logo

دفاع الله عن المؤمنين


بتاريخ : الأربعاء ، 7 جمادى الأول ، 1439 الموافق 24 يناير 2018
بقلم : تيار الاصلاح
دفاع الله عن المؤمنين

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب»(1)، فإن الله تعالى يتولى نصرة أوليائه، ويحبهم ويؤيدهم، فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه، وهذا يدل على خطورة معادة أولياء الله عز وجل، وأن أهلها وصفوا بهذا الوصف، وهو أنهم محاربون لله عز وجل، والله تعالى محارب لهم، فهذا يدلنا على قبح معاداة أولياء الله، وأن المطلوب هو موالاتهم ومحبتهم، وذلك في الله ومن أجل الله، والحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وأما معاداة أولياء الله فهي من أقبح الأمور ومن أسوأ الأشياء؛ وذلك لأن المطلوب في حقهم الولاية وليس المعاداة.

وقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، وعلى قدر إيمان العبد يكون دفاع الله تعالى عنه، وإذا ارتقى العبد في الإيمان إلى مقام الولاية تأذن الله بالحرب لمن عاداه، وقد يكون المسلم الضعيف المغمور وليًا وأنت لا تدري، فاحذر من أذية من تولى الله الدفاع عنهم؛ قال ابن كثير رحمه الله: «وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]؛ أي: ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، وهذا هو البهت البَيِّن؛ أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم»(2).

فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج، كان يصلي، جاءته أمه فدعته، فقال: أُجيبُها أو أصلي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعيًا فأمكنته من نفسها، فولدت غلامًا، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلا من طين، وكانت امرأة ترضع ابنًا لها من بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها وأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه، ثم مر بأَمَة فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون: سرقت، زنيت، ولم تفعل»(3).

قال محمد الطاهر بن عاشور: «لأن دفاع الله عن الناس يكون تارة بالإذن لهم بمقاتلة من أراد الله مدافعتهم عنهم، فإنه إذا أذن لهم بمقاتلتهم كان متكفلًا لهم بالنصر»(4).