logo

البعد التربوي للهجرة


بتاريخ : الأحد ، 22 محرّم ، 1446 الموافق 28 يوليو 2024
البعد التربوي للهجرة

إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدعًا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظًا عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا صلى الله عليه وسلم للهجرة. 

وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته (1).

قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، لم يهاجر للنجاة، ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة، إنما هاجر إلى ربه، هاجر متقربًا له ملتجئًا إلى حماه، هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه، هاجر إليه ليخلص له عبادته ويخلص له قلبه ويخلص له كيانه كله في مهجره، بعيدًا عن موطن الكفر والضلال، بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال.

وعوض الله إبراهيم عن وطنه وعن قومه وعن أهله- عوضه عن هذا كله ذرية تمضي فيها رسالة الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكل الأنبياء وكل الدعوات بعده كانت في ذريته، وهو عوض ضخم في الدنيا وفي الآخرة (2).

وإنه لمن المـؤسف حقًا -ولعل هـذا من ثمرات التخلف أو القراءة المتخلفة للظواهر الاجتـماعية- ألا نرى من الهجرة إلا الوجه السلبي، ونرصد ظواهرها، ونتألم لآثارها على بلادها، دون أن نبصر أسبابها الحقيقية، وأبعادها الإيجابية، ونتائجها الممكنة، ورسالتها الحضارية، ومردودها على بلدها ومهجرها، وكيفية تحويلها من نقمة -عند من لا يرى إلا الوجه المظلم- إلى نعمة، بما تمتلك من رصيد علمي ومعرفي وتخصصي وخبراتي، ذلك أن التحركات البشرية وموجات الهجرة من سنن الاجتماع.

إن فقه الهجرة وكيفية تنـزيل أحكامها على واقع الناس، والوعي بظروفها وتداعياتها، ووضوح البعد الرسالي للمهاجر في وطنه وفي بلد المهجر على سواء، ليس بالأمر الهين، وقرارها ليس بالأمر السهل، وقد أتينا على أنموذجين من السيرة، في الأول توعد ووعيد للمتخلفين عن الهجرة، واعتبار ذلك مدعاة لسخط الله وعذابه: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، لأن في الهجرة جهادًا ونصرة وسعة ومراغمة للعدو، وفي الثاني نهي عن الهجرة، واعتبار البقاء والمجاهدة والبناء والمدافعة جهاد: «فلا هـجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (3)، وفي كلا الأمرين كان التأكيد على النية، التي تمثل البعد الرسالي، واضحًا وحائلًا دون الحركة العشوائية أو ذات المنفعة القريبة.

قال الطيبي رحمه الله: كانت الهجرة من مكة إلى المدينة، فلما فتح مكة انقطعت تلك الهجرة المفروضة، فلا تنال بالهجرة تلك الدرجة التي حصلت للمهاجرين، لكن ينال الأجر بالجهاد وإحسان النية، وأما الهجرة التي تكون لصلاح دين المسلم فإنها باقية مدى الدهر (4). 

ومما لا شك فيه أن السعي في هداية الناس واستنقاذهم من الضلال، ونشر التوحيد، ومحاربة الفساد، وتحرير الأوطان؛ لا يكون مع القعود؛ بل يتطلب تحركًا وانتقالًا، وهجرة بعد هجرة؛ وهذا حال الدعاة والمجاهدين؛ فهم في حركة دؤوب للقيام بواجبهم؛ حتى صارت الهجرة في سبيل الله سمة حياتهم؛ ومن هنا صار لزامًا تهيئة النفوس للهجرة وتحضيرها لترك الأوطان، وهذا ما فعله ورقة بن نوفل؛ عندما هيأ نفس الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لما سيلاقيه من قومه، وعرفه حتمية هجرته وخروجه، وأن ذلك سنة فيمن سبقه من الأنبياء الكرام، قال ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو مخرجي هم»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا (5).

تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان، فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان.

وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن، فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه.

والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان: ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة، ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب (6).

ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي ترك أهلها ووطنها من أجل عقيدتها.

ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} [النحل: 41- 42]. 

وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110]. 

وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريبًا عمليًا على ترك الأهل والوطن (7).

إن هذا التوجيه التربوي لمبدأ الهجرة يجعلها أمرًا مقبولًا ومتوقعًا وخيارًا لازمًا أحيانًا، ويتجاوز المهاجر بهذا الفهم صعوبات الهجرة وآلامها، ويحافظ على استقرار نفسه، وينظر بإيجابية لأقدار الله وما يحصل معه، فعسى أن يكون في هجرته خير وبركة. 

