logo

الدعاة والتكافل الاجتماعي


بتاريخ : الأربعاء ، 17 رمضان ، 1440 الموافق 22 مايو 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة والتكافل الاجتماعي

التكافل الاجتماعي هو قاعدة المجتمع الإسلامي، والداعية ما هو إلا عضو في مجتمع متعدد الطبقات؛ فيه الغني والفقير، والمُوسِر والمُعْسِر، فعندما نتحدث عن التكافل الاجتماعي في الإسلام، يجب أن نعلم أننا نعالج عضوًا في جسد، وجزءًا من كل؛ فالتشريع الإسلامي بينما يعالج قضايا الحياة المختلفة، اجتماعية كانت أو اقتصادية، فإنه يبقى دائمًا نسيجًا محكمًا لا ينفصل فيه جانب عن الجوانب الأخرى؛ بل إن التشريعات الإسلامية كلَّها لا تنفصل عن الإسلام، الكل، وبالتالي لا بد للتشريعات أن تقوم فوق عقيدةٍ نقية، وأن ترتبط بالجوانب الأخلاقية والعبادية.

لذلك فالإسلام يتسم بالتوازن والوسطية في التعامل المادي والاجتماعي؛ فلا يطغى حق الفرد على الجماعة، ولا الجماعة على الفرد، فليست اشتراكية عبثية ولا رأسمالية متسلطة.

وأمة الإسلام أمة وسط، لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته، إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه.

ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق(1).

والتكافل الاجتماعي نوع من التقعيد النظري الرحيم للأسس الصالحة لقيام المجتمع البشري المتماسك، الذي لا تقوم العلاقة فيه على أساس القواعد التشريعية فحسب، حتى مع شمولية هذه القواعد وسموها؛ بل قد توجب بعض الحالات الارتفاع فوق هذه القواعد؛ وذلك مثلما فعل الأنصار مع المهاجرين عندما شاركوهم في دُورِهم وأموالهم؛ بل وقد عرض الأنصار على إخوانهم المهاجرين أن يقتسموا معهم هذه الأموال والعقارات مناصفةً، فهذا نوع من الإيثار والتكافل لم يجعله الشرع فرضًا، وتركه للمستوى الأخلاقي للمسلمين في ظل معاني الرحمة والأخوة الإسلامية.

البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد.

وما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله، أفرادًا وجماعات، في مالهم ورزقهم، وفي صحتهم وقوتهم، وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم.

والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية هم الذين لا يريدون أن يروا؛ لأن لهم هوى في عدم الرؤية! أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدًا وقصدًا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت، فضغطوا عن رؤية الحقيقة! {وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276](2).

ومن العجيب أن الأنصار لم يعطوا ما أعطوا استشعارًا منهم بواجب شرعي تمليه عليهم قواعد تشريعية، وإنما فعلوه بنوع غريب من الحب، ودرجة كبيرة من الإيثار، خالية تمامًا من مشاعر الأثرة والشح؛ قال تعالى في تصوير هذه الحالة الفريدة في التاريخ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

ومن هذا نعلم أن التعامل مع الجوانب الاجتماعية في الإسلام يقف فوق أرضيةٍ عقدية وفكرية ونفسية وأخلاقية معيَّنة، وأن الداعية يعالج هذه القضايا في إطار مفاهيمه الإيمانية الكلية؛ فهو لا يقوم بها لأنها أوامر قانونية، ولا قضايا مصلحية عامة، يتبادل فيها الفرد والمجتمع الخدمات بطريقة جدلية تبادلية، وقد تنتهي هذه العلاقة بمجرد الشعور بانقضاء المصلحة، أو بالتحايل على القانون، فالأصل العقدي والعبادي للقضايا الاجتماعية في الإسلام، والمنهج الذي يجعلها جزءًا من كل لا تنفصل عنه، هذا الأصل وهذا المنهج يجعلان للتكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم قسمات خاصة، ينفرد بها عن كل النظريات الاجتماعية التي ظهرت في القديم والحديث(3).

