logo

الصراع بين طاعة الرحمن وطاعة الشيطان


بتاريخ : الأحد ، 19 ذو الحجة ، 1438 الموافق 10 سبتمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الصراع بين طاعة الرحمن وطاعة الشيطان

المعصية تجد فرصتها للظهور حين تقوى دواعي الهوى، وتثور شهوات النفس ونزواتها، ويشتد تزيين الشيطان، وتخلو النفس حينها من ذكر أو عمل صالح أو ممارسة نافعة؛ وتضعف في القلب خشية الله تعالى التي هي سلاح المجاهدة.

قال إبراهيم الخواص: «أول الذنب الخطرة، فإن تداركها صاحبها بالكراهية وإلا صارت معارضة، فإن تداركها صاحبها بالرد وإلا صارت وسوسة، فإن تداركها صاحبها بالمجاهدة وإلا هاج منها الشهوة مع طلب الهوى؛ فغطّى العلم والعقل والبيان»(1).

وللنفس أحوال مع المنكرات، تتوقف على نتيجة المدافعة بين خشية الله في القلب ودواعي المعصية، فأيهما كان له حضور قوي في القلب كانت له الغلبة والانتصار, ومن هنا يتضح مدى حاجة النفس إلى الخشية من الله تعالى في دفع المنكرات، ومدى الخطر الكبير من ضعفها، فضعف الخشية فرصة للشيطان يتسلل منه إلى النفس، فيزين لها المنكرات، ويجرئها على فعل المعصية، حتى تحمل الأوزار والسيئات.

والطاعة في الأصل هي فعل متعلق بأمر، فلا تكون الطاعة إلا بعد ورود الأمر، وهذا ما قررته النصوص الشرعية القرآنية والنبوية، فأما القرآنية فهي قوله تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].

فهذه حقيقة طاعة الملائكة لربهم؛ أنهم يتلقون أوامر ربهم، فيستجيبون لأمره بالعمل والفعل، ولم يذكر الله تعالى أن الطاعة تتحقق بالقبول كما ذهبتم إليه، فدل على أن العمل والفعل الظاهر هو الدلالة الحقيقية لقبول الأمر.

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فقوله: {لَا يَعْصُونَ} لا يمتنعون عن الطاعة، وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}؛ أي: هم قادرون على ذلك لا يعجزون عن شيء منه؛ بل يفعلونه كله، فيلزم وجود كل ما أمروا به، وقد يكون في ضمن ذلك أنهم لا يفعلون إلا المأمور به، كما يقول القائل: أنا أفعل ما أمرت به؛ أي أفعله ولا أتعداه بلا زيادة ولا نقصان»(2).

وقال أيضًا: «وأحسن من هذا وهذا أن العاصي هو الممتنع من طاعة الأمر مع قدرته على الامتثال، فلو لم يفعل ما أمر به لعجزه لم يكن عاصيًا، فإذا قال: {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} لم يكن في هذا بيان أنهم يفعلون ما يؤمرون؛ فإن العاجز ليس بعاص ولا فاعل لما أمر به، وقال: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ليبين أنهم قادرون على فعل ما أمروا به، فهم لا يتركونه لا عجزًا ولا معصية، والمأمور إنما يترك ما أمر به لأحد هذين؛ إما ألَّا يكون قادرًا، وإما أن يكون عاصيًا لا يريد الطاعة، فإذا كان مطيعًا يريد طاعة الآمر وهو قادر وجب وجود فعل ما أمر به، فكذلك الملائكة المذكورون؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون»(3).           

وهذا حال الأنبياء صلى الله عليهم وسلم، قال تعالى عن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)} [الصافات:102-103]، فالرؤى بحق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حق، ولم يفهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من الرؤيا القبول، وإنما فهما أن المقصود من الأمر الفعل الظاهر، الذي هو الدلالة الحقيقية على القبول القلبي، فإسماعيل عليه السلام قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، وهذا الفعل هو الامتثال للأمر؛ ولذلك بيَّن سبحانه وتعالى أن الاستسلام {فَلَمَّا أَسْلَمَا}، كانت دلالته {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، فبين سبحانه لنبيه أنه إذا لم يمتثل للأمر بفعل البلاغ فإنه لم يأت بالمقصود من الطاعة، فلم يكتف منه بمجرد القبول القلبي.

