الداعية بين أبنائه
أبناء الدعاة هم الامتداد الأقرب للدعوة، وهم أسود المستقبل، وثمار الغد المشرق، إذا صلحوا صلح بهم غيرهم، وشايعوهم على الخير.
ومما لا يسوغ للمسلم التخلي عنه ولا إهماله أبدًا أمر أسرته وأولاده، امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214].
فالآباء الذين يسيئون تربية أولادهم، فينشئون على المعاصي مثل آبائهم، فإنهم يتحملون إثم إضلالهم منضمًا إلى إثم ضلالهم، من غير أن ينقص ذلك من إثم الأولاد المكلفين شيئًا، فكلٌّ مسئول عن ضلاله، وفي وجوب وقاية الأولاد من المعاصي التي تدخلهم النار.
والوقاية السابقة خير من العلاج اللاحق، ووقاية النفس تكون بالسلوك الحسن الذي يقيها من الزلات والعثرات، ووقاية الأهل تكون بحسن توجيههم وتقويم اعوجاجهم، ووقاية الأولاد تكون بحسن تربيتهم، والعمل المتواصل على إعدادهم للحياة الصالحة، دينًا ودنيا، منذ الطفولة الأولى.
قال أبو بكر الرازي الجصاص: «وهذا يدل على أن علينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يستغنى عنه من الآداب، وهو مثل قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[طه:132]، ونحو قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214]، ويدل على أن للأقرب فالأقرب منا مزية، في لزومنا تعليمهم، وأمرهم بطاعة الله تعالى، ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته»، قال: وحسبت أن قد قال: «والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته»(1).
ومعلوم أن الراعي كما عليه حفظ من استرعي، وحمايته، والتماس مصالحه، فكذلك عليه تأديبه وتعليمه، وبذلك يكون الأزواج والآباء قوامين بالمسئولية الدينية والاجتماعية الملقاة على عواتقهم خير مقام، وتكون حياتهم الشخصية والعائلية في مأمن من الهزات والأزمات، وإلا حقت عليهم وعلى من يقع تحت ولايتهم كلمة العذاب، في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124].
إن تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة، فالنار هناك، وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظر هناك، إنها نار فظيعة متسعرة: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ} فكيف بالدعاة إلى الله.
إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه، فلا يصعب على طارق، ولا يستعصي على مهاجم!
وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله، واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيدًا.
هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يدركوه جيدًا، إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت؛ إلى الزوجة، إلى الأم، ثم إلى الأولاد وإلى الأهل بعامة، ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولًا عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر طويلًا بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلًا كثير الثغرات! وفي الجماعة المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو في أيامنا هذه، كان قد أنشئ مجتمع مسلم، في المدينة، يهيمن عليه الإسلام، يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية، ويهيمن عليه بتشريعه المنبثق من هذا التصور.
ويتعين على الآباء المؤمنين، الذين يريدون البعث الإسلامي، أن يعلموا أن الخلايا الحية لهذا البعث وديعة في أيديهم، وأن عليهم أن يتوجهوا إليهن وإليهم بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر(2).
وعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف»(3).
ولعل أول كلمات الحديث: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك».
وآخر الكلمات: «رفعت الأقلام وجفت الصحف» تدل على المستوى الذي يمكن أن نتعامل به مع الأبناء.
ومن هنا يجب مراعاة السن في تأصيل منهج الدعوة عند الأبناء؛ ولكن هذه المراعاة يجب أن تقوم على أساس أن الطفل في واقع الدعوة له سمات خاصة، أهمها التميز الناشئ عن الخبرة المكتسبة من الحياة داخل بيت الدعاة، والعمر العقلي السابق للعمر الزمني لأبناء الدعاة، مما يتطلب مستوى خاصًا للتعامل.
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، كان فطيمًا، فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: «أبا عمير، ما فعل النغير؟»(4)، قال: فكان يلعب به.