التهيئة النفسية للمهاجرين:

ذكر الله تعالى بعض النعم التي وعدها الله عز وجل للمهاجرين في الدنيا والآخرة، ومن هذه النعم: 

1 -سعة رزق الله لهم في الدنيا:

قال تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 100].

ومن سعة رزق الله لهم في الدنيا تخصيصهم بمال الفيء والغنائم، فالمال لهؤلاء؛ لأنهم أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به (8). 

إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة وهي تواجه مخاطر الهجرة في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة، والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين. 

وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة فلا يكتم عنها شيئًا من المخاوف ولا يداري عنها شيئًا من الأخطار- بما في ذلك خطر الموت- ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى.. 

فهو أولًا يحدد الهجرة بأنها «في سبيل الله».. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرةلأي عرض من أعراض الحياة، ومن يهاجر هذه الهجرة- في سبيل الله- يجد في الأرض فسحة ومنطلقًا فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة، للنجاة وللرزق والحياة: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلًا. 

وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين ثم تتعرض لذلك المصير البائس، مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله، إنه سيجد في أرض الله منطلقًا وسيجد فيها سعة (9). 

2 -تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم:

قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].

وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في بيان أن الهجرة من أعظم الوسائل المكفرة للسيئات، وأنها سبب لمغفرة ذنوب أهلها.

عن عمرو بن العاص، قال: قلت: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: «ما لك يا عمرو؟» قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلت: أن يغفر لي، قال: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» (10).

3 -ارتفاع منزلتهم وعظم درجتهم عند ربهم:

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20].

فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه؛ النفسي والمالي أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائنًا من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة (11).

فتلك الدرجة هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم، ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها (12).

4- تبشيرهم بالجنة والخلود فيها:

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: 20- 22]. 

هذا بعض ما وعد الله به المهاجرين من الجزاء والثواب بسبب جهادهم المرير.

قال أبو حيان: لما وصف المؤمنين بثلاث صفات: الإِيمان، والهجرة، والجهاد بالنفس والمال، قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، الرضوان، والجنان، فبدأ بالرحمة لأنها أعم النعم في مقابلة الإِيمان، وثنَّى بالرضوان الذي هو نهاية الإِحسان في مقابلة الجهاد، وثلَّث بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان وقال الألوسي: ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيمٌ مقيم جاء في غاية اللطافة، لأن الهجرة فيها السفر، الذي هو قطعة من العذاب (13). 

إن المهاجرين بإيمانهم الراسخ ويقينهم الخالص لم يمكنوا الجاهلية في مكة من وأد الدعوة، وهي في مستهل حياتها، لقد استمسكوا بما أوحى إلى نبيهم ولم تزدهم حماقة قريش إلا اعتصامًا بما اهتدوا إليه وأمنوا به، فلما أسرفت الجاهلية في ذلك صاروا أهلًا لما أسبغه الله عليهم من فضل في الدنيا، وما أعده لهم يوم القيامة من ثواب عظيم (14). 

ثالثًا: الوعيد للمتخلفين عن الهجرة:

من العقوبات التي توعد الله عز وجل بها للمتخلفين عن الهجرة سوء المصير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. 

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية: قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10]. 

فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110] (15). 

لقد وصف الله سبحانه المتخلفين عن الهجرة بأنهم ظالمو أنفسهم، والمراد بالظلم في هذه الآية، أن الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى المدينة، ظلموا أنفسهم بتركهم الهجرة (16). 

وفي هذه الآية الكريمة وعيد للمتخلفين عن الهجرة بهذا المصير السيئ، وبالتالي التزم الصحابة بأمر الله، وانضموا إلى المجتمع الإسلامي في المدينة تنفيذًا لأمر الله وخوفًا من عقابه، وكان لهذا الوعيد أثره في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فهذا ضمرة بن جندب لما بلغه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وهو بمكة قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهًا إلى المدينة وكان شيخًا كبيرًا، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزل قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} [النساء: 98- 99] (17). 

وهذا الموقف يرينا ما كان عليه جيل الصحابة من سرعة في امتثال الأمر، وتنفيذه في النشاط والشدة، كائنة ما كانت ظروفهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولا يطلبون الرخص (18).

فهذا الصحابي تفيد بعض الروايات أنه كان مريضًا، إلا أنه رأى أنه ما دام له مال يستعين به، ويحمل به إلى المدينة فقد انتفى عذره، وهذا فقه أملاه الإيمان، وزكَّاه الإخلاص واليقين (19).

