logo

الداعية المعجب بنفسه


بتاريخ : الأحد ، 14 جمادى الأول ، 1440 الموافق 20 يناير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية المعجب بنفسه

قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]؛ أي: لا تتكبر على الحق، ولا على الخلق، فإن التكبر من أرذل الأخلاق، والمتكبر المعجب بنفسه لن يبلغ ما يظنه وتطمح له نفسه من الخيالات الفاسدة أنه في مقام رفيع على الخلق؛ بل هو ممقوت عند الله وعند خلقه، مبغوض محتقر، قد نزل بخلقه هذا إلى أسفل سافلين، ففاته مطلوبه من كبره وعجبه، وحصل على نقيضه(1).

الإنسان أعظم من الأرض والجبال بعقله، ولكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحًا؛ لأن عقله يبصره بعيوب نفسه، ونقائص بشريته، فلا يدعه يعجب فلا يكون من المرحين، فما مرح إلّا وهو محروم من نور العقل، مفتون بمادة الجسم، فذكر بضعف هذا الجسم وصغارته.

إذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، ولهى عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها؛ فعاش ولا أخلاق له، مصدرًا لكل شر، بعيدًا عن كل خير(2).

الفرق بين العجب والكبر:

والعجب يورث الكبر الباطن، والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال.

ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا فرق بين الأمرين، وأنهما شيء واحد، ولكن ذهب المحققون إلى أن بينهما فرقًا؛ لأن الكبر خُلُقٌ باطن يصدر عنه أعمال، وذلك الخلق هو رؤية النفس فوق المتكبر عليه، والعجب يتصور ولو لم يكن أحد غير المعجب، والمتكبر يرى نفسه أعلى من الغير، فتحصل له هزة وفرح وركون له إلى ما اعتقده(3).

وقال الماوردي: «الكبر يكون بالمنزلة، والعجب يكون بالفضيلة، فالمتكبر يجل نفسه عن رتبة المتعلمين، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدبين»(4).

وقال أبو هلال: «الفرق بين العجب والكبر أن العجب بالشيء شدة السرور به، حتى لا يعادله شيء عند صاحبه، تقول: هو معجب بفلانة، إذا كان شديد السرور بها، وهو معجب بنفسه، إذا كان مسرورًا بخصالها، ولهذا يقال: أعجبه، كما يقال: سُرَّ به، وليس العجب من الكبر في شيء، وقال علي بن عيسى: (العجب عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يتعجب منها وليست هي لها)»(5).

آفة العجب:

للعجب آفات مباشرة وغير مباشرة، أما غير المباشرة فإنه يدعو إلى الكبر، والكبر يتولد عنه، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى، وإذا اجتمعا (الكبر والعجب) فإنهما يسلبان الفضائل، ويكسبان الرذائل، وليس لمن استوليا عليه إصغاء لنصح ولا قبول لتأديب(6).

أما الآفات المباشرة فقد ذكرها الإمام الغزالي بقوله: «العجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، ويستعظم صاحبه العبادات والأعمال ويتبجح بها، ويمن على الله بفعلها، ثم إذا أعجب بها نسي آفاتها، ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعًا، والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، ويمنعه ذلك من الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ويكتفي برأيه، وربما أعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره، ويصر عليه، وربما أودى به ذلك إلى الهلاك، خاصة لو كان هذا الرأي يتعلق بأمر من أمور الدين؛ ولذلك عد العجب من المهلكات، ومن أعظم آفات العجب فتورُ سعيِ المعجب؛ لظنه أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهذا هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه»(7).

مظاهر العجب بالنفس:

1- الإكثار من الثناء على النفس ومدحها، لحاجة ولغير حاجة، تصريحًا أو تلميحًا، وقد يكون على هيئة ذم للنفس أو للآخرين، يراد به مدح النفس.

2- بيان عيوب الآخرين، وخاصة الأقران، والغيرة منهم عند مدحهم، ومحاولة التقليل من شأنهم.

3- الحرص على تقلد الأمور التي فيها تصدر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس والتأليف والقضاء، وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس، كما هو حال السلف.

4- كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والمشاريع الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها.

5- الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.