ومن أهم مقتضيات الحكمة والتوازن، في التعامل مع الأبناء، الحذر من الانشغال عن الأسرة والأبناء بمهام الدعوة، والنظر إليهم على أنهم أمرًا دنيويًا لا يجب أن يشغله.
والصواب هو اعتبار الأبناء من أهم قضايا الدعوة، وهو ما تبين من الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»(5)، ولكن مقتضيات الدعوة تحتم إعطاءها الاهتمام الواجب؛ لذا يصير من الضروري على الداعية معالجة أثر هذا الاهتمام في نفس أبنائه، حتى لا يفهموا أن اهتمام أبيهم بأمر المسلمين على أنه تقصير في واجبه معهم، وفي هذا الإطار يجب أن يفهم الأبناء أن الاهتمام بأمر المسلمين واجب شرعي «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»(6)، وليس ذلك فقط؛ بل هو بركة ستصل إلى الأبناء، ليصبح الأبناء علي يقين بأن الله يعين العبد الذي يهتم بأمر المسلمين على أداء واجبه نحو بيته وأسرته، فييسر الله له القيام بجميع الواجبات.
إن من أهم متطلبات الدعوة تعريف الفرد بخالقه، وبناء العلاقة بينهما على أساس ربانية الخالق وعبودية المخلوق، وإعداد الفرد للحياة الآخرة, وكذلك تطوير وتهذيب سلوك الفرد، وتنمية أفكاره، وتوجيهه لحمل الرسالة الإسلامية إلى العالم, وغرس الإيمان بوحدة الإنسانية، والمساواة بين البشر، والتفاضل لا يكون إلا بالتقوى, كما تسعى التربية الإسلامية السليمة إلى تحقيق النمو المتكامل المتوازن للطفل في جميع جوانب شخصيته.
وغالبًا ما تكون شخصية الداعية قوية ومؤثرة، ولهذه القوة جانب إيجابي وآخر سلبي؛ أما الجانب الإيجابي فيتمثل في القدرة على التأثير على الأبناء وجميع من بالبيت، والجانب السلبي فيبرز في طغيان هذا التأثير على شخصية الأبناء المتكونة، بقصد أو بدون قصد، وتكون النتيجة أن لا يجد الابن لنفسه مكانًا بجوار أبيه، أو تأخذه هيبةُ أبيه بعيدًا عن مواجهته أو حتى التفاهم معه، وغالبًا ما يُؤْثِر السلامة، وينقاد لما يمليه عليه الأب؛ ليكون الحق والواجب هو رأي الأب وتصرفاته(7).
وهي حالة من السيطرة على سلوك الأبناء دون الالتفات كثيرًا لمعالجة المفاهيم والتصورات، هي حالة من فرض شخصية الأب كأب وليس كداعية، وهي حالة من الغفلة عن مشاعر الأبناء وشخصيتهم المتكونة، وهي حالة من الإحساس بالتملك والأحقية في الانفراد بالقرار، أو هي حالة من الانشغال بأمور الدعوة وعدم وجود مساحة لممارسة الدعوة داخل البيت !
وينتج عن ذلك أخطار أبرزها:
1- سلبية الابن في التفكير ومواجهة المشاكل.
2- الانفصال والتمرد والانشقاق في أقرب فرصة يراها الابن مواتية، ويرى نفسه قادرًا عليها، بحثًا عن ذاته التي فقد الإحساس بها مع أبيه، وغالبًا ما يأخذ اتجاهًا معاكسًا أو مباعدًا عن اتجاه الأب الداعية.
3- ويتبع هذا تكلم عوام الناس عن نتاج بيوت الدعاة، وكيف أنهم يفشلون أحيانًا في تربية أبنائهم.
