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، أَثِمت بربك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ ابن عمك»، ثم قال لابن له آخر: «قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة»، ثم أنشأ يقول:

إني امرؤ لا شائنٌ حَسَبي       دَنَس يهجنه ولا أفْنُ

من مِنْقرٍ فِي بيت مكْرُمة       والغصن ينبُت حوله الغصن

خطباء حي يقول قائلُهم       بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن

لا يفطنون لعَيْب جارهمُ       وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ

وقال رجل للأحنف بن قيس: «علمني الحلم يا أبا بحر»، قال: «هو الذل يا ابن أخي، أفتصبر عليه؟»، وقال الأحنف: «لستُ حليمًا ولكني أتحالم».

قال علي رضي الله عنه: «إن أول ما عوض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل».

وقال معاوية رحمه الله تعالى: «لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم».

وقال بعضهم: «شتمت فلانًا من أهل البصرة فحلم علي، فاستعبدني بها زمانًا».

وسب رجل ابن عباس رضي الله عنهما، فلما فرغ قال: «يا عكرمة، هل للرجل حاجة فنقضيها»، فنكس الرجل رأسه واستحى.

علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: «جمع له خمس خصال محمودة: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل، وحمله على الندم والتوبة، ورجوعه إلى مدح بعد الذم، اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير»(14).

وأحق من يحتاج إلى الحِلم الداعية في دعوته، فلا شك أنه يواجه المشكلات وتواجهه، ويصادف التحديات وتعترضه، فلا أمل في أن يتغلب عليها في جل أحواله إلا بالحلم والأناة.

كثير من المواقع التي يمارَس فيها التشنج والغلظة وعدمُ الأناة وقلةُ الصبر تراجعت فيها الدعوة، وهانت فيها كلمة الحق؛ لأن النفوس التي تحملها لم تَتربَّ على هذا الخلق الرفيع، وقد لا تعرف إلا التشدد مسلكًا، والتيئيس شعارًا، والتعنت أسلوبًا، والإعجابَ برأيها منهجًا متبعًا؛ لذلك ترى مثل هذه النفوس الهزائمَ انتصارًا، والانتكاسات تقدمًا، فانقلبت حقيقة الدعوة إلى سوق من البغضاء والفرقة، والجدال حول أمور ما وُضعت مواضعها الحقة لتظهر نصاعتها وأحقيتها، مع العلم أن الرفق من أعظم الأعمدة التي بنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، ووصل به إلى الانتصارات الباهرة في فتح مغاليق النفوس، قبل الانتصار على أعداء هذا الدين، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].

فانظر إلى تقرير القرآن أن خُلُق اللين والحِلم هبة ورحمة من الله لعباده، وأن خلق الفظاظة والغلظة ينفِّر الناس ويبعدهم عن الداعية، ويفرقهم من حوله، فما أحوجنا أن نحذو حذو المواقف النبوية في تطبيقات هذا الخُلُق الفريد(15).

***

______________

(1) أخرجه أبو داود (4777) عن سهل بن معاذ عن أبيه.

(2) أخرجه مسلم (2599) عن أبي هريرة.

(3) أخرجه البخاري (3477)، ومسلم (1792).

(4) أخرجه مسلم (17).

(5) أخرجه البخاري (2980).

(6) أخرجه أبو داود (4775).

(7) أخرجه البخاري (3908)، ومسلم (843).

(8) المحاسن والمساوئ، لإبراهيم البيهقي (1/ 221).

(9) كتاب الحلم (1/ 37).

(10) تهذيب الكمال، للمزي (4/ 482).

(11) التبر المسبوك في نصيحة الملوك، لأبي حامد الغزالي (1/ 7).

(12) مختصر منهاج القاصدين (3/ 45).

(13) الكامل في التاريخ، لابن الأثير (5/ 214).

(14) إحياء علوم الدين (3/ 178).

(15) المسلمون ومرحلة الغربة، مجلة البيان (العدد:221).