logo

الرجولة في الدعوة إلى الله


بتاريخ : الخميس ، 12 جمادى الأول ، 1438 الموافق 09 فبراير 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الرجولة في الدعوة إلى الله

إن حاجة الإسلام اليوم إلى الرجال عظيمة، فالإسلام اليوم تنتهك حرماته في شتى أقطار الأرض، ولم تعد تقم للإسلام قائمة في وسط هذه الدياجير المظلمة من الشرك والجاهلية، إلا من رحم الله عز وجل من أفراد تلك الطائفة المنصورة، التي استقامت على شرع الله عز وجل.

جلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يومًا مع أصحابه فقال لهم: «تمنوا»، فقال أحدهم: «أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله»، فقال: «تمنوا»، قال آخر: «أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا فأنفقها في سبيل الله»، قال: «تمنوا»، قال آخر: «أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهرًا أو نحوه فأنفقه في سبيل الله»، فقال عمر: «تمنوا»، فقالوا: «ما تمنينا بعد هذا»، قال عمر: «لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله»(1).

إن الأمم والرسالات تحتاج إلى المعادن المذخورة، والثروات المنشورة، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرءوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها، والعزائم القوية التي تنفذها، إنها تحتاج إلى الرجال، فالرجل أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، فالرجل الكفء الصالح هو عماد الرسالات، وروح النهضات، به تتطور الأمم، وتتقدم الشعوب، وتزدهر الأوطان.

إن القوة ليست بحَدِّ السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم، وإنجاز المشروعات ليس في تجهيز المعدات بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها، فما أحكم عمر بن الخطاب حين لم يتمن فضةً ولا ذهبًا، ولا لؤلؤًا ولا جوهرًا، ولكنه تمنى رجالًا من الطراز الممتاز، الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض وأبواب السماء.

الرجولة ليست سنًا بقدر ما هي صفات وشمائل وسجايا ذكرها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فالرجولة أصل عظيم من أصول التربية على هذا الدين والإيمان به والدعوة إليه، وإنه حيثما توجد الرجولة، وحيثما تكون البطولة فإنه يكون عز الدين ومنعته، وغلبة الحق، وقيام الدعوة إلى الله، وإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن الرجولة معلم بارز من معالم الدين الإسلامي الحنيف، وليست كلمة تقال هكذا عبثًا، وليس معيار الرجولة، كما يدعيه كثير من السطحيين، يتمثل في مجموعة من المواصفات الجسمية، التي تعنى القدرة الجنسية، أو الفحولة والعضلات المفتولة والقامة الطويلة والشوارب التي تقف عليها الصقور! لا، وإنما هي كلمة لها وقعها، لم تخرج عن كونها امتثالًا لما جاء به رسول الله، لها تكاليف وتبعات، ولها أهلها الذين يستحقون أن يوصفوا بها، ولا يقال لغيرهم رجال أبدًا، فما من فضيلة من الفضائل ولا مكرمة من المكارم إلا وللرجولة فيها مدخل، ولها إليها انتماء.

فإذا اكتملت عناصر الرجولية في شعب من الشعوب فقد تهيأ للوثوب، وتحفز للنهوض، وإذا سَرَت معانى الرجولية في مجتمع عاش عالي الهمة، مرفوع الرأس، وأصبح ذا منعة وبأس، ومقياس أي أمة من الأمم لا يعظم بعدد ولا عتاد؛ ولكنه يعظم ويعلو بمقدار ما يحمل أفراده من معانى ومعالم الرجولية الحقة في نفوسهم.

لقد جاء وصف الرجولة في القرآن الكريم في مواضع عدة، منها:

- في مقام تحمل الرسل لأعباء الرسالة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].

- وفي مقام الصدق مع الله، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

- وجاء ذكرهم في مقام العبودية: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور:37].