ولتفادي هذه السلبيات أمران:
الأول: ضبط المفاهيم لا ضبط السلوك:
عند التأمل نجد أن السبب الرئيس في هذه السلبيات هو أن الداعية يتعامل مع السلوك لا مع المفاهيم والتصورات، يضبط السلوك بالأمر والنهي، والثواب والعقاب، فيبدو للناشئة أن الأمر أمرُ الأب، وأن الطاعة واجبة لأن الأمر من الأب؛ ولذا ما أن يجد الطفل فرصة للاستقلال إلا ويستقل ويتمرد، وغالبًا ما يسير في اتجاه معاكس أو مباعد لما عليه أبوه، أو يظل هادئًا تحت أبيه، قد ألِفَ الأمر والنهي، فلا يتحرك إلا بأمر أو نهي؛ فيخرج للناس، حين يشب، مهزوزًا أو مهزومًا أو ضعيفًا لا يحرك ساكنًا، أو على غير درجة أبيه على الأقل.
ولذا وجب على الأب أن يستمد قوته ووجوب طاعة ولده له من الإسلام، فالأب يطاع لأن الله أمر بطاعة الأبوين، وهذا يُفعل لأن الله أمر به، وهذا يُترك لأن الله نهى عنه، وقد جعل الله للأبوين مزية {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]، {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء:23-24]، {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
وكونه داعية يعطيه مزية أخرى؛ إذ إن الشرع قد جعل لأهل العلم فضل بين الناس {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9]، ثم هو بشر قد يخطئ ويصيب، والمرء بجملته، والماء إذا بلغ القلتين لا ينجسه شيء.
الثاني: الموازنة بين الواجبات:
الموارنة بين مقتضيات الدعوة وحق الزوجة والأبناء:
حِمْلُ الدعوة ثقيل، ولا ينفك عن الداعية، فالناس ومشاكلهم، والمخالفين ومناوشتهم، ومسائل العلم وقد تعززت وأبت إلا على جَلدٍ صبور، والزوجة والأولاد، والسعي على الرزق.
والداعية إنسان قد يجنح حينًا إلى هذا أو ذاك، وغالبًا ما يرفع عن البيت، ويحل في الدعوة وبين مسائل العمل؛ خوفًا من أن يكون المكث بين الأولاد وبجوار الزوجة ركون إلى الدنيا الدانية، وانشغال بما يظن أنه لا ينفع، أو أنه دون الأولى، وهذا تصور خاطئ، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يداعب الصغير، ويجلس للزوجة يسمع حديثها، ويدعو، ويجاهد، ويتنسك، والأمر يسير لمن أسلم أمره لله، وانطرح بين يدي مولاه، يرجو منه العون والسداد والقبول والرشاد.
إن أمر الأبناء واجب من الواجبات، وعلى الداعية الموازنة بينه وبين غيره من الواجبات، وإن ثم انشغال وتقصير فعليه أن يبين لهم ما الذي أشغله، ويشركهم معه في همِّه، أو يزيح ما على صدورهم من انصراف أبيهم عنهم.
الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة:
كلنا نريد أن يكون أبناؤنا نموذجًا كاملًا للشخصية المسلمة، نريدهم علماء عاملين، دعاة مجاهدين، نريدهم تجسيدًا للمفاهيم الإسلامية بين الناس، ويشتد بعض الدعاة في تحقيق هذا الأمر في أبنائه؛ وخاصة إذا كان الداعية يعاني من الاستضعاف وقلة استجابة الناس لدعوته، فتجده يركز على أبنائه باعتبارهم في حالة استجابة طبيعية كأبناء؛ فيسعى الأب، وبكل قوته، في جعل أبنائه نموذجًا كاملًا لقضايا الدعوة، دون اعتبار للمرحلة الزمنية التي يمر بها الأبناء، ويَعْمَدُ إلى تلقين المصطلحات العلمية، ويربيه التربية القاسية أملًا في أن ينشأ التنشئة القوية.
ويحدث بسبب هذا السلوك من الأب خطأ تربوي فادح، وهو عدم الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة؛ إذ إنه يجب مراعاة السن في تأصيل منهج الدعوة عند الأبناء.