6- القرب من السلاطين والولاة ومن بيده القرار في تقليد المناصب، وكثرة الدخول عليهم.

وهذا باب واسع، يدخل منه علماء الدنيا لنيل الشرف والجاه، وهو مظنة قوية للفتنة في الدين، كما في الحديث: «من أتى أبواب السلطان افتتن»(8).

7- الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.

وفي الحديث: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»(9).

8- النفور من النصيحة، وكراهيتها، وبغض الناصحين.

9- صعوبة المطاوعة، والحرص على التخلص من التبعات والمسئوليات، وتحقيق القناعات الشخصية.

10- الترفع عن الحضور والمشاركة في بعض الأنشطة العلمية والدعوية، وخصوصًا العامة(10).

منشأ العجب وعلاجه:

قال الغزالي: «علة العجب الجهل المحض»(11)، ومن أعجب بطاعته فما علم أنها بالتوفيق حصلت، فإن قال: رآني أهلًا لها فوفقني، قيل له: فتلك نعمة من مَنِّه وفضله فلا تقابل بالإعجاب(12).

أسباب العجب: ذَكَر العلماء للعجب سببين رئيسين:

أولهما: جهل المعجب بحق ربه وقدره، وقلة علمه بأسمائه وصفاته، وضعف تعبده له تعالى بها.

ثانيهما: الغفلة عن حقيقة النفس، والجهل بطبيعتها وعيوبها، وإهمال محاسبتها.

ويدخل تحتهما: تجاهل النعم، ونسيان الذنوب، واستكثار الطاعات.

ومن الأسباب المهمة أيضًا:

أ- الجهل بما عند الآخرين من علم أو عمل قد يفوق ما عنده كثيرًا.

ب- النظر إلى من هو دونه في أمور الدين، دون النظر إلى من فاقه وزاد عليه.

ج- النشأة في كنفِ مُرَبٍّ به عُجْب، كثير الثناء على نفسه.

د- صحبة بعض أهل العجب، لا سيما إذا كانوا من المبرزين النابهين.

هـ- الاعتداد بالنسب، أو المكانة الاجتماعية، أو كثرة المال.

و- الإطراء والمدح في الوجه، والإفراط في الاحترام.

ز- المبالغة في الانقياد والطاعة، ولو في المعصية.

ح- التصدر للناس قبل النضج العلمي والتربوي، تساهلًا، أو تطلعًا لسماع الجماهير، أو مراعاة لظروف الدعوة، لخلو الساحة من المؤهلين تأهيلًا كافيًا.

ط- تحقيق بعض الدعوات أو الأشخاص نجاحات في الدعوة؛ كالتفاف الجماهير، وسماعهم، وتأثرهم(13).

العلاج الناجع للعجب:

أول ما ينبغي أن يتوجه إليه العلاج معالجة أسباب العجب، ومجاهدة النفس على اجتنابها، قال الغزالي: «وعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل؛ أي معرفة أن ذلك الذي أثار إعجابه نعمة من الله عليه، من غير حق سبق له، ومن غير وسيلة يدلي بها، ومن ثم ينبغي أن يكون إعجابه بجود الله وكرمه وفضله»(14).

وإذا تم علم الإنسان لم ير لنفسه عملًا ولم يعجب به؛ لأن الله هو الذي وفقه إليه، وإذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها، هذا إذا سلم من شائبة وسلم من غفلة، فأما والغفلات تحيط به، فينبغي أن يغلب الحذر من رده، ويخاف العقاب على التقصير فيه(15).

هذا في علاج العجب إجمالًا، أما علاج حالاته تفصيلًا فإن ذلك يختلف باختلاف ما يحدث به العجب؛ فإن كان ناشئًا عن حالة البدن وما يتمتع به صاحبه من الجمال والقوة ونحوهما، فعلاجه التفكر في أقذار باطنه، وفي أول أمره وآخره، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة، كيف تمرغت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع.

وإن كان العجب ناشئًا عن البطش والقوة فعلاج ذلك أن حُمَّى يوم تضعف قوته، وأنها ربما سلبت منه بأدنى آفة يسلطها الله عليه.