والتكافل في الإسلام يمثل فكرة متقدمة، تتجاوز مجرد التعاون بين الناس أو تقديم أوجه المساعدة وقت الضعف والحاجة.

ومبناه ليس الحاجة الاجتماعية التي تفرض نفسها في وقت معين أو مكان بعينه، وإنما يستمد التكافل الاجتماعي في الإسلام مبناه من مبدأ مقرر في الشريعة، وهو مبدأ الولاية المتبادلة بين المؤمنين في المجتمع، يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

فالإنسان في التصور الإسلامي، لا يعيش مستقلًا بنفسه، منعزلًا عن غيره، وإنما يتبادل مع أفراد المجتمع الآخرين الولاية، بما تعنيه من الإشراف والتساند والتكافل في أمور الحياة، وفي شئون المجتمع.

والتكافل في الإسلام، يعني التزام القادر من أفراد المجتمع تجاه أفراده, قال تعالى في وصف المؤمنين الصالحين {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان معه فضل ظهر فَلْيُعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل»(4).

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم)»(5).

فقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يفعله الأشعريون إذا أرملوا، وبشرهم بأنه منهم وهم منه، وهذا دليل على أنه لا يريد أن يكون المجتمع طبقتين: طبقة مترفة تكدس الأموال في جيوبها، وطبقة معوزة لا تجد غنى يغنيها، وفي ذلك من الفساد ما فيه(6).

وقد صح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة رضي الله عنهم أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم أيها على السواء، قال ابن حزم: «فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم»(7).

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: «من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس»، أو كما قال، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي بعشرة(8)، قال ابن حجر في فتح الباري: «وفيه التوظيف في المخمصة»(9).

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مسئولية المجتمع عن كل فرد محتاج فيه، في عبارة قوية في إنذارها للفرد والمجتمع: «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع»(10).

لقد كان عام الرمادة بمثابة الاختبار لواقعية هذا النظام، ولمقدرته على تجاوز الأزمات، ولقد كان للفاروق عمر بن الخطاب مواقف رائعة جدًا في ذلك، تعكس عظمة الإسلام وروعة نظامه.

كتب عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص عام الرمادة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، إلى العاصي بن العاصي، سلام عليك، أما بعد، أفتراني هالكًا ومن قبلي، وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثًا»، ثلاثًا(11).

وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب حرم على نفسه اللحم عام الرمادة حتى يأكله الناس(12).

وعن ابن عمر أن عمر قال: «لو لم أجد للناس من المال ما يسعهم إلا أن أدخل على كل أهـل بيت عدتهم فيقاسمونهم أنصاف بطونهم حتى يأتي الله بحيا فعلت، فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم»(13).

وقال رضي الله عنه: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين»، قال ابن حزم في إسناد هذا الأثر: «إسناده في غاية الصحة والجلالة»(14).

وعن علي بن أبي طالب: «إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه»(15).

وهنا يسأل بعض المسلمين: {ماذا يُنْفِقُونَ} وهو سؤال عن نوع ما ينفقون، فجاءهم الجواب يبين صفة الإنفاق، ويحدد كذلك أولى مصارفه وأقربها: {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ}.

ولهذا التعبير إيحاءان: الأول إن الذي ينفق خير، خير للمعطي، وخير للآخذ، وخير للجماعة، وخير في ذاته، فهو عمل طيب، وتقدمة طيبة، وشيء طيب.

والإيحاء الثاني أن يتحرى المنفق أفضل ما عنده فينفق منه، وخير ما لديه فيشارك الآخرين فيه، فالإنفاق تطهير للقلب، وتزكية للنفس، ثم منفعة للآخرين وعون.

وتحري الطيب والنزول عنه للآخرين هو الذي يحقق للقلب الطهارة، وللنفس التزكية، وللإيثار معناه الكريم.

على أن هذا الإيحاء ليس إلزامًا، فالإلزام، كما ورد في آية أخرى، أن ينفق المنفق من الوسط، لا أردأ ما عنده ولا أغلى ما عنده، ولكن الإيحاء هنا يعالج تطويع النفس لبذل ما هو خير، والتحبيب فيه، على طريقة القرآن الكريم في تربية النفوس، وإعداد القلوب.