أعداء الإنسان:

والمرء في هذه الحياة في صراع وجهاد مع أعداء ثلاثة؛ يدفعونه إلى المعصية، ويبعدونه عن الطاعة، وهؤلاء الأعداء هم:

العدو الأول: الهوى:

الهوى: هو ميل النفس إلى الشيء، وميل الطبع إلى ما يلائمه، وسُمِّي (هوى) لأنه يهوي بصاحبه.

والهوى كما قيل: يعمي ويصم، يعمي عن النظر في الحق وإن كان مشهورًا، ويصم عن سماعه وإن كان واضحًا؛ لأن الهوى قد سيطر على آلة البصر والسمع، وتجاهل وجودهما وإدراكهما، وأصبح الهوى هو المتصرِّف والمسيطر، وأصبح صاحبه إنما يأتمر بهواه.

ولذا، فإن صاحب الهوى يظل يتخبط في مهاوي التيه والضلال، لا يَعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، لا يحق حقًّا، ولا يبطل باطلًا، إلا ما أشرب من هواه.

قال ابن كثير رحمه الله في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]؛ أي: إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنًا فعله، ومهما رآه قبيحًا تركه، ثم قال تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23]؛ أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئًا يَهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].

واتباع الهوى قد يكون سببه الحسد؛ كما حصل من اليهود مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين بعث من العرب؛ فقد صدهم الهوى عما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره على قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، قال بعد كلام ساقه رحمه الله: «وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مُشركي العرب، يقولون: اللهم ابعث هذا النبي، الذي نجده مكتوبًا عندنا؛ حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلذا قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89](4).

وقد يرجع اتِّباع الهوى إلى التكذيب والاستكبار والقتل بغير حق، فقد ذمَّ الله اليهود لاتِّباعهم لأهوائهم؛ قال جل وعلا: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].

ومما يحمل على اتباع الهوى: حب الرئاسة والحفاظ عليها، فيرى متبعه أن انقياده لبعض الأمور المحمودة والصالحة يفوت عليه بعض مصالحه الدنيوية المكتسبة من هذه الرئاسة، فيتركها إيثارًا لمصالحه الدنيوية.

وقد يحمل غيره ممن يجامله على ارتكاب بعض المحظورات، ويزين له ذلك ويشجعه، وإن كان يعلم في قرارة نفسه أن ما ارتكبه هذا الشخص محرم؛ كالرشوة والغيبة والنميمة؛ حيث يرى متبع الهوى أن له في ذلك مصلحة دنيوية، وأنه بإنكاره على هذا المجامل له يفوت على نفسه بعض المصالح، فيحمله اتباع الهوى على السكوت؛ بل على التشجيع؛ حفاظًا على رئاسته ومنزلته فيها.

وقد يزعم أنه مصلح وغيره ممن أتى بالحق مفسد؛ كما قال جل وعلا عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].

ومنها الجاه والمنزلة في المجتمع؛ فقد يُبتلى البعض من الناس بالحرص على هذه الأمور، والحفاظ عليها، فيرتكب بعض المنهيات تعصبًا؛ للحفاظ على هذه المنزلة، فلا يقبل التوجيه فيما يلاحظ عليه؛ لأنه يرى أن انصياعه لِما يُوَجَّه إليه يقلل من منزلته في عيون الآخرين، فيحمله ذلك على اتباع الهوى، مع معرفته ويقينه أن ما هو عليه باطل؛ إيثارًا للعاجل في الدنيا والزائل على الآجل في الآخرة والباقي.