فأولويات الرجال هي الدار الآخرة والإعداد لها؛ فهم يصلحون دنياهم، وقلوبهم وأشواقهم هناك في الدار الآخرة، ألسنتهم ذاكرة ونياتهم خالصة، الرجال يعملون، يجتهدون، يربحون، ليسوا عالةً على غيرهم، فنعم المال الصالح للعبد الصالح، ولكن قلوبهم لا تتعلق إلا بما عند الله، وتسبيح الرجال بالغدو والآصال، إنها أذكار الصباح والمساء والمحافظة عليها من صفات الرجال، إن رجلًا واحدًا قد يساوي مائة، ورجلًا قد يوازي ألفًا، ورجلًا قد يزن شعبًا بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة تحيا به أمة.

روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال عن القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه: «صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل».

ولما حاصر عمرو بن العاص رضي الله عنه بلاد مصر طلب المدد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمدّه عمر بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم رجل، وكتب إليه عمر بن الخطاب: «إنى قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كلّ ألف رجل منهم رجل مقام الألف، الزبير بين العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد».

إن الرجولة إذًا ليست بالمظاهر والصور والعدد والعدة والمال والعقار، فرب إنسان أوتي بسطة في الجسم وصحة في البدن يطيش عقله فيغدو كالهباء، ورب عبد ضعيف البدن قليل المال وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال، فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهرًا، وما أكثر ما ضيعت المظاهر الجوفاء من حقوق وواجبات، وكم طمست من حقائق، فعن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: «حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع»، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: «ما تقولون في هذا؟»، قالوا: «حري إن خطب ألَّا ينكح، وإن شفع ألَّا يشفع، وإن قال ألا يستمع»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»(2).

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره»(3)، وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضعّف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل جواظ مستكبر»(4).

إن الرجولة أخلاق وقيم، تدور مع الحق والخير، وتربأ بنفسها عن سفاسف الأمور، وتتعلق بمعاليها، فالاستجابة للاستفزاز، والانفعال عند الغضب، ورمي الشتائم كالصاعقة على القريب والبعيد أمر يجيده الكثير؛ لكن الذي لا يجيده إلا الرجال الحلم والصبر عندما تطيش عقول السفهاء.

في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»(5).

فالرسل الذين بعثوا إلى أقوامهم ما كانوا إلا رجالًا، قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل:43]، فلم يرسل الله عز وجل إلى الناس إلا رجالًا، مواقفهم الرجولية واضحة لمواجهة الفساد والشرك والطغيان والانحراف والجور والظلم، وكل ما من شأنه أن يخدش أمرًا مما أنزله الله، ولذلك كانت تلك المواقف البطولية، التي لا يقفها إلا أعظم الرجال وأقواهم وأشجعهم؛ مثل: وقوف إبراهيم الخليل عليه السلام أمام النمرود، ووقوف موسى عليه السلام أمام فرعون، ووقوف نوح عليه السلام أمام أمة عاتية ماكرة ألف سنة إلا خمسين عامًا، ووقوف هود عليه السلام أمام أمة مستكبرة متجبرة، يبنون بكل ريع آية يعبثون، وإذا بطشوا بطشوا جبارين، كما أخبر الله عنهم على لسان نبيه هود عليه السلام، وكل الأمم لا يقف لدعوتها ويتصدى لجبروتها إلا رجال.

ولم تَرَ البشرية رجولة حقيقية كما رأتها في خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم، في عدله وخلقه ومعاملته وحلمه وشهامته، ولننظر إلى هذا الموقف؛ فقد قَدِم رجل من أراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فماطله بأثمانها، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: «يا معشر قريش، مَن رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي»، فقال أهل المجلس: «ترى ذلك»، يهمزون به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة، «اذهب إليه، فهو يعديك عليه».

فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لمن معهم: «اتبعه فانظر ما يصنع؟»، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه، فقال: «من هذا؟»، قال: «محمد، فاخرج»، فخرج إليه، وما في وجهه قطرة دم، وقد امتقع لونه، فقال: «أعط هذا الرجل حقّه»، قال: «لا يبرح حتى أعطيه الذي له»، قال: فدخل فخرج إليه بحقه، فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للأراشي: «الحق لشأنك»، فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس، فقال: «جزاه الله خيرًا، فقد أخذ الذي لي»(6).