وأبناء الدعاة لهم سمات خاصة، أهمها أن العمر العقلي لأبناء الدعاة يكون سابقًا للعمر الزمني، بموجب الخبرة المكتسبة من الحياة داخل بيت الدعاة، والعمر العقلي السابق للعمر الزمني لأبناء الدعاة يتطلب مستوى خاصًّا من التعامل ليس كغيره من القرناء.
التربية الفكرية للأبناء:
يجب الإقرار بأن الأب يحب أن يرى الناسُ ابنَه متميزًا؛ ولكن يجب الانتباه في ذلك إلى خطر الرياء، والحد الفاصل بين الرياء والمباهاة بالابن من ناحية، وبين الفرح بما عليه الابن من الخير من ناحية أخرى هو الإخلاص، وذلك بأن نفرح بما يحبه الله في الابن، ونفرح لأن الله مَنَّ على ذريتنا بهذه الشمائل التي يحبها.
ويجب متابعة الابن لمعالجة أي أثر يحدثه المجتمع فيه، والانتباه لخطر إهمال هذه المتابعة، وهي متابعة وسطٌ بين المراقبة اللصيقة، التي تورث النفرة والبغض من ناحية، وبين الإهمال والترك بالكلية من ناحية أخرى.
ومن الخطأ منع الأب الداعية ابنَه من الاحتكاك بالمجتمع؛ حتى لا يعيش في أبراج صنعها لنفسه بخياله، ثم يصطدم بالواقع الحياتي الذي يجب أن يعيشه.
والقاعدة في معالجة مشكلة احتكاك الأبناء بالمجتمع هي التكوين الفكري والوجداني قبل الخروج إلى المجتمع ومواجهته، أو التصدي لمشاكل المجتمع التي تتولد عند الطفل، من خلال غرس المفاهيم والتصورات الإسلامية الصحيحة عند الطفل، حال حدوث هذه المشاكل أو بعدها.
الدعوة في بيت الداعية:
من فضل الله علينا أن جعل الأب عند الابن أعظم الناس؛ لتسهل عملية التربية وغرز القيم السوية عند الأبناء.
لكن من منَّ الله عليه بكثرة الأتباع، وبثمرة في حياته، قد يكون لهذا أثرًا سلبيًا عند الطفل؛ إذ إنه يركن إلى نجاح أبيه، ويحسب أن الأب قام بما يجب، ولم يعد الابن بحاجة إلى أن يرث علم أبيه، ويسير بين الناس بسيرة أبيه.
أو يكون هذا الشعور من الداعية نفسه، يحسب أن ما قام به يكفي عن أبنائه، وهنا لا بد من الالتفات للأبناء وغرس المسئولية في صدورهم، وأن المسئولية أمام الله فردية لا يغني فيها أب عن ابن، قال الله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
مؤلم لعين الداعية أن يرى ابنه أو أخاه أو قريبه يشق في حياته طريقًا مغايرًا له، والله إن القلب ليحزن من رؤية بعض ذوي أرحام الدعاة وقد افترشوا الطرقات، وأصبحوا من أهلها، يقتلون بها أوقاتهم؛ بل أنفسهم، وإن الرجل منا ليرى البعيد، وهو يلاحظ اختلاف نهج الداعية عن نهج رحمه فيهمه ذلك، وتشغل تفكيره تلك الملاحظات.
تنطلق جسامة هذه المشكلة من تشابكها وارتباطها بعدد من المشكلات، وعمق تأثيرها في محيط الدعاة على المدى المتوسط والبعيد، فالداعية جندي أوقف حياته لله، وجاد بنفسه وأرخصها، وهي النفيسة، وراح يتلمس مهاوي الردى يلقيها بها فِدًى لدينه، وأخذ على نفسه عهود الله والمواثيق ألا يولي الدبر، وألا يتولى يوم الزحف إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة، وإن اقتحم الأعداء فأول مواطئهم جثته.
