إنما أنت مُذكر
كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين، كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشر وينذر وسماه الله {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ} [الأحزاب: 45- 46].
فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقة القلب والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة؛ فأما رقة القلوب فتنشأ عن الذكر، فإن ذكر الله يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته، ويذهب بالغفلة عنه، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34- 35]، وقال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، وقال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الزمر: 23].
وعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون (1)، وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر (2).
بذكر الله ترتاح القلوب ودنيانا بذكراه تطيب
وأما الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة فبما يحصل في مجالس الذكر من ذكر عيوب الدنيا وذمها والتزهيد فيها، وذكر فضل الجنة ومدحها والترغيب فيها، وذكر النار وأهوالها والترهيب منها.
وفي مجالس الذكر تنزل الرحمة وتغشى السكينة وتحف الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده، وهم قوم لا يشقى بهم جليسهم، فربما رحم معهم من جلس إليهم وإن كان مذنبًا، وربما بكى فيهم باك من خشية الله، فوهب أهل المجلس كلهم له؛ وهي رياض الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «مجالس الذكر» (3).
فإذا انقضى مجلس الذكر فأهله بعد ذلك على أقسام:
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر ولا يزداد هدى ولا يرتدع عن رديء وهؤلاء أشر الأقسام ويكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمين لأنفسهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108].
ومنهم من ينتفع بما سمعه وهم على أقسام: فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات ويوجب له التزام الواجبات، وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين.
ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات، والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات، وهؤلاء السابقون المقربون.
وينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام:
فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها؛ فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخشوا لكمال معرفتهم وشدة خوفهم أن يكون نفاقًا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس نفاق.
فعن حنظلة الأسيدي، وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرًا، قال: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما لك يا حنظلة؟»، قال: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي طرقكم، وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» (4).
وفي رواية: قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا، فذكر النار، قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله نافق حنظلة فقال: «مه» فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: «يا حنظلة ساعة وساعة، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر، لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق» (5).
ومعنى هذا: أن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدًا، ولا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه؛ فيكتفي منهم بذكر ذلك أحيانًا، وإن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة، ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك؛ بل يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا ويحن إلى زمان القرب والوصال في حال الجفاء.
وقسم آخرون يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازمًا لهم (6).
قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} ما عليك يا محمد أنت ومن تبعك إلا البلاغ والدعوة، وإيصال الأمانة إلى الخلق، لم تبعث مسيطرًا متحكمًا ولا مسؤولًا عن ردود أفعالهم أو استجاباتهم، والله تعالى هو من يحاسب ويجازي، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط والغضب، ومن تولى فالله يتولى حسابه وعذابه العذاب الأكبر، فالجميع راجع إليه ليحاسبهم على قدمت أيديهم. قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26)} [الغاشية: 21- 26].
قال السعدي في تفسيره: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} أي: ذكر الناس وعظهم، وأنذرهم وبشرهم، فإنك مبعوث لدعوة الخلق إلى الله وتذكيرهم (7).
وقال جل شأنه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3]؟ أي: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه، {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4]، أي: يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم.. {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7]، أي: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة (8).
وأما قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، أي: ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم (9)، وقال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ (10).
وقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10]، أي: سيتعظ بما تبلغه -يا محمد- من قلبه يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه (11).
قال الطاهر بن عاشور: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} الفاء فصيحةُ تفريع على محصَّل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يُبعث مُلجئًا لهم على الإِيمان، فالأمر مستعمل في طلب الاستمرارِ والدوام.
وجملة {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم.
والقصر المستفاد بـ {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي أنت مذكر لست وكيلًا على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم، فأنت غير مقصر في تذكيرهم؛ وهذا تطمين لنفسه الزكية (12).
ومع كثرة الفتن واتساع رقعة الفساد يدب اليأس إلى قلوب بعض الأخيار، ويفقدون الأمل في صلاح أحوال الناس والمجتمع، حتى تصل الحال ببعضهم -إن رأى إعراض الناس عن الاستماع إلى الناصحين- إلى ترك الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستدل على فعله هذا بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، قائلًا: إنها لم تعد تنفع فلا محل للتذكير، وليس الأمر كما قال.
إن من لا ينتفع بالذكرى البتة إنما هم الكفار والمنافقون الذين طُبِع على قلوبهم، فهؤلاء هم الذين آيس اللهُ عز وجل نبيَّه عليه السلام من إيمانهم وانتفاعهم بتذكيره، بعد أن بذل كل ما في وسعه في دعوتهم للحق، حتى كاد يهلك نفسه من حرصه على هدايتهم، كما قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وهؤلاء هم من خفف الله عبء دعوتهم عن نبيه على قول في تفسير آية سورة الأعلى، وأما على قول ثانٍ فيقدر محذوف أي: فذكر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع، كما قال البغوي رحمه الله، وهناك أقوال أخرى ليس في أي منها أن الكلام عن المؤمنين الذين قال الله تعالى في حقهم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
كون الداعية لا يجد استجابة تامة أو فورية لما يدعو إليه لا يعني أن الناس لا ينتفعون؛ فإن كثيرًا من التائبين كما هو مشاهد معلوم يكون من أسباب توبتهم كلمة قد يكون الواحد منهم سمعها قبل سنين، وبقيت تعمل في نفسه عملها حتى يأذن الله له بالتوبة، أو قد يكون سمعها ونسيها ثم يحصل معه بعد سنين ما يذكره بها فتنفعه، ولربما يكون قد سخر من قائلها في حينه.