إن الرجولة الحقيقية بمعناها العميق العظيم، والتي يتصف بها المؤمنون، هي إيقاظ القلب، وتحريك الجوارح، وابتعاث الهمة؛ لإعلاء دين الله تبارك وتعالى، وإرغام أنوف الكافرين والمنافقين والجاحدين والمعاندين من أجل كلمة الحق، هذه هي الرجولة التي يجب أن نتربى عليها، ويجب أن نتعلمها.

قال ابن كثير رحمه الله: «قوله: {رِجَالٌ}: فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا عمارًا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه»(7).

مر عمرو بن دينار رحمه الله ومعه سالم بن عبد الله، قال: «كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة، وقد قاموا إلى الصلاة، وخمروا متاعهم، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد، فتلا هذا الآية: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} [النور:37]، ثم قال: هم هؤلاء، هؤلاء الذين عنى الله بقوله في هذه الآية»(8)، هؤلاء الذين قدموا مراد الله على مراد أنفسهم، وآثروا طاعة الله على المتاع الدنيوي الزائل، آثروا الاستجابة لهذا النداء العلوي الرباني (حي على الصلاة، حي على الفلاح)، على نداء الجشع والطمع الذي يثيره الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

قال ابن رجب الحنبلي في (ذيل طبقات الحنابلة): «أُنْبِئْتُ عن أحمد بن عبد الدائم المقدسي قال: حكى لنا ابن الجوزي قال: كنا نجلس إلى الوزير ابن هبيرة، فيملي علينا كتابه (الإفصاح)، فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل معه رجل ادعى عليه أنه قتل أخاه، فقال له عون الدين: أقتلته؟ قال: نعم، جرى بيني وبينه كلام فقتلته، فقال الخصم: سلمه إلينا حتى نقتله فقد أقر بالقتل، فقال عون الدين: أطلقوه ولا تقتلوه، قالوا: كيف ذلك وقد قتل أخانا؟ قال: فتبيعونيه؟ فاشتراه منهم بستمائة دينار، وسَلَّم الذهب إليهم وذهبوا، قال للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، قال: فجلس عندهم، وأعطاه الوزير خمسين دينارًا.

قال: فقلنا للوزير: لقد أحسنت إلى هذا، وعملت معه أمرًا عظيمًا، وبالغت في الإحسان إليه! فقال الوزير: منكم أحد يعلم أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئًا؟ فقلنا: معاذ الله، فقال: بلى والله، أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا، قال: هذا الذي خلصته من القتل جاء إلي وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه، ومعه سلة فاكهة، فقال: احمل هذه السلة، قلت له: ما هذا شغلي فاطلب غيري، فشاكلني، ولكمني فقلع عيني، ومضى ولم أره بعد ذلك إلى يومي هذا، فذكرت ما صنع بي، فأردتُ أن أقابل إساءته إلي بالإحسان مع القدرة».

إن علينا أن نتخلق بهذه القيم، ونمارسها سلوكًا في الحياة، نرضي بها ربنا، ونقوي بها صفنا، وينتفع بها مجتمعنا، وتتآلف بها القلوب، وتحفظ بها الحقوق، ولنحذر من استعمال نعم الله علينا من صحة أو مال ومنصب وجاه في ما يغضبه سبحانه، ولنعلم أنه متى ما فسدت أخلاقنا وساءت تصرفاتنا ضاقت علينا نفوسنا، وتكدر عيشنا، وكثرت مشاكلنا.

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها       ولكن أخلاق الرجال تضيق(9).