وبعد أن ذكر الله عز وجل وعيده للمتخلفين عن الهجرة بسوء مصيرهم، استثنى في ذلك من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتعرض للفتنة في الدين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ والضعاف والنساء والأطفال، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته، ورحمته بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار، قال تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)}

[النساء: 98 - 99] (20).

إن انتصار الدعوة رهين بتقديم وبذل الغالي والنفيس؛ فهذا سيدنا علي رضي الله عنه، ينام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موقن أن ذلك يعني تعريض حياته للخطر، وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ كل ماله معه لخدمة الدعوة، ويترك أهله دون مال، همه الوحيد أن يكون في معية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته. 

وقد خرج المهاجرون إلى المدينة تاركين وراءهم أهاليهم وأموالهم في سبيل الله، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبقى آخر المهاجرين إلى المدينة، رغم كل ما قد يتعرض له من أذى المشركين، خصوصًا أن صحابته قد هاجروا.

لقد تجلت الهجرة بمدرستها التربوية في صفات عظيمة خلفتها في القلوب، ومنها:

1- الهجرة حسن تخطيط وتوظيف الطاقات:

كيف يتصور بناء أمة شاهدة بالقسط قائمة بالحق ما لم يقم أهلها بالتخطيط اللازم، ومن أعظم أسس التخطيط حُسْنُ توظيف الطاقات، وسلامة استغلال القدرات المتاحة، فالصديق قبل الطريق، أضف لذلك التلاحم بين قلوب الفارين بدينهم، فلا شقاق ولا خلاف، لوحدة الهدف والغاية، فلا تفرقهم دنيا ولا اختلاف رأي، لكن يجب أن يسددوا ويقاربوا.

2- الصبر والتضحية:

لقد ضربت القلة القليلة التي آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم أسمى معاني التربية حينما أدركوا ما سيقع عليهم من جراء اتباع محمد ودينه، فتفانوا في الصبر التضحية من أجل هذا الدين، فنجد سمية بنت خياط ترتقي كأول شهيدة في الإسلام، كما ارتقى زوجها ياسر بن عامر شهيدًا مضحيًا بنفسه من أجل دينه، وهذا صهيب الذي ضحى بماله.

3- بناء الإنسان أهم من إنشاء البنيان:

التربية السليمة القويمة للإنسان يترتب عليها أمة متماسكة قوية البنيان، وهذا ما فطن إليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حينما سعى لبناء مجتمع متماسك يعلوه الرحمة والإخاء، وترتقي فيه قلوبهم لرب العالمين، وعلى هذا الأساس بدأ النبي صلى اللهُ عليه وسلم في تأكيد هذه العلاقة القويمة، وتحقيق روح الترابط والتماسك بين المهاجرين والأَنصار، فكانت النتيجة دولة إسلامية قوية متماسكة مترابطة، تعرف قدر ربها سبحانه، وقدر نبيها، وقدر دينها، وحق الأخ على أخيه.

4- لا تقنط مع رحمة الله:

ربما في زحمة التعذيب، وكثرة الاضطهاد، وسطوة أهل الباطل، وضعف أهل الحق؛ ربما يتسرب اليأس والقنوط، والإحباط والوجل، وسوء الظن بالله، ويظل السؤال: متى نرى النصر والفرج؟

لقد علمتنا الهجرة ألا نيأس أبدًا؛ لأن رب هذا الكون هو من يدبر كل ما فيه، ويقدر كل أحداثه، وسواء كنت مهاجرًا بدينك جبرًا إلى السجون، أو إلى وطن آخر، فلقد علمتنا الهجرة أن الثقة في الله لا بد أن يتزين بها قلوب القابضين على دينهم.

5- الثبات على الموقف والبحث عن الحل الشامل:

تدفعنا المدرسة التربوية في الهجرة أن نتحلى بالثبات مهما طال الطريق، ومهما رأيناه صعبًا مظلمًا، لكن مع هذا الثبات لا بد من البحث عن الحلول الواقعية والعملية والشاملة، ولا نقتصر على الحلول التقليدية التي تربينا عليها متناسين التغيرات التي حدثت على الساحة، والمستجدات التي تحدث كل يوم.