ولئن كان الباطل والشر ينتشران فالحق والخير ينتشران كذلك، وسنة الله منذ خلق آدم عليه السلام وحسده إبليس أن يصطرع الخير والشر، وسنة الله أن يهزم الحقُّ الباطلَ -إن قام أهل الحق به كما أراد الله- ولو بعد حين، كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وكان هذا يوم فتح مكة بعد عقدين من بدء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: «ولكنكم تستعجلون» (13).
فلينظر العاقل بعين البصيرة؛ لو أن كل رجل وكل امرأة من أهل الخير والصلاح بذل ما في وسعه من الدعوة لدين الله والحض على فعل الخيرات وترك المنكرات؛ أكانت الحال تكون كما لو أنهم جميعًا تركوا ذلك؟!
لقد بين الله عز وجل حقيقة أعظم الدعاة عليه السلام ووظيفته الرئيسة بيانًا كافيًا شافيًا في آية جليلة فقال عز من قائل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21]، وبقيت هذه وظيفته عليه السلام إلى أن لقي ربه جل وعلا، فحملها عنه رجال بأمره: «بلغوا عني ولو آية» (14)، ولا يزالون على ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن شاء التحق بركبهم المبارك فنجا، ومن شاء قعد عن الدعوة إن هو فقد الأمل في صلاح الناس، وحال الفريقين كحال من حكى الله عنهم بقوله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} [الأعراف: 164- 165]، فنص سبحانه على نجاة الناهين عن السوء وسكت عن القاعدين عن ذلك، فقال بعض أهل العلم إنهم نجوا مع الناجين، وقال آخرون: بل هلكوا مع الهالكين (15).
قال العلماء: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} لأن الذي عليه هم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا القبول، كما قال تعالى {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99]، وقالوا أيضًا: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلًا ما يأمر به مجتنبًا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مُخلًا بما يأمر به، والنهي وإن كان ملتبسًا بما ينهى عنه.
فإنه يجب عليه شيئان؛ أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما فكيف يباح له الإخلال بالآخر، وقالوا أيضًا: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات؛ بل ذلك جائز لآحاد المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول، والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية.
ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالمًا بما يأمر وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها؛ فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره؛ بل ذلك للعلماء.
ثم إن العلماء إنما ينكرون ما أُجمع عليه، أما المُختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد القولين، كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين، أو أكثرهم، وعلى القول الآخر المصيب واحد والمُخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر والله أعلم (16).
واعلم أن هذا الباب أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضُيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدًّا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كَثُر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله تعالى أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه، ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قد قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، وقال: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، قال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، إلى غير ذلك، وهذا الذي ذكره النووي هو في زمانه الذي هو كالنهار المشرق بالنسبة إلى زماننا الذي هو كالليل المظلم، الذي صار فيه الحديد خبثًا، والخبث حديدًا، والذهب نحاسًا، والنحاس ذهبًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والنظام شرعًا، والشرع منسيًّا، وما لنا إلا أن نقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ومما يتساهل فيه الناس أن يُرى من يبيع سلعة معيبة ولا ينكر عليه، وقد نص العلماء على أنه يجب أن ينكر عليه، ويُعرَّف المشتري بذلك.
ومن كلام الشافعي رحمه الله تعالى: من وعظ أخاه سرًّا نصحه وزانه، ومن نصحه علانية فضحه وشانه، واعلم أن الأجر على قدر النَّصَب، ولا يتاركه أيضًا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقًا ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته، وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومُحِبُّه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوَّه من سعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوًا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها (17).
فيبدأ مثلًا بالتعريف وتنبيه المرتكب إلى أن ما يرتكبه منكر، فقد يقدم على المنكر الجاهل بأنه منكر، فإذا عرف أنه منكر تركه، كمن لا يحسن الصلاة.
فإذا لم ينفع التعريف في تغيير المنكر انتقل إلى النهي والوعظ والنصح والتخويف، فإذا لم تنجح هذه الوسيلة في تغيير المنكر مع القدرة على منعه بالجوارح وجب استعمال الجوارح.
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن يكون كالطبيب مع المريض، كل همه العلاج من أسهل الطرق، فإذا كان لا بد من الكي والبتر من أجل صلاح باقي الجسم وجب الكي والبتر.
وفي حد الاستطاعة التي يتعرض لها الحديث بقوله: «فإن لم يستطع» خلاف بين العلماء فمنهم من يذهب إلى وجوب تحمل الأذى في سبيل الأمر بالمعروف إلا أن يصل إلى الخوف على النفس، بل منهم من يرى الإنكار بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى، وبعضهم يرى أن خوف المكروه يحقق عدم الاستطاعة.