الثبات على المنهج الرباني:

ومن صفات الرجال أنهم يثبتون على المنهج الرباني الذي أنزله الله عز وجل، إنه المنهاج الذي وضعه رب العزة تبارك وتعالى ليستقيم عليه الناس، هذا المنهاج الذي لا يصح أن ينحرف الإنسان عنه يمنة ولا يسرة، لا بد أن يرقبه ويجاهد نفسه للسير عليه، هذا المنهاج المتضمن لقواعد أصولية، ومسائل تصورية، لا يمكن أن يتخلى عنها المسلم بأي حال من الأحوال، هذا المنهاج الذي عليه صور ومنارات تضيء للمسلم الطريق، هذا المنهاج الرباني منهاج أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة لا بد من الثبات عليه.

قال الله عز وجل مادحًا صنفًا من أصناف الرجال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، عاهدوا الله ثم صدقوا في الوعد، صدقوا ما عاهدوا الله على هذا المنهج، استمروا عليه، تشبثوا به، وساروا غير مضطربين ولا متحيرين، لا تعيقهم العوائق، ولا تقف أمامهم الصعوبات ولا الشهوات ولا الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، ومات على هذا المنهج شهيدًا عاملًا لمنهج الله عز وجل، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، ينتظر أن يتوفاه الله على حسن الختام؛ ليموت على هذا المنهاج غير مغير ولا مبدل، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} ما بدلوا ولا غيروا ولا انحرفوا؛ بل هم مستقيمون على هذا المنهاج، ينتظرون أمر الله تعالى أن يتوفاهم وهم سائرون على هذا الدرب مستقيمون عليه، لا يلوون على شيء إلا مرضاة ربهم عز وجل.

إنه الثبات على المنهج الذي افتقده كثير من المسلمين اليوم، حتى ممن شغلوا بالعمل للإسلام، قامت عندهم انحرافات في التصور والسلوك، فانحرفوا عن منهج الله.

ليست القضية أن نمسك الطريق فقط، ولا أن نعرفه فقط، ولا أن نصل إليه فقط، إن المسألة أن نستمر عليه بغير تبديل ولا تحريف {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

تأييد الرسل ومناصرتهم:

هذه الرجولة التي يصفها الله تعالى في القرآن، أن من أهلها من يؤيد الرسل في دعوتهم ويناصرهم، ويبين للناس أن ما جاءت به الرسل هو الحق، ويعين الرسل ويساعدهم.

قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} [يس:20]، من الذي جاء؟ هل جاء جيش جرار، أو فئام كثيرة من الناس؟ {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} جاء من آخر المدينة {رَجُلٌ يَسْعَى} يشتد، ولماذا جاء؟! جاء يبين ويعرض حقائق العقيدة، التصورات النقية الصافية الخالية من شوائب الشرك، حتى توفاه الله عز وجل.

فمن صفات الرجولة أن نكون نحن الذين نسمي أنفسنا رجالًا، أن نكون أعوانًا للرسل، حربًا على أعداء الرسل، وليس حربًا على الرسل، أن نكون مؤيدين لدعوة الرسل، لا مثبطين عن دعوة الرسل، أن نكون مستجيبين لدعوة الرسل، متبعين لا عاصين ولا مبتدعين ولا معاندين.

هذه الصفة كم من الرجال من يمتلكها اليوم؟! كم من الرجال من يؤيد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! إنهم قليل.

وفي حال الخوف يتقدم الرجال بالنصح لله عز وجل، رغم الخوف الذي يكتنفهم، وأجواء الإرهاب التي تحيط بهم، فيقومون بواجب النصيحة، رجل واحد يفعل أفعالًا لا تفعلها أمة بأسرها، رجل واحد يعدل غثاءً؛ بل إنه يرجح على هذا الغثاء المترامي الأطراف، الذي لا يجمعه تصور واحد، ولا منهج واحد، ولا عقيدة واحدة، يقوم هؤلاء الرجال بواجب النصح لله عز وجل، ويحذرون أولياء الله من المخاطر التي تحدق بهم.

تقديم النصيحة في حال الخوف:

قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20]، يشتد من أقصى المدينة، لم يقعد به طولُ المسافة، ولا بعد الطريق، جاء يسعى ويشتد، لقد كان هذا الرجل مؤمنًا {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} يتشاورون في أمرك، {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} إني أكشف لك مخططاتهم، وأعري لك دسائسهم ونياتهم الخبيثة، فاخرج من هذه المدينة، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20].