أما طريق الإنفاق ومصرفه فيجيء بعد تقرير نوعه: {فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

وهو يربط بين طوائف من الناس، بعضهم تربطه بالمنفق رابطة العصب، وبعضهم رابطة الرحم، وبعضهم رابطة الرحمة، وبعضهم رابطة الإنسانية الكبرى في إطار العقيدة، وكلهم يتجاوزون في الآية الواحدة: الوالدون، والأقربون، واليتامى والمساكين وابن السبيل، وكلهم يتضامنون في رباط التكافل الاجتماعي الوثيق بين بني الإنسان في إطار العقيدة المتين.

ولكن هذا الترتيب في الآية وفي الآيات الأخرى، والذي تزيده بعض الأحاديث النبوية تحديدًا ووضوحًا؛ كالذي جاء في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا...»(16).

هذا الترتيب يشي بمنهج الإسلام الحكيم البسيط في تربية النفس الإنسانية وقيادتها، إنه يأخذ الإنسان كما هو، بفطرته وميوله الطبيعية واستعداداته، ثم يسير به من حيث هو كائن، ومن حيث هو واقف! يسير به خطوة خطوة، صعدًا في المرتقى العالي، على هينة وفي يسر فيصعد وهو مستريح، هو يلبي فطرته وميوله واستعداداته، وهو ينمي الحياة معه ويرقيها.

لا يحس بالجهد والرهق، ولا يكبل بالسلاسل والأغلال ليجر في المرتقى! ولا تكبت طاقاته وميوله الفطرية ليحلق ويرف، ولا يعتسف به الطريق اعتسافًا، ولا يطير به طيرانًا من فوق الآكام، إنما يصعدها به صعودًا هينًا لينًا، وقدماه على الأرض، وبصره معلق بالسماء، وقلبه يتطلع إلى الأفق الأعلى، وروحه موصولة بالله في علاه.

ولقد علم الله أن الإنسان يحب ذاته، فأمره أولًا بكفايتها قبل أن يأمره بالإنفاق على من سواها، وأباح له الطيبات من الرزق، وحثه على تمتيع ذاته بها في غير ترف ولا مخيلة، فالصدقة لا تبدأ إلا بعد الكفاية(17).

وفي أحكام القرآن لابن العربي: «وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم؛ وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذلك إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة نظر، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم»(18).

وقال القرطبي: «واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة يجب صرف المال إليها، قال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، وهذا إجماع، وهو يقوي ما اخترناه»(19).

قال ابن تيمية رحمه الله: «فأما إذا قدر أن قومًا اضطروا إلى سكنى في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكانًا يأوون إليه، إلا ذلك البيت فعليه أن يسكنهم، وكذلك لو احتاجوا إلى أن يعيرهم ثيابًا يستدفئون بها من البرد، أو إلى آلات يطبخون بها، أو يبنون أو يسقون يبذل هذا مجانًا، وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلوًا يستقون به أو قدرًا يطبخون فيها، أو فأسًا يحفرون به، فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره، والصحيح وجوب بذل ذلك مجانًا إذا كان صاحبها مستغنيًا عن تلك المنفعة وعوضها، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ (7)} [الماعون:4-7]، وفي السنن عن ابن مسعود قال: «كنا نعد الماعون عارية الدلو والقدر والفأس»(20).

ومن صور التكافل الاجتماعي في الإسلام ما شرعه الله من وجوب نفقة الأقارب الفقراء على القريب الغني، فنفقة الزوجة على الزوج، والأبناء على الأب، ونفقة الوالدين الفقيرين على الولد القادر، ونفقة الأخ الفقير أو المحتاج على أخيه الذي يرثه، وقد وسَّع بعض علماء المسلمين في شأن نفقة الأقارب، حتى تصل إلى ذوي الأرحام.

ومن صور التكافل الاجتماعي أحكام الديات في القتل الخطأ، فإن الدية تجب لورثة القتيل، وقد يكونون صغارًا، فتعينهم على مواجهة الحياة بعد فقد مورثهم.