أكثير على أهلينا سُبع أسبوعنا نمنحهم إياه، ونوجه خيرنا الوافر لهم؟ أمنطق أن نسقي حدائق الأبعدين، وأشجار أرحامنا ظمأى، والبئر في أرضها؟ أكاد أجزم أنه لو بقي أحدنا في بيته يومًا كاملًا لاندهش أهله لعدم خروجه، لم لا نقتطع من أيامنا يومًا نلتزم فيه بعدم الخروج مع الغير، نتنزه مع أهلنا فيه، ونقطع رتابة الأيام بنكتة صادقة حاضرة، وثغر مبتسم، وروح خفيفة مرحة، ويد كريمة سخية؟ إن كان بعض المدعوين يجحد الخير ويتمرد حينًا على من وهبه إياه، فإن أهل بيتك أبدًا لن ينسوا لك تلك النزهة؛ بل ستراهم يتذكرونها ويشتاقون إليها، ويربطون كل سعادة لهم بها، وياليت شعري ما علموا أنك لم تأبه لتلك النزهة.
إن بعض الدعاة عندما يدخل منزله ومأواه يتصل حاجباه تقطيبًا، ويزفر أنفه تجهمًا، وهو الذي اتسع صدره لذلك العاصي الأول، وتراه قد اختزل وتضاءل حتى عاد لا يتسع لحديث ابنه الطفل، ولا لفكاهة أخيه، وله مع سائر أهله معاملة القائد البغيض للجنود، ليس لهم حق الاعتراض أو المناقشة في القرارات، فضلًا عن إبداء الاقتراحات، في حين له عليهم الطاعة المطلقة، وأهله يستغربون مديح الناس له من حيث طلاقة وجهه، ورحابة صدره، ويتعجبون فيما بينهم من غياب تلك الطلاقة في بيتهم، ولولا عدد المادحين لكذبوهم، ولكن البيوت أسرار وخفايا، أداعية خارج البيت جبار داخله؟!
ختامًا:
أولًا: وجود التكاليف الدعوية الكثيرة، والتي تقلل من فرص بقاء الداعية في بيته كسائر الآباء والأبناء والإخوة، لا ينتصب عذرًا عن أداء حقوقهم عليه؛ من تربية، ومصاحبة، ونفقة.
ثانيًا: الفوضى تضيع حقوق الناس، وتجعل الأعمال كسلاسل الجبال أمام الإنسان، فتأخذ الكثير من مشاعره وجهده، وقد يلقي بحظ أهله في ذيل قائمة أولوياته، والأولى أن يعالج طريقة ترتيب وقته، وإدارة ذاته، حتى يعطي كل ذي حق حقه.
ثالثًا: اعتبار مرحلة منافرة الأهل محطة لازمة العبور في حياة الداعية هو اعتبار سقيم، يفرخ تصرفات سقيمة، والتي منها البحث المجهري عن أخطاء يقترفها الأهل؛ لتكون نواة للمنافرة والصدام إبان النهي عن المنكر، والكتاب الذين تصدوا لعلاقة الداعية مع أهله، وبسطوا الأمر على أساس المجابهة والمحاربة، مستشفعين بأدلة مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما مع أميهما، إنما ذكروا مرحلة من وجوه التعامل، تسبقها مراحل عديدة شبيهة بمراحل الدعوة الفردية؛ كتوثيق العلاقة، وبناء الثقة، ومن ثم إيقاظ الحس الإيماني، وغيرها من المراحل، فإن استقبل الأهل هذه الخطوات بعداء وحرب، حينها تصح تلك الأمثلة، مع مراعاة الطاعة فيما لا معصية فيه(8).
عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(9).
____________
(1) رواه البخاري (893).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب (6/3619-3620).
(3) رواه الترمذي (2516).
(4) رواه البخاري (6129)، ومسلم (2150).
(5) رواه مسلم (995).
(6) رواه مسلم (2699).
(7) أبناء الدعاة، مسألة في التربية، رفاعي سرور، موقع الألوكة.
(8) أبناء الدعاة هل يكملون المسيرة، شبكة أنا المسلم.
(9) رواه الترمذي (3895).