قال ابن كثير رحمه الله: «وصف بالرجولة؛ لأنه خالف الطريق، يعني بالطرق الجادة التي تسلك في الشارع، فسلك طريقًا أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه، فسبق إلى موسى وحذره، قال: إن الناس آتون ورائي ليقبضوا عليك ويقتلوك، أعوان فرعون الطاغية: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}»(10).

يأتي هذا الرجل يسعى، يختصر الطريق ليحذر ولي الله ونبيه موسى عليه السلام، إن تقديم النصيحة، حتى في حالة الخوف، من صفات الرجولة.

عند الأزمات تشتد الحاجة لوجود الرجال الحقيقيين، الذين يثبتون الناس على شرع الله.

قد تمر بالإسلام أزمات، قد تمر بالمسلمين شدائد ونكبات، قد يمر بالمسلمين عسر شديد، تنقطع بهم السبل، فيتحير الناس ويضطربون، ويميدون ويحيدون عن شرع الله، فترى الناس متفرقين شذر مذر، لا يرى أحدهم الحق ولا يتبعه، حيرتهم فتن الحياة الدنيا، فاضطربوا اضطرابًا شديدًا، وتبعثروا وتفرقوا، فمن الذي يثبت في هذه الحالة؟ ومن الذي يقوم بواجب التثبيت؟

في هذه الحالة التي تقع فيها الفتن بالمسلمين نحتاج إلى عناصر مثبتة، تثبت المسلمين على المنهج الرباني، من الذي يثبت؟ في حالة الأزمات تكتشف أنت معادن الرجال، يفضي كل رجل إلى معدنه الخالص؛ ليستبين أمام الناس: هل هو من أهل العقيدة أم لا؟ هل هو رجل عقيدة أم لا؟ في حالة الأزمات يتبين الرجال الذين يقفون على منهج الله بأقدام راسخة.

يقول الله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:313].

موسى عليه السلام يأتي ببني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة، ويعدهم بنصر الله تعالى، ويبشرهم ويقول: إن الله معكم، فقاتلوا هؤلاء الكفرة الذين احتلوا تلك الأرض المقدسة، بنو إسرائيل الذين ما عرف عن طبعهم إلا الغدر والخيانة، وإلا النكوص عن شرع الله وطريقه، ماذا قالوا؟ قالوا كلمة قبيحة جدًا، قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} أنت وربك يا موسى قاتلا، نحن ننتظر النتيجة، فإن انتصرتم جئنا ودخلنا المدينة {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} بكل وقاحة، موسى نبي الله ليس معه أحد، كل القوم نكصوا.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} موقف صعب، موقف شديد، تخلى القوم عن نبيهم، تركوه وحيدًا أمام الأعداء، إن هذه أزمة، أليس كذلك؟

فمن الذي يقوم الآن، في هذا الأزمة، ويثبت الناس ويقول لهم: يا أيها الناس، اثبتوا على شرع الله، اثبتوا على الطريق، لا تنهزموا أمام الأعداء، النصر قادم بإذن الله، تمسكوا بشرع الله، والله ينصركم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7].

قام هذان الرجلان: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا} [المائدة:23] بنعمة الإيمان والإسلام والثبات.

هذه النوعية التي نحتاجها حقيقة اليوم في وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيرانًا، نحتاج إلى رجال يبصرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يثبتون الناس على شرع الله.

الإنسان يحرص على أن يربي نفسه على أفضل كمالات الرجال؛ من الشجاعة، وقول الحق في مكانه مع الحكمة، وأيضًا البذل في المعروف، ونجدة المحتاج، ومساعدة من يحتاج إلى المساعدة، ونحو ذلك من الصفات اللائقة، وعكس هذه الخصال فيه تشبه بالأنثى، فيكون الإنسان ضعيفًا رقيقًا، فيكون الإنسان ضعيف الجأش، لا يستطيع أن يقول كلمة الحق، ويكون متنعمًا إلى درجة أنه لا يتخيل أن هذا النعيم يمكن أن يزول.