والتحقيق أن الأمر يختلف باختلاف نوع الأذى، ومدى احتماله، ونوع المنكر، ومدى خطورته، والأثر الحسن أو القبيح المترتب على هذا الإنكار.
وللإمام الغزالي في هذا المقام كلام نفيس: واعلم أنه لا يقف سقوط الواجب على العجز الحسي، بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله فذلك في معنى العجز، وكذلك إذا علم أن إنكاره لا ينفع، فإن اجتمع المعنيان، بأن علم أن كلامه لا ينفع، وخاف أن يضرب إن تكلم فلا يجب عليه الأمر بالمعروف، فإن علم أن إنكاره لا يفيد لكنه لا يخاف مكروهًا فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها، ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين، وذهب بعضهم إلى وجوبها بناء على أن الواجب الأمر بالمعروف لا القبول، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] (18).
فإن علم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، فهذا ليس بواجب وليس بحرام؛ بل هو مستحب.
ثم قال: ويستحب له أن يعرض نفسه للضرب والقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إذا رأى فاسقًا متغلبًا وعنده سيف، وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح، وضرب رقبته، فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهًا، وهو عين الهلاك، وتعريض النفس للهلاك من غير أثر لا وجه له، بل ينبغي أن يكون حرامًا، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه فلا تجوز له الحسبة، بل تحرم.
ثم قال: والظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم.
والمقصود من تغيير المنكر بالقلب كراهيته ومقته وبغضه، إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها، ومظاهر هذا الإنكار اكفهرار في الوجه أمامه، وعدم حضور موضعه، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وفي هذا يقول الغزالي: والذي نراه أن للولد الحسبة بالتعريف، ثم بالوعظ والنصح باللطف، وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب.
ثم قال: وهذا ينبغي أن يجري في العبد مع سيده، وفي الزوجة مع زوجها.
وعموم الحديث في قوله: «من رأى منكم منكرًا» يشمل العالم والجاهل، فكل من يعلم أنه منكر يجب عليه أن ينكره، ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعلماء وأصحاب الولايات.
كل ما في الأمر أن الذي يأمر وينهي هو العالم بما يأمر به وينهي عنه، وذلك يختلف باختلاف الآمر والمأمور به، فإن كان المأمور به من الواجبات الظاهرة كالصلاة والصيام، أو كان المنهي عنه من المحرمات الواضحة كالزنا والخمر، فكل المسلمين علماء بها، واجب على آحادهم كما هو واجب على علمائهم وإن كان وجوبه على العلماء بصفة أشد، إذ فيهم قوة الإنكار، ولهم تزيد الاستجابة، ومنهم تؤخذ أحكام الشريعة.
وإن كان المأمور به أو المنهي عنه من دقائق الأفعال والأقوال، كان الأمر بالمعروف واجب العلماء (19).
وعلى المذكر أمور منها:
1 -أن يكون رفيقًا في دعوته ليكون أدعى إلى القبول، فقد قيل: إن المأمون وعظه واعظ، فعنف في القول، فقال له: يا رجل ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمر بالرفق فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (20).
2 -وأن يكون مسرًا بإنكاره، فقد قال الشافعي: من وعظ أخاه سرًا نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه (21).
3 -وألا يسرف في الكلام والوعظ لئلا ينفر المرتكب.
4 -وأن يكون حليمًا صبورًا يتحمل جهل الجاهل وسفهه، ولذلك قرن الله الصبر بالأمر بالمعروف، فقال حاكيًا عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
5 -وأن يكون على جانب طيب من حسن الخلق، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وهداية الغير فرع هداية النفس، ولا يستقيم الظل والعود أعوج.
هذا وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم القدر، جليل الشأن، بالغ النفع، شديد الخطر، به كانت الأمة الإسلامية خير أمة، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]، وبسبب التقصير غضب الله على اليهود وجعل منهم القردة والخنازير قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 78- 79].
وقد قلت عناية المسلمين به في هذا العصر، حتى ندر منهم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، جبنًا من السطوة حينًا، وحرصًا على الدنيا أحيانًا، تركوه خوفًا على الصداقة والمودة، ونسوا أن المودة توجب حقًا وحرمة، وحقها النصح والهداية إلى سواء السبيل، وحرمتها الإنقاذ من النار (22).
____________
(1) أخرجه ابن ماجه (42).
(2) اعتلال القلوب للخرائطي (1/ 34).
(3) أخرجه الترمذي (3510).
(4) أخرجه الترمذي (2514).
(5) أخرجه مسلم (2750).
(6) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 15).
(7) تيسير الكريم الرحمن (ص: 923).
(8) تفسير ابن كثير (8/ 319).
(9) أخرجه مسلم (1/ 11).
(10) أخرجه البخاري (127).
(11) تفسير ابن كثير (8/ 380).
(12) التحرير والتنوير (30/ 306).
(13) أخرجه البخاري (3612).
(14) أخرجه البخاري (3461).
(15) إنما أنت مذكر/ موقع المسلم.
(16) شرح النووي على مسلم (2/ 23).
(17) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/ 406).
(18) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 185).
(19) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 186).
(20) المجالسة وجواهر العلم (3/ 364).
(21) الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم (2/ 406).
(22) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 188).