6الهجرة فتح مبين:

لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه فتحًا مبينًا على الإسلام والمسلمين، وهكذا يجب على الدعاة اليوم وفي ظل ما يعانون، أن يجعلوا هجرتهم سواء إلى البلدان التي هاجروا إليها أو غيرها فتحًا؛ فيكونون قدوة طيبة، ونموذجًا للإسلام يُحتذي به، فعليهم ألا ينشغلوا بسفاسف الأمور والتناحر والتحزب وهم وسط بلاد وشعوب غريبة، فيصوروا الإسلام بهذا المظهر الغريب المتنافر، كونوا في هجرتكم خير دليل للإسلام، كما كان مصعب بن عمير في المدينة، وكجعفر بن أبي طالب في الحبشة.

7- اليقين بالفرج:

اليقين بأن ما عند الله تعالى هو الأفضل، وهو الأبقى، فقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشدائد في الهجرة النبوية، ولكنه ثبت، وصبر، واحتسب أجره عند الله تعالى، ولم يكن قلبه إلا ممتلئًا على الدوام باليقين المطلق بأن فرج الله تعالى آت لا محالة، وبالفعل فقد مكَّن له الله عز وجل، ونصره نصرًا مؤزرًا، وبلغ صيته الآفاق، ولا يزال إلى يومنا هذا أعظم إنسان عرفته الإنسانية، ولا يزال اسمه الأكثر ترددًا على الألسنة (21). 

إن الهجرة النبوية من الرحلات العظيمة التي فتحت للدعوة أفقًا أوسع وأكبر، فكانت بداية نهج جديد في التبليغ تضافرت فيه جهود المهاجرين والأنصار جميعًا لتصنع دولة الإسلام.

إنها الهجرة تخاطبك أنت فردًا، وتخاطبنا جميعًا أمة، فلنهاجر إلى الله ورسوله بأن نهجر ظلام معصية الله، وسيطرة الهوى، إلى نورانية الوحي، وترقب نصر الله بالتخطيط للمستقبل والاستعداد له. 

التطبيق العملي للهجرة:

1- نشر الوعي عند الناس عامة، وعند الدعاة وطلبة العلم خاصة؛ بمبدأ الهجرة في سبيل الله، والرحلة في طلب العلم وفوائدها، وأدلتها من الكتاب والسنة والتاريخ. 

2- بناء القناعة بخيار الهجرة في سبيل الله، والرحلة لأجل الدعوة والجهاد، فقد يحتاجها المرء أثناء حياته الدعوية والعلمية.

3- التهيئة النفسية للهجرة، والقيام بالاستعدادات والتدريبات التي تساعد في إدارة الحياة أثناء البعد عن الوطن والأهل، واكتساب العلم وتعلم اللغات. 

4- قراءة سير وتراجم العلماء والمجاهدين الذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله. 

5- يحرص المهاجر أن تكون هجرته وأسفاره في سبيل الله، وفي طاعته بعيدًا عن معصيته، فينوي الخير، ويسعى له، ويبحث عن أهله، ويستشعر معية الله وعونه ويتوكل على الله ويفوض أمره له سبحانه، فهذا يزيد من صبره وقوة تحمله، ويحرص على الصحبة الصالحة ويتجنب الوحدة ما استطاع. 

6- يحرص اللاجئون على تعليم الأبناء، وإعدادهم للعودة والتحرير، وتذكيرهم بحقهم، وأرضهم وعرضهم وقدسهم، وبظلم عدوهم، الذي هجرهم وقتلهم وأسرهم والتواصي برفض أفكار الخضوع للعدو أو التطبيع معه (22).

 

-----------

(1) الهجرة في القرآن الكريم (ص: 175).

(2) في ظلال القرآن (5/ 2732).

(3) أخرجه البخاري (2783)، ومسلم (1864).

(4) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 1863).

(5) أخرجه البخاري (3).

(6) في ظلال القرآن (5/ 3043).

(7) السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة (ص: 118).

(8) الهجرة في القرآن الكريم (ص: 132).

(9) في ظلال القرآن (2/ 745).

(10) أخرجه مسلم (121).

(11) تفسير الرازي (16/ 13- 14).

(12) التحرير والتنوير (10/ 149).

(13) صفوة التفاسير (1/ 489).

(14) هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنة للجمل (ص: 332- 333).

(15) زاد المسير لابن الجوزي (2/ 97).

(16) الهجرة في القرآن الكريم (ص: 161).

(17) أسباب النزول للواحدي (ص: 181).

(18) الهجرة النبوية المباركة (ص: 124- 126).

(19) الهجرة النبوية المباركة (ص: 125).

(20) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (ص: 298).

(21) البُعد التربوي من الهجرة النبوية/ مجلة المجتمع الكويتية.

(22) المضامين التربوية في آيات الأرض المباركة في القرآن الكريم وتطبيقاتها (ص: 241).