ولهذا ينبغي للإنسان أن يروض نفسه على أسوأ المواقف، فكم من بلاد إسلامية وقعت عليها الحروب، وربما تقع على كثير من الناس في أماكن متعددة، فينبغي للإنسان أن يكون من الرجولة، وأن يكون من رباطة الجأش والصدق والتعاون مع إخوانه المسلمين إلى أبعد درجة، وإلا فإنه سيطيش عقله ولا يدري ماذا سيصنع، ونسأل الله عز وجل أن يرفع ما بهذه الأمة من البلاء.

فالرجولة الحقة قوة في القول، وصدع بالحق، كلمة حق عند سلطان جائر، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].

الرجولة صمود أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات، حذرًا من يوم عصيب يشيب فيه الولدان وتتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].

الرجولة رأي سديد، وكلمة طيبة، ومروءة وشهامة، وتعاون وتضامن.

إن الرجال لن يتربوا إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والأخلاق الحسنة.

الرجال هم الذين يصدقون في عهودهم، ويوفون بوعودهم، ويثبتون على الطريق، قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

الرجال لا يقاسون بضخامة أجسادهم وبهاء صورهم، وقوة أجسامهم، فعن زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود كان يحتز لرسول الله صلى الله عليه وسلم سواكًا من أراك، وكان في ساقيه دقة، فضحك القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يضحككم من دقة ساقيه، والذي نفسي بيده، إنهما أثقل في الميزان من أحد»(11).

الرجال هم الذين يعلمون علم اليقين أن حال الأمة لا يمكن تغييره إلا بصلاح الأفراد وإيجاد الرجال، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].

إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة، ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال.

إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم.

عن خالد بن معدان قال: «استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر الجمحي، فلما قدم عمر بن الخطاب حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، قالوا: نشكو أربعًا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: وعظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: عظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: يَغْنَظُ الْغنْظَةَ بين الأيام [يعني يملؤه الكرب حتى يشرف من شدته على الموت]، قال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقال: اللهم لا تقبل رأيي فيه اليوم، ما تشكون منه؟

قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: والله، إن كنت لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم، فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحدًا بليل، قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل، قال: وما تشكون؟ قالوا: إن له يومًا في الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار، قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يَغْنَظُ الْغنْظَةَ بين الأيام، قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة، فقالوا: أتحب أن محمدًا مكانك؟

فقال: والله، ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم شيك بشوكة، ثم نادى: يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدًا، قال: فتصيبني تلك الغنظة.

فقال عمر: الحمد لله الذي لم يُفَيِّلْ فراستي، فبعث إليه بألف دينار وقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، فقال لها: فهل لكِ في خير من ذلك؟ ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها، قالت: نعم، فدعا رجلًا من أهل بيته يثق به فصرها صررًا، ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان، فبقيت منها ذهبية فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادمًا، ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين»(12).

رجولة الغلمان:

هذا الخلق يشمل أيضًا الصبيان والغلمان، ولنا في موقف علي رضي الله عنه المثل والقدوة في ذلك، حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، وهو صبي، غير عابئ بما قد يصيبه عند انكشاف أمره، لكنه موقف تهون في سبيله الأرواح، فالرجولة عمل وموقف، ولا تتقيد بسن ولا بجنس.

وفي موقف معاذ ومعوذ ابنا عفراء دليل آخر على رجولة الصبيان، روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: «إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، وماذا تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًا من صاحبه مثله! قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء»(13).

مواقف معاصرة:

ولا ننسى موقف سيد قطب رحمه الله، حين رفض التوقيع على رسالة تأييد لنظام الحكم من أجل الخروج من السجن، وقال كلمته الخالدة: «إن أصبع السبابة الذي يشهد أن لا إله إلا الله يأبى أن ينحني لطاغية».