وإذا كان العجب بالعقل والكياسة فعلاجه شكر الله تعالى على ما رزق من عقل، والتفكر في أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه.

وإن كان العجب بالنسب الشريف فعلاجه أن يعلم أنه إن خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل، وإن اقتدى بهم فما كان العجب من أخلاقهم، وأنهم شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة.

وإذا كان العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم فعلاجه أن يتفكر في مخازيهم، وأنهم ممقوتون عند الله تعالى، وما بالك لو انكشف له ذلهم يوم القيامة.

وإذ كان العجب بكثرة الأموال والأولاد والخدم والأقارب والأنصار فعلاجه أن يعلم ضعفه وضعفهم، وأن للمال آفات كثيرة، وأنه غاد ورائح ولا أصل له.

أما إذا كان العجب بالرأي الخطأ، فعلاجه أن يتهم الإنسان رأيه وألا يغتر به(16).

ومن ذلك ندرك أن علاج العجب يكون كما يلي:

أولًا: الحرص على العلم الشرعي: الذي يهذب النفوس، ويصلح القلوب، ويزيد الإيمان؛ فإن الإيمان الكامل والعجب لا يجتمعان، وتحصيل العلم النافع دليل على أن الله أراد بعبده خيرًا.

ومن الجوانب التي ينبغي العلم بها والعمل بمقتضاها:

1- أسماء الله وصفاته وأفعاله، وحقه في التعظيم المورِث للخوف، الذي يطرد العجب، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67].

2- تذكر فضل الله عز وجل على عبده، ونعمه المتوالية، والنظر في حال من سُلبها؛ فإن الله خلقه من العدم، وجعله إنسانًا سويًا، وأمده بالنعم والأرزاق، وجعله من أبوين مسلمين، ووفقه للطاعات، وهيأ له أسباب العلم والدعوة، وهو الذي يثيبه عليها، ويدخله الجنة برحمته، وهو تعالى لو شاء لجعله عدمًا أو جمادًا، أو بهيمة، ولو شاء لخلقه أصم أبكم أعمى، ولو أراد لجعله من أبوين يهوديين أو نصرانيين، وهو سبحانه في كل نعمه تلك غني عن عبده وعن عبادته وعن طاعته.

3- أن يعلم أن بقاء هذه النعمة منوط بشكرها، وشكرها يتحقق بمسكنة العبد وفاقته إلى ربه؛ فكلما زادت النعمة على العبد كلما تحتم عليه أن يزيد افتقاره للخالق، وتواضعه للخلق؛ فمهما بلغ العبد من الصلاح والديانة فإنه لا ينبغي له أن يدعي الكمال؛ بل يذل لربه، ويعترف بتقصيره وظلمه لنفسه، فإذا رأيت الرجل كلما ارتفع كلما زاد افتقاره والتجاؤه لربه وانكساره له فاعلم أنه قد تفيأ ظلال التوفيق، وأخذ منه بسبب متين، وآوى فيه إلى ركن شديد.

4- حقيقة الدنيا والآخرة، وأن الدنيا مزرعة، هدف العبد فيها مرضاة الله تعالى، وهو عز وجل لا يرضيه العجب، وكذا تذكر الموت وما يكون بعده من الأهوال التي لا ينفع فيها إلا صالح العمل، والعجب يجعله هباءً منثورًا.

قال الشافعي رحمه الله تعالى: «إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله»(17).

5- حقيقة النفس، قال الأحنف بن قيس: «عجبت لمن خرج من مجرى البول مرتين كيف يتكبر»، قال ابن القيم: «فلا شيء أنفع للصادق من التحقق بالمسكنة والفاقة والذل، وأنه لا شيء، وأنه ممن لم يصح له بعد الإسلام حتى يدعي الشرف فيه، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: (ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء)، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المكدي وابن المكدي      وهكذا كان أبي وجدي»(18).