ويتشارك أقرب العصبة إلى القاتل خطأ في دفع الدية إلى ورثة المقتول، والدية هنا تمثل ضمانًا من المجتمع لورثة المقتول، فلا يضيع دم إنسان هدرًا في مجتمع مسلم.

ولا يقتصر التكافل الاجتماعي في الإسلام على الجوانب المادية فحسب؛ بل يمتد إلى ما يعد تعاونًا شاملًا على البر، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2](21).

فالمسلمون متآلفون متعاونون, يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.

وسائل الإسلام في تحقيق التكافل:

لقد شرع الإسلام من الوسائل والنظم ما يحقق التكافل الاجتماعي، ومن ذلك:

الوسائل المنوطة بأفراد المجتمع:

أناط الإسلام بالأفراد عددًا من هذه الوسائل، وجعل بعضها إلزاميًا، وترك البعض الآخر للتطوع، ومن هذه الوسائل الفردية الإلزامية التي شرعها الإسلام لتحقيق التكافل ما يلي:

1- فريضة الزكاة:

وهي من أهم هذه الوسائل، وهي فريضة إلزامية فرضها الله على المسلم دينًا، وجعل للدولة الحق في أخذها منه قهرًا إذا هو امتنع عن أدائها.

وتأتي أهمية الزكاة من حيث شمولها لمعظم أفراد المجتمع، ومن حيث أهمية المقدار الذي تمثله من الثروة العامة، حيث تمثل 2.5% من مجموع الأموال، وهي نسبة كفيلة، لو نظمت، بأن تحل كثيرًا من المشاكل الاجتماعية الناتجة عن الفقر، وأن تسهم في الحد منه، ومن ثم كان لها تأثيرها الحيوي في إشاعة التكافل، هذا فضلًا عن آثارها المعنوية؛ حيث تنفي من المجتمع الأحقاد والبغضاء، الناتجة عن انقسام الناس إلى مالكين لا يعبئون بغيرهم، ومحرومين لا يُعبأ بهم.

2- الكفارات:

وهي ما فرضه الإسلام على المسلم لارتكابه بعض المحظورات، أو تركه بعض الواجبات؛ ككفارة اليمين إذا حلف المسلم بالله فحنث، وكفارة الفطر عمدًا بدون عذر مقبول شرعًا في نهار رمضان، وغيرها.

ومن بعض مصارف هذه الكفارات إطعام الطعام لعدد من المساكين، ومن هنا كانت وسيلة لتحقيق التكافل، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].

3- صدقة الفطر:

وهي صدقة يجب إخراجها يوم عيد الفطر بعد شهر رمضان، ومقدارها صاع من غالب قوت البلد، وهي واجبة على كل مسلم: الرجل والمرأة، والصغير والكبير.

4- إسعاف المحتاج:

حيث يلزم على من عَلِم بأن جاره جائع ولا يجد ما يأكل أن ينقذه إذا كان ذلك في استطاعته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس بالمؤمن الذي يبيت شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه»(22).

الوسائل الفردية التطوعية:

وإذا كان الإسلام قد أرسى وسائل إلزامية للتكافل فإنه أيضًا فتح الباب أمام التطوع، وذلك من خلال تشريعه لوسائل التكافل الطوعية، والتي منها:

1- الوقف:

فقد شرع الإسلام الوقف وجعله من أفضل الأعمال، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(23).

ومعنى الوقف: أن يتبرع المسلم بعين تبقى لمدة من الزمن لجهة معينة، شريطة عدم التصرف في العين، مع الاستفادة من منافعها وغلاتها، وذلك كعمارة سكنية أو أرض زراعية أو غير ذلك.

وقد عرف الوقف في التاريخ الإسلامي بكثرته، وتنوع مصادره، وتعدد أهدافه وجهاته، حيث شكل مرفقًا حيويًا للمجتمع، يقوم، حتى اليوم، بالوظائف العامة والأمن والرعاية الاجتماعية للفئات المحتاجة.