ففضل يرحمه الله الاستشهاد في سبيل الله على تأييد الظلم والطغيان، وهذا موقف عصيب لا يصمد له الكثيرون، وصدق يرحمه الله حين قال: «إن هناك للحظات في الحياة لا يصمد لها بشر إلا أن يكون مرتكنًا إلى الله، مطمئنًا إلى حماه، مهما أوتي من القوة والثبات والصلابة والاعتداد، ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله».

من معالم الرجولة في القرآن:

إذا أردنا أن تكون في مخيلتنا صورة متكاملة لمعالم الرجولة فما علينا إلا أن نقرأ القرآن الكريم، الذي جاء منهج هداية وحبل إنقاذ للبشرية، وستجد من هذه المعالم:

1- الطهارة بشقيها المادي والمعنوي: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].

أما الطهارة المعنوية فلارتباطها بالرجولة نذكر حديث: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة»، فلما سأل عبد الله بن عمرو بن العاص الرجل عن ذلك أخبره الرجل أنه يبيت وليس في قلبه حقد لأحد، والحديث رواه الإمام أحمد بسند جيد.

2- الصدق مع الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].

3- إيثار الآخرة على الدنيا: {رِجَالٌ َلَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37].

4- القوامة وحسن التوجيه لبيوتهم وذويهم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء:34].

5- الإيجابية في العمل، وتتمثل في:

أ- السعي لتبليغ دعوة الله ومناصرة الأنبياء، ففي مؤمن سورة ياسين: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].

ب- مؤمن آل فرعون والدفاع عن رمز الدعوة ضد مؤامرات الكفار: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} [غافر:28].

ج- التحرك السريع لدرء الخطر وبذل النصيحة: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20].

كم نحن في حاجة إلى هذا الخلق الكريم، خلق الرجولة، لنتأسى به، ونعمل به، ونربي أنفسنا عليه، والرجولة التي أعنيها هي الخلق وليست النوع، فهي تعني الشجاعة والإقدام والمروءة والأمانة والوفاء والإخلاص، وسلامة الصدر والإخاء والعلم وعلو الهمة والعقل... إلخ، ولا أعني بها الذكورة؛ وذلك لأن هذا الخلق ليس مقصورًا على الرجال الذكور دون غيرهم، فهو يشمل معهم أيضًا النساء، حتى الصبيان.

إن العمل الإسلامي في أمس الحاجة لهذا الخلق العظيم؛ لتحقيق أهدافه السامية التي لا تتحقق إلا بقوة الرجال الصادقين، وعزائم الرجال المخلصين...، فالدعوات لا تقوم إلا على أكتاف وعزائم الرجال، ولا تقوم على الضعفاء والمترخصين.

من هنا تبرز أهمية هذا الخلق النبيل، وأهمية إثرائه في نفوس جميع عناصر العمل الإسلامي، من قيادة وجنود ومناهج تحث على هذا الخلق.

وهؤلاء الرجال هم الصنف الذي سيحمل أعباء العمل والدعوة إلى الله، من غير كلل ولا ملل، وهذا الصنف هو الذي يجب أن نعمل جاهدين على إيجاده وإنشائه؛ لأنه الوقود الدافع للعمل، ولأعبائه الجسيمة، ولأهدافه العظيمة(14).

***

____________________

(1) التاريخ الأوسط، للبخاري (201).

(2) أخرجه البخاري (4803).

(3) أخرجه مسلم (2622).

(4) أخرجه البخاري (4918).

(5) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(6) البداية والنهاية (3/ 59-60).

(7) تفسير ابن كثير (6/ 67).

(8) تفسير ابن كثير (6/ 69).

(9) عيون الأخبار (1/ 392).

(10) تفسير ابن كثير (6/ 226).

(11) أخرجه ابن حبان (7069).

(12) حلية الأولياء (1/ 246).

(13) أخرجه البخاري (3766).

(14) وقفات مع خلق الرجولة، موقع المختار الإسلامي.