6- أن يعلم العبد أنه متى أعجب بنفسه فثم الخذلان، وضياع الشأن، ذكر الماوردي (أحد علماء الشافعية) عن نفسه فقال: «ومما أنذرك به من حالي أنني صنفت في البيوع كتابًا جمعت فيه ما استطعت من كتب الناس، وأجهدت فيه نفسي، وكددت فيه خاطري، حتى إذا تهذب واستكمل، وكدت أعجب به، وتصورت أنني أشد الناس اضطلاعًا بعلمه، حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان؛ فسألاني عن بيع عقداه في البادية، على شروط تضمنت أربع مسائل، لم أعرف لواحدة منها جوابًا، فأطرقت منكرًا، وبحالي مفكرًا، فقالا: (ما عندك فيما سألناك جواب وأنت زعيم هذه الجماعة؟)، فقلت: (لا)، فقالا: (واهًا لك!)، وانصرفا، ثم أتيا من يتقدمه في العلم كثير من أصحابي، فسألاه، فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما، وانصرفا عنه راضيين بجوابه، حامدين لعلمه، فبقيت مرتبكًا، وبحالهما وحالي معتبرًا، فكان ذلك زاجر نصيحة، ونذير عظة؛ تذلل بهما قياد النفس، وانخفض لهما جناح العجب، توفيقًا مُنِحْتُه، ورشدًا أُوتِيته»(19).

7- وجوب الإخلاص، قال الذهبي: «فمن طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العجب»(20).

ثانيًا: الحرص على ما يعين على تحصيل ذلك من الإقبال على كتاب الله، واستلهام الفهم منه، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالحين، ومجالسة العلماء والدعاة الصادقين، والأخذ من علومهم.

كان من الدعاء النبوي، الذي ينبغي للمسلم أن يقوله طرفي النهار: «يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»(21)، وورد في حديث آخر: «فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك»(22)، وورد في حديث آخر: «وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك»(23).

ثالثًا: دور الدعاة والمربين، والذي يتمثل فيما يلي:

1- محاسبة النفس أولًا، وتنقيتها من داء العجب والفخر.

2- متابعة البارزين ومن يخشى عليهم العجب، من خلال:

أ- البرامج الإيمانية.

ب- اللقاءات الفردية، التي يذكرون فيها بمعاني الإيمان والتواضع.

ج- وأحيانًا مصارحة الواحد منهم بما يصدر منه، بأسلوب مناسب.

3- تمكينه من معاشرة ومخالطة الصالحين، ورؤية بعض المتواضعين من إخوانه، الذين هم أكثر بروزًا في المجتمع، وإبعاده وتجنيبه صحبة المعجبين.

4- التوقف عن إبرازه في المناشط العامة، وتأخيره عن المواقع الأمامية، كنوع من العلاج، مع مراعاة ألا ينتج عن ذلك سلبية الإحباط، فإن حدثت فإنه يجب علاجها أيضًا؛ لأن التأخير اجتهاد في العلاج، وقد يكون التشخيص أيضًا مجتهدًا فيه.

رابعًا: اتباع الآداب الشرعية: في المدح والثناء، والتوقير والاحترام، والطاعة والانقياد.

 فالمدح إذا كان بالحق وباعتدال، مع من لا تُخشى عليه الفتنة فقط، كان جائزًا، أو مستحبًا، بحسب المصلحة، وإلا فحرام.

 والتوقير والاحترام ينبغي ألا يصل إلى التعظيم؛ ولذا كره من أصحابه أن يقوموا له، وأن يعظموه كما يعظم الأعاجم ملوكهم.

 وأما الطاعة والانقياد فقد حددها الشارع في المعروف.

خامسًا: النظر إلى العاملين النشيطين، والتأمل في سيرهم وحياتهم.

سادسًا: التأكيد على المسئولية الفردية في محاسبة النفس ومتابعتها، حسب خطوات العلاج السابقة كلها، وتفقّد القلب في نيته عند كل عمل، قال عبيد الله بن أبي جعفر: «إذا كان المرء يحدِّث في مجلس فأعجبه الحديث فليمسك، وإذا كان ساكتًا فأعجبه السكوت فليتحدث»(24)، ولكن يجب التنبه إلى أن هذا يكون في حدود التأديب والعلاج، لا يتعداه إلى ترك العمل خشية العجب أو الرياء.