ومنها الاغترار بالعلم؛ فقد يكون من أنصاف المتعلمين من يقول في مسألة مرجوحة، فيُعارضه غيره ممن لديه الدليل الراجح، وقد يكون من تلامذته، أو ممن هو أقل منه منزلة في العلم، إلا أن الدليل معه، فتثور ثائرة هذا المتعصب لرأيه؛ احتقارًا لمعارضه، وتعصبًا لرأيه؛ حفاظًا على سمعته، وهذا من البلوى لدى كثير من المتعلمين، مع أن من ثمرات العلم قبول الحق ممن جاء به، بصرف النظر عن منزلته؛ فالحكمة ضالة المؤمن، يأخذها أين وجدها.

العدو الثاني: النفْس:

ومن الأعداء التي تعترض العبد في هذه الدنيا النفس التي بين جنبيه وداخل كيانه، وهي العدو اللدود؛ لأنها تأمر بالسوء؛ ولذلك تُسمَّى بالنفس الأمارة بالسوء، فهي تميل للشهوات، وتكره القيود، وتحب الانفلات والتحرر من كل ما تمنع منه، وتضيق ذرعًا إذا ألزمت بأمر من الأمور.

 وقد تكلم ابن القيم رحمه الله عن أنواع النفس، وتكلم على كل نوع، فبعد أن ذكر صفة النفس المُطمئنة وصفة النفس اللوامة فقد ذكر صفة النفس الأمارة بالسوء، فقال رحمه الله: «وأما النفس الأمارة فهي المذمومة؛ فإنها التي تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق الله له، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]».

وقال رحمه الله: «وقد امتحن الله سبحانه الإنسان بهاتين النفسين؛ الأمارة واللوامة، كما أكرمه بالمطمئنة، فهي نفس واحدة، تكون أمارة ثم لوامة ثم مطمئنة، وهي غاية كمالها وصلاحها، وأيد المطمئنة بجنود عديدة، فجعل المَلَك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها، ويقذف فيها الحق ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته، ويزجرها عن الباطل، ويزهدها فيه».

إلى أن قال: «وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها وصاحبها الذي يليها، فهو يَعِدها ويمنِّيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها بالسوء، ويزينه لها، ويطيل في الأمل، ويُريها الباطل في صورة تقبلها وتستحسنها، ويمدها بأنواع الإمداد الباطل؛ من الأماني الكاذبة، والشهوات المهلكة، ويستعين عليها بهواها وإرادتها».

إلى أن قال رحمه الله: «والمقصود التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة واللوامة والأمارة، وما تشترك فيه النفوس الثلاثة، وما يتميز به بعضها من بعض، وأفعال كل واحدة منها، واختلافها، ومقاصدها، ونياتها، وفي ذلك تنبيه على ما وراءه، وهي نفس واحدة، تكون أمارة تارة، ولوامة أخرى، ومطمئنة أخرى، وأكثر الناس الغالب عليهم الأمارة، وأما المطمئنة فهي أقل النفوس البشرية عددًا، وأعظمها عند الله قدْرًا، وهي التي يُقال لها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر:28-30]»(5).

إن الله تعالى منح الإنسان الإرادة الحرة؛ ليضعه موضع الامتحان، فإذا عمل خيرًا فإنه سوف يرى خيرًا، ومن عمل شرًّا فإنه سوف يرى شرًّا؛ كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة:7-8].

ومن هذا نعلم أن منابع الخير والشر لدى الإنسان موجودة في زوايا نفسه، فكل ما يعمل من أعمال ظاهرة، سواء كانت أعمالًا صالحةً أو أعمالًا سيئةً، فهي ثمرة ونتيجة لحركات نفسه واندفاعاتها واتجاهاتها الجازمة.

العدو الثالث: الشيطان:

لا شك أن عداوة الشيطان للإنسان قديمة قِدَم الإنسان؛ فهو قد نصَب العداء له منذ أن خلق اللهُ آدم عليه السلام بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة بالسجود له، فرفض الشيطان أن يسجد؛ حسدًا لآدم عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].

لذا فقد أمرنا الله تعالى بأن نتَّخذ الشيطان عدوًّا؛ فقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].

