logo

العقاب للتعليم، لا للانتقام


بتاريخ : الجمعة ، 10 جمادى الأول ، 1437 الموافق 19 فبراير 2016
بقلم : تيار الاصلاح
العقاب للتعليم، لا للانتقام

يقول ابن خلدون في مقدمته الماتعة: «من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وَضَيَّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره؛ خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقًا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالًا على غيره في ذلك؛ بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها، ومدى إنسانيتها، وعاد في أسفل السافلين.

إن من يُعامل بالقهر يصبح حملًا على غيره؛ إذ هو يصبح عاجزًا عن الذود عن شرفه وأسرته؛ لخلوه من الحماسة والحمية، على حين يقعد عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، وبذلك تنقلب النفس عن غايتها ومدى إنسانيتها» [مقدمة ابن خلدون، ص1043، بتصرف يسير].

فسياسة العقاب بالقهر لها تأثير سيئ جدًا على نفسية الأبناء، فهذه السياسة تولد الاكتئاب والتكاسل، والخداع، والتآمر، والجبن، والانكماش، والتردد، والتشاؤم، واتهام الظروف عند الإخفاق والفشل في العمل، إضافة إلى السلبية وضعف الثقة بالنفس.

وللأسف، فإن هذه الآثار السلبية والظواهر المرضية لتلك السياسة يصعب التخلص منها؛ لذلك كان لا بد من وجود ضوابط وقواعد تساعد على تطبيق العقوبة على الوجه الأمثل.

"إن التربية الإسلامية قد عنيت بموضوع العقوبة عناية فائقة، سواء أكانت عقوبة معنوية أم عقوبة مادية، وقد أحاطت هذه العقوبة بسياج من الشروط والقيود، فعلى الآباء ألا يتجاوزوها، وألا يتغاضوا عنها، إن أرادوا لأولادهم التربية المثلى، ولأجيالهم الإصلاح العظيم.

وكم يكون الإنسان موفقًا وحكيمًا حينما يضع العقوبة موضعها المناسب، كما يضع الملاطفة واللين في المكان الملائم.

وكم يكون الإنسان أحمق جاهلًا حينما يحلم في موضع الشدة والحزم، ويقسو في مواطن الرحمة والعفو" [تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان ص729، بتصرف].

فمن هذه الضوابط التي تساعد على ممارسة العقاب دون ظلم الأبناء، وتحميهم من الآثار المدمرة لتجاوز الحكمة في العقاب:

أولًا: ملائمة العقاب للخطأ، فلا تحبس الابن في غرفته، وتبعده عن إخوته لأنه لا يحب اللبن!.

ثانيًا: مناسبة العقاب للخطأ، فمن قام بإحداث فوضى في الغرفة عليه ترتيبها، ومن عاد متأخرًا إلى المنزل فلا يسمح له بالخروج في اليوم التالي، وهكذا.

ثالثًا: أن يكون العقاب من السهل تنفيذه، فلا يكون العقاب ممتدًا لفترة طويلة، أو فيه مبالغة وإرهاق للابن؛ لأن كل هذه الظروف قد تدفع الأب أو الأم إلى كسر العقاب لأنهما قد أشفقا على الابن، فضلًا عن أن هذا فيه ظلم للابن، فالهدف من العقاب هو تعليمه أن ما ارتكبه خطأ، وعليه ألا يعود إليه مرة أخرى، وليس المقصود من العقاب هو التعذيب والانتقام من الابن.

رابعًا: حاول تفسير العقاب وسببه، دون الخوض في التفاصيل، وإنما تكون كمعلومة للابن، أن الهدف من العقاب أنه أخطأ، وليس الهدف أنك تريد معاقبته وفقط، ومن ألطف الطرق لذلك أن تقول له: لقد كان سلوكك جيدًا طوال الفترة الماضية، ولكن هذا الخطأ العارض لا بد من محاسبتك عليه، فأي عقاب تراه مناسبًا لهذا الخطأ؟ قرر أنت؟.

ومن الأمور المهمة أيضًا أن كل خطأ لا يستلزم اللوم، فالخطأ الذي يقر به صاحبه، ويشعر بعظم ذنبه، فهذا لا بد من الثناء على شجاعته في اعترافه بخطئه، مع تقديم النصح له بعدم العودة إلى هذا الخطأ.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا فأقمه علي، قال: ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدًا، فأقم في كتاب الله، قال: «أليس قد صليت معنا»، قال: نعم، قال: «فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدك» [رواه البخاري (6823)،ومسلم (2764)].

فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما وجد هذا المعترف بخطئه والمقر بذنبه والمستشعر لعظم ما صنع، كان أول ما فعله عدم تعنيفه أو توبيخه؛ بل كما قال أنس رضي الله عنه: «لم يسأله عنه»، ثم بعدما أنهى الصلاة وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحل وإلى التصرف في مثل هذه الظروف، فالهدف هو التعليم لا الانتقام.

ويظهر هذا الهدف جليًا في أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة، حينما وجه الآباء إلى أمر الأبناء بالصلاة عند سبع سنين، وبالضرب عند عشر سنين، والمقصود هي هذه الثلاث سنوات؛ حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم فترة يتم فيها استخدام كافة السبل والطرق لتشجيع الأبناء على الصلاة، قبل اللجوء إلى الضرب.

"إن شعور الطفل بأن العقوبة توقع عليه للانتقام والتشفي، لا للإصلاح، قد يُحدِث انحرافًا معينًا في نفسه، وهو أن يتعمد إثارة والديه ليستمتع بمنظر هياجهما وثورتهما عليه، ويحس بالانتفاش الداخلي والارتياح؛ لأنه، وهو الصغير، استطاع أن يثير أولئك الكبار ويزعجهم! ولا مانع لديه عندئذ من احتمال الأذى، ولو اشتد، في سبيل هذه المتعة التي يجدها في نفسه, كلما استطاع أن يثير ثورة والديه وهياجهما عليه! وعندئذ تكون الخسارة مزدوجة: فلا العقوبة أدت غرضها في الإصلاح، وزاد في نفس الطفل انحراف جديد هو تحقيق الذات عن طريق غير سوي.

العقوبة إذن، رغم ضرورتها في كثير من الحالات، ينبغي أن تنفذ بالحكمة الواجبة في كل شأن من شئون التربية، فلا يسرف المربي في استخدامها، ولا يتخطى تدرجاتها.

ثم عليه أن يراعي كذلك أن تكون العقوبة مناسبة للجرم، فلا تكون لديه جرعة جاهزة من العقوبة يستخدمها لكل حالة على السواء، فإن ذلك يغري الطفل بالكبيرة ما دام يعاقب على الصغيرة كالكبيرة.

كما أنه من الأفضل التهديد بالعقوبة أكثر من توقيعها بالفعل؛ لأن ذلك يحتفظ برهبتها الدائمة في نفس الطفل، فالتهديد بالمقاطعة يروع الطفل, أما المقاطعة الفعلية فسيتعودها إن تكررت، والتهديد بالحرمان موجع، والحرمان الفعلي موجع كذلك في مبدأ الأمر، ولكنه إن طال تعودته النفس وفقد تأثيره، والتهديد بالضرب مفزع، أما الضرب الفعلي فهو موجع في البدء، عديم التأثير في النهاية.

ولا ضرر بعد التهديد من عدم تنفيذه في بعض الأحيان اكتفاءً بأثره المرهوب، فليس من الضروري أن ينفذ التهديد بالفعل حين يقع من الطفل ما هدد من أجله بالعقوبة، إنما يمكن أن يستتاب دون تنفيذ التهديد، بشرط واحد، وهو ألا يعتقد الطفل أن التهديد هو لمجرد التهديد لا للتنفيذ! فإنه إن اعتقد ذلك فلن يهمه التهديد بطبيعة الحال! فمن أجل ذلك ينبغي أن ينفذ التهديد ولو مرة، إذا أحس الوالد أن الطفل قد استخف بالتهديد ولم يعد يهمه أمره، أما إذا وجد أنه ما زال يخاف منه ويتقيه، ولو وقع في الخطأ المنهي عنه أكثر من مرة، فلا بأس بالاستمرار في التهديد بغير تنفيذ، وعمر رضي الله عنه يقول: علق عصاك بحيث يراها أهل الدار! أي: للتهديد! ولكنه لم ينصح باستعمالها في كل مرة.

بهذه الصورة، وبالحكمة الواجبة، تؤدي العقوبة دورها في التربية في وقت الحاجة إليها، وتتعاون المثوبة والعقوبة معًا على إقامة البناء النفسي السليم للطفل، على خطي الفطرة الطبيعيين: خطي الخوف والرجاء" [منهج التربية الإسلامية، للأستاذ محمد قطب رحمه الله (2/ 379-380)].