كما أن المحاسبة قد تتطلب أحيانًا تعريض النفس بين الحين والحين لبعض المواقف التي تكبح جماح كبريائها، وتعرفها بمكانتها اللائقة؛ كخدمة من هو أصغر منه، أو حمل متاعه بنفسه، على نحو ما أُثِرَ عن كثير من السلف، ولا غنى للعبد في كل هذه الوسائل عن الاستعانة بالله تبارك وتعالى، واللجوء إليه لجوء العبد الضعيف المفتقر إلى عون مولاه ومدده وهداه وتوفيقه(25).

سابعًا: الخوف على الأعمال من الضياع، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف:103-104].

فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه، ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، فمناط الردع جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه، وجعل التقتير علامة على إرادة الإهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإهانة؛ لأن الله أهان الكافر بعذاب الآخرة، ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق.

وبهذا ظهر ألا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإنسان بقوله: {فَأَكْرَمَهُ} وبين إبطال ذلك بقوله: {كَلَّا}؛ لأن الإبطال وارد على ما قصده الإنسان بقوله: {رَبِّي أَكْرَمَن} أن ما ناله من النعمة علامة على رضا الله عنه(26).

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»(27).

أثر العجب على الدعوة والدعاة:

ولا شك أن آثاره على الدعاة تنعكس على الدعوة أيضًا بالسلب، فمن آثاره على الدعاة:

1- أنه طريق إلى الغرور والكبر، وآثار الكبر المهلكة لا تخفى.

2- الحرمان من التوفيق والهداية؛ لأن الهداية إنما ينالها من أصلح قلبه وجاهد نفسه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ومن صور هذا الحرمان: نسيان الذنوب واستصغارها، والعمى عن التقصير في الطاعات، والاستبداد بالرأي، والتعصب للباطل، وجحود الحق، وهذه الآثار في الجملة منها ما يقع سببًا للعجب، ثم يزداد ويستمر، ليبقى أثرًا ثابتًا له.

3- بطلان العمل، قال عز وجل: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:246].

4- العجز والكسل عن العمل؛ لأن المعجب يظن أنه بلغ المنتهى.

5- الانهيار في أوقات المحن والشدائد؛ لأن المعجب يهمل نفسه من التزكية، فتخونه حينما يكون أحوج إليها، ويفقد عون الله ومعيته؛ لأنه ما عرف الله حال الرخاء.

وتأمل ما أصاب الصحابة رضوان الله عليهم، مع إيمانهم وصلاحهم، حين أعجب نفر منهم بكثرة العدد: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة:25]، واليهود عليهم لعائن الله: {ظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2].

6- نفور الناس وكراهيتهم؛ لأن الله يبغض المعجب.

7- العقوبة العاجلة أو الآجلة، كما خسف الله بالمتبختر المعجب الأرض(28).

***

__________________

(1) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن (1/ 62).

(2) تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص108.

(3) غذاء الألباب (2/ 222).

(4) أدب الدنيا والدين، ص231.

(5) الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، ص243.

(6) أدب الدنيا والدين، ص202.

(7) إحياء علوم الدين (3/ 370).

(8) أخرجه الترمذي (2256).

(9) صحيح الجامع الصغير (3039).

(10) العُجْب وخطره على الداعية، مجلة البيان، (العدد:120).

(11) إحياء علوم الدين (3/ 371).

(12) غذاء الألباب (2/ 225).

(13) العجب وخطره على الداعية، موقع: صيد الفوائد.

(14) إحياء علوم الدين (3/ 271).

(15) غذاء الألباب (2/ 226).

(16) إحياء علوم الدين (3/ 374-378).

(17) شرح مسند الشافعي (1/ 19).

(18) مدارج السالكين (1/ 524).

(19) أدب الدنيا والدين، ص81.

(20) سير أعلام النبلاء (10/ 42).

(21) أخرجه النسائي في الكبرى (10405).

(22) أخرجه أحمد (3916).

(23) أخرجه أحمد (21666).

(24) سير أعلام النبلاء (6/ 10).

(25) العجب وخطره على الداعية، مجلة البيان، (العدد:120).

(26) التحرير والتنوير (30/ 331).

(27) أخرجه البخاري (5789)، ومسلم (2088).

(28) العجب وخطره على الداعية، مجلة البيان، (العدد:120).