وعداوة الشيطان لابن آدم ظاهرة، ومسالكه في ذلك كثيرة؛ قال تعالى إخبارًا عن إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف:16-17].

فالشيطان حريص، يبذل جهده في إغواء العباد وصدهم عن صراط الله المستقيم بكل ما يستطيع، فما من طريق خير إلا وله فيه صدٌّ واعتراض وتثبيط، وما من طريق شرٍّ إلا وله فيه ترغيب وتسهيل وتزيين وحثٌّ وتشجيع، فهو حريص على إيقاع بني آدم معه في النار، فيُحسِّن لهم الكفر والمعاصي، ويَعِد ويُمنِّي؛ قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]، وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48]، وقال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]؛ فالشيطان يَعد ويمنِّي، فإذا وقع العبد في حبائله تخلَّى عنه وتبرأ منه.

مظاهر عداوة الشيطان للإنسان كثيرة جدًّا، فمنها:

- الوسوسة.

- التحريش وإيقاع العداوة بين المسلمين.

- الصد عن ذكر الله تعالى.

- الغضب والشهوة.

- العجلة وترك التثبت.

- الشبع من الطعام.

- التكاسل في الطاعات وارتكاب المحرمات.

- الرفيق السيئ.

- البخل.

- الحسد.

- التعصب للهوى والمذاهب، وغيرها من المداخل التي لا يسع المقام للتفصيل فيها.

فالعاقل، الناصح لنفسه، عليه أن يعرف عدوه الذي حذَّره الله منه، فلا ينخدع بما يُزيِّن له الشيطان من معاصٍ؛ فهو عدو، يوقع في المعصية ويتبرأ ممن وقع في فخه؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].

فينبغي للعبد أن يتسلح بسلاح الإيمان، وأن يكون حذرًا من هذا العدو في جميع أحواله، وأن يكون متمسكًا بكتاب ربه وسنَّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

كما يجب عليه أن يكون معتدلًا في أموره، لا إفراط ولا تفريط، سادًّا على الشيطان جميع المنافذ التي يمكن أن يدخل عليه منها؛ فإن الشيطان يشمُّ منافذ الضعف في العبد فيأتيه منها، فقد يأتيه عن طريق الطاعة إذا لم يقدر عليه من طرق المعصية، فيشككه في عمله، ويقلل من شأنه وإن كان متفقًا مع ما جاء به الشرع، فيأمره بالزيادة والغلو حتى يخرج مما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

يقول أحد السلف: «لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف»؛ لما هو فيه من لذة الطاعة وطمأنينة النفس، بخلاف ما عليه أصحاب المعاصي من شقاء وعناء وتعب ونكد عيش، وإن تلذذ أحدهم ببعض الشهوات والمأكولات ومجالس الترفيه فتلك قشور يشاركه فيها معظم الحيوانات، وسرعان ما تذبل وتتبدل بأضدادها، وصاحبها في وقتها في قلق عليها، يخاف من زوالها أو زواله عنها، فيلقى الله وهو على تلك الحال السيئة، قد ختم له بخاتمة سوء، فهو لا يدري متى تزول أو يزول عنها، هذا إذا كان لديه عقل يميز به.

أما إن كان قد غرق في بحر الجهل وأنتان المعاصي، واسْوَدَّ قلبه من المعاصي، وران عليه ما كسب، فهو الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا؛ يقول جل وعلا: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].

ولا شك أن للطاعات أثرًا في سعادة العبد في حياته، وللمعاصي تأثيرًا على العبد في حياته، يعرف ذلك من اتصف بصفات أهل السعادة، ومن اتصف بصفات أهل الشقاوة، والسعيد من وفقه الله واختار لنفسه سعادة الدنيا والآخرة، والشقي من اختار لنفسه طريق الشقاوة فخسر دنياه وأخراه.

واعلم أن الله لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فقد بين الله سبحانه وتعالى طريق السعادة، ورغب في سلوكه، وطريق الشقاوة ونهى وحذر من سلوكه؛ يقول جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، ويقول سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} [طه:123-126].

فالحياة الطيبة والحياة السعيدة هي حياة الطاعة لله، والإقبال عليه، والأنس به جل وعلا.

ونكد العيش، وشقاء الحياة في ارتكاب المعاصي والإعراض عن الله.

والعبد لن يؤتى إلا من قبل نفسه؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة:7-8]، فعليه أن يحتاط لنفسه؛ بعمل الصالحات، والبعد عن الموبقات، ويَطَّرِح بين يدي مولاه ومالكه، ويتضرع إليه بأن يوفقه لعمل الصالحات، وأن يجنبه السيئات، حتى يفوز بخيري الدنيا والآخرة؛ يقول جل وعلا: {إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:29](6).

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»(7).

فالعبد في هذه الحياة أمامه فرصة للعمل، والعمل يحتاج إلى صيانته عن المؤثرات، فعلى العبد أن يغتنم فرصة العمل؛ فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.

علاج الهوى بالخوف والخشية والمعرفة:

قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقَلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس، التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقَلَّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى، ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة، فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبير بدوائها، وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها، ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى، فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته، ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها، وأن يستعين في هذا بالخوف، الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب(8).

قال المناوي: «بقدر قلة الخوف يكون الهجوم على المعاصي، فإذا قَلَّ الخوف جدًا واستولت الغفلة كان ذلك من علامة الشقاء، ومن ثم قالوا: المعاصي بريد الكفر»(9).

ولا يقتصر خطر ضعف الخشية من الله تعالى على إعطاء الفرصة للمعصية لتنتصر على النفس؛ بل هذا السقوط في صراع المعصية يضر بما للنفس من رصيد الحسنات، فعن ثوبان رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: «لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا»، قال ثوبان: «يا رسول الله، صفهم لنا، جلهم لنا ألَّا نكون منهم ونحن لا نعلم!»، قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم, ويأخذون من الليل كما تأخذون, ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»(10).

وإذا كان ضعف الخشية من الله تعالى داء، فخير دواء للمعاصي، معاصي السر ومعاصي العلانية، هو زيادة قوة الخشية من الله تعالى في القلب، قال في فيض القدير: «القلب إذا امتلأ من الخوف أحجمت الأعضاء جميعها عن ارتكاب المعاصي»(11).

ودواء الخشية مركب من عنصرين؛ من الخوف الذي يأتي من تذكير النفس بالعقوبة، والتفكر فيما توعد الله تعالى به العاصين في الدنيا والآخرة، وأخذ العبرة ممن نزل بهم عقاب الله تعالى؛ كفرعون الذي قال الله تعالى فيه: {فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:25]، قال عز وجل، بعد أن ذكر ما وقع بفرعون من العذاب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} [النازعات:26].

فإن أضيف إلى هذا الخوف العنصر الآخر، وهو المعرفة بما لله تعالى من صفات تثير في القلب محبته سبحانه ومحبة طاعته، وصفات تنبه القلب إلى ما يستحقه عز وجل من إجلال وتوقير، وما يتصف به سبحانه من صفات تورث في القلب الحياء؛ كصفة السمع والبصر والعلم، وما يتصف به سبحانه من صفات تثير الوجل؛ كصفة القوة والغضب والعدل، مع المعرفة بآثار الذنوب والمعاصي القبيحة، وأضرارها في الدنيا والآخرة؛ صار الخوف خشية، وكان علاجًا للمعاصي نافعًا ودواءً واقيًا بإذن الله تعالى.

فالخشية خوف مقرون بمعرفة، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله، إني لأعلمكم بالله عز وجل، وأتقاكم له قلبًا»(12)، وفى رواية «خوفًا»، فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء(13).

قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28]؛ أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر(14).

وقد رتب الله عز وجل حصول الخشية في القلب على معرفة الله عز وجل؛ إذ قال تعالى فيما وصى به موسى عليه السلام ليقوله لفرعون: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19]؛ أي: أرشدك إلى عبادته وتوحيده فتخشى عقابه، والفاء لترتيب الخشية على الهداية؛ لأن الخشية لا تكون إلا من مهتد راشد(15).

وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الله تعالى أن يرزقه خشيته في السر والعلانية، مع أنه صلى الله عليه وسلم أخشى الناس وأتقاهم، فعن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: «وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة»(16).

وقال المناوي: «فإن حصل للعبد غفلة عن ملاحظة خوفه وتقواه؛ فارتكب مخالفة مولاه، لجأ إلى التوبة ثم داوم الخشية»(17).

ولخشية الله تعالى فضل عظيم، لكن خشية الله تعالى في السر أعظم قدرًا من الخشية في العلانية؛ ولهذا خصها الله تعالى بالذكر في عدد من الآيات، كما في قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق:33]، قال القرطبي: «الخشية بالغيب أن تخافه ولم تره، وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين لا يراه أحد، وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب»، وقال المناوي: «إن خشية الله رأس كل خير، والشأن في الخشية في الغيب لمدحه تعالى من يخافه بالغيب»(18).

ومع ذلك فخشية الله واجبة في السر والعلانية، والظاهر والباطن، والغيب والشهادة على السواء، قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]، عن قتادة قال: «المراد سر الفواحش وعلانيتها»(19).

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت...»(20)، ومعنى «حيثما كنت»؛ أي: وحدك أو في جمع...، أو المراد: في أي زمان ومكان كنت فيه، رآك الناس أم لا، فإن الله مطلع عليك(21).

وخشية الله تعالى من المنجيات، التي تنجي العبد من مهالك الذنوب والمعاصي في الدنيا والآخرة، قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث مُنجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية, والعدل في الرضا والغضب, والقصد في الفقر والغنى»(22).

وأما أجر الذين يخشون ربهم فقد تكرر ذكره في الكتاب والسنة مرات عدة، لا سيما أولئك الذين يخشون الله تعالى في السر، فخشية الله تعالى من صفات السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظل عرشه وكرامته وحمايته حين يشتد الكرب بالناس يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام: «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله...، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله...»(23)(24).

الطرق العملية التي تساعدك على مجاهدة نفسك:

1- استغلال الوقت: فعليك استغلال وقتك في كل مفيد في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»(25).

وتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد؛ يرجع أهله وماله، ويبقى عمله»(26)، فاستغل وقتك في كل عمل يفيدك في دنياك وآخرتك، فخير الناس من طال عمره وحسن عمله.

2- معرفة أخبار المجتهدين: وخير المجتهدين هو خير المرسلين صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا»(27)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر؛ أي الأواخر من رمضان، أحيا الليل، وأيقظ أهله وجد، وشد المئزر.

كما ورد عن ابن عمر أنه فاتته صلاة في جماعة فأحيا الليل كله تلك الليلة، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع، قال ابن المبارك: «إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوًا، وإن أنفسنا لا تواتينا إلا كرهًا»(28).

3- مصاحبة الأخيار: قال الشاعر:

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم       ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

فالرفقة الصالحة لها أثر كبير في استقامة النفس، وتحليها بالعادات الحسنة.

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه       فكل قرين بالمقارن يقتدي(29).

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»(30)، وقال الله تعالى في شأن الصحبة الصالحة: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].

وقد كتبت أُمٌّ هذه الآية وعلقتها على باب غرفة ابنتها المراهقة؛ لتذكرها دائمًا بالصحبة الصالحة، والابتعاد عن الصحبة السيئة.

قال بعضهم: «كنت إذا رأيت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع، وكان وجهه كأنه وجه ثكلى».

وقد كان عامر بن عبد قيس يصلي كل يوم ألف ركعة، وكان الأسود بن يزيد يصوم حتى يخضر ويصفر، وحج مسروق فما نام إلا ساجدًا، وكان داود الطائي يشرب الفتيت مكان الخبز، ويقرأ بينهما خمسين آية...، ودخلوا على زَحْلَة العابدة فكلموها بالرفق بنفسها فقالت: «إنما هي أيام مبادرة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غدًا، والله، يا أخوتاه لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي»(31).

4- الاستعانة بالله: قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز»(32)، فاستعن أخي بالله على الطاعة وعلى أعمال الخير فهو خير معين.

5- كثرة السجود: عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: «سلني»، فقلت: «أسألك مرافقتك في الجنة»، فقال: «أو غير ذلك؟»، قلت: هو ذاك، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود»(33).

6- الدعاء: مما يساعدك أيضًا على المجاهدة الدعاء، فكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»(34)، وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].

طرق الوقاية من الشيطان الرجيم:

من رحمة الله سبحانه ألا يدع الإنسان فريسة لهذا الشيطان، وإنما زوده بوسائل الحماية والوقاية منه، ثم هيأ له وسائل الإفلات إن وقع في الفخ وخرج عن الصراط المستقيم، فمن ذلك:

1- الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة: مصداق ذلك قول الله تعالى: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة:15-16].

2- واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى كنفتي الصراط سوران، لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو فوق الصراط، فالصراط المستقيم الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، فلا يقع أحد في حدّ من حدود الله حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم»(35)، فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة أو نور الفطرة.

3- مدد الملائكة: ثم يؤيد الله عباده المخلصين بجند من الملائكة يثبتونهم، ويأمرونهم بالخير، ويحضونهم عليه، يعدون العبد بكرامة الله تعالى ويصبرونه على البلاء، ويبشرونه بثواب الله وعظيم فضله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31)} [فصلت:30-31].

4- الدعاء والاعتصام بالله: تشتد حاجة العبد أن يسأل ربه أن يهديه إلى هذا الصراط المستقيم، وكان سؤال هذه الهداية أوجب دعاء على كل عبد، وقد أوجبه الله عليه كل يوم وليلة بقوله تعالى في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة:6-7]، ويردد المسلم ذلك بعدد ركعات صلاة كل يوم، حتى يأتيه اليقين لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة(36)، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].

5- الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم: إن العبد إذا لجأ إلى الله تعالى واستعاذ به من شر هذا الشيطان فإنه سرعان ما يخنس ويهرب، ويتركه وشأنه، ومن ثم تتاح له فرصة الرجوع إلى الصراط المستقيم.

***

_____________

(1) مداواة النفوس، ص19.

(2) مجموع الفتاوى (7/ 174).

(3) المصدر السابق (13/ 61).

(4) تفسير ابن كثير (1/ 326).

(5) الروح، ص167.

(6) أخرجه مسلم (2742).

(7) الأعداء الثلاثة.. الهوى والنفس والشيطان، شبكة الألوكة.

(8) في ظلال القرآن (6/ 3819).

(9) فيض القدير (1/ 295).

(10) أخرجه ابن ماجه (4245).

(11) فيض القدير (2/ 132).

(12) أخرجه أحمد (24319).

(13) مدارج السالكين (1/ 512-513).

(14) تفسير ابن كثير (6/ 544).

(15) تفسير فتح القدير (5/ 454).

(16) أخرجه النسائي (1305).

(17) فيض القدير (3/ 307).

(18) المصدر السابق (2/ 146).

(19) فتح الباري (8/ 302).

(20) أخرجه الترمذي (1987).

(21) فيض القدير (1/ 120).

(22) صحيح الجامع الصغير (3039).

(23) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).

(24) صراع النفس والمعصية.. قصة نجاح، موقع: المسلم.

(25) أخرجه البخاري (6412).

(26) أخرجه النسائي (1937).

(27) أخرجه البخاري (4837).

(28) مختصر منهاج القاصدين، ص427.

(29) شخصية المرأة المسلمة، ص132.

(30) أخرجه أبو داود (4833).

(31) مختصر منهاج القاصدين، ص427-428.

(32) أخرجه مسلم (6945).

(33) أخرجه مسلم (1122).

(34) أخرجه أبو داود (1522).

(35) أخرجه أحمد (17634).

(36) مدارج السالكين (1/ 63).