2- الوصية:

وهي أن يوصي الشخص، عند موته، بنسبة من ماله لشخص معين، أو جهة معينة، أو جماعة من الناس بأعيانهم أو بأوصافهم، أو أي جهة من جهات الخير.

وقد رغب الإسلام في الوصية، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].

إلا أن الإسلام وازن بين حقوق الورثة والموصى إليهم؛ حيث منع الوصية بأكثر من الثلث؛ اعتبارًا لحق الورثة، ومراعاة لظروفهم بعد الميت، وقد سأل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني رجل ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأوصي بثلثي مالي?»، قال: «لا»، فقال سعد: «بالشطر؟»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا»، ثم قال: «الثلث والثلث كبير، أو كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تتبغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك»(24).

3- العارية:

وهي تمكين الشخص غيره من استخدام إحدى وسائله مجانًا، شريطة أن يردها له، وقد حث الإسلام على هذا الأسلوب من التعاون والتكافل؛ لما له من آثار إيجابية وبناءة في غرس المحبة بين أفراد المجتمع، وفي تقوية العلاقات الاجتماعية وإقامتها على المشاركة والتعاون، وأنكر على من يمنع هذا الحق ما دام لا يلحق به ضرر، وجعلها من الصفات التي يستحق بها صاحبها العقوبة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون:4-7].

وجعل الإسلام في مقابل هذا الحق وجوب الوفاء بالجميل للمعير برد أدواته إليه، مع المحافظة عليها وصيانتها من التلف، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8](25).

4- الهدية والهبة:

وقد حث الإسلام على تبادل الهدايا، ذاكرًا دورها في تقوية النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الألفة والمودة بين أفراد المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا»(26).

5- كفالة اليتيم:

فكفالة اليتيم من الأمور التي حث عليها الشرع الحنيف، وجعلها من الأدوية التي تعالج أمراض النفس البشرية، وبها يتضح المجتمع في صورته الأخوية التي ارتضاها له الإسلام.

على أنه لا بد أن يتنبه أن كفالة اليتيم ليست في كفالته ماديًا فحسب؛ بل الكفالة تعني القيام بشئون اليتيم من التربية والتعليم والتوجيه والنصح، والقيام بما يحتاجه من حاجات تتعلق بحياته الشخصية، من المأكل والمشرب والملبس والعلاج ونحو هذا.

وكفالة اليتيم من أعظم أبواب الخير التي حثت عليها الشريعة الإسلامية، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215].

وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].

ووردت أحاديث كثيرة في فضل كفالة اليتيم والإحسان إليه، منها: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا»، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما(27)، قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: «قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك»(28).

***

_________________

(1) في ظلال القرآن (1/ 131).

(2) المصدر السابق (1/ 328).

(3) إطار التكافل الاجتماعي الإسلامي، شبكة الألوكة.

(4) أخرجه مسلم (4538).

(5) أخرجه البخاري (2486)، ومسلم (2500).

(6) نظرية الضرورة، لجميل مبارك، ص342.

(7) المحلى (6/ 158).

(8) أخرجه البخاري (3581).

(9) الفتح (6/ 600).

(10) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (112).

(11) الطبقات، لابن سعد (3/ 310).

(12) المصدر السابق (3/ 313).

(13) المصدر السابق (3/ 316).

(14) المحلى (6/ 158).

(15) التفسير من سنن سعيد بن منصور (5/ 109).

(16) أخرجه مسلم (997).

(17) في ظلال القرآن (1/ 222).

(18) أحكام القرآن (1/ 59-60).

(19) تفسير القرطبي (2/ 242).

(20) مجموع الفتاوى (28/ 98).

(21) الإسلام والتكافل الاجتماعي، موقع: صيد الفوائد.

(22) أخرجه الحاكم في المستدرك (2166).

(23) أخرجه مسلم (1631).

(24) أخرجه البخاري (1295).

(25) رؤية إسلامية للتكافل، موقع: الخطيب الداعية.

(26) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594).

(27) أخرجه البخاري (6005).

(28) فتح الباري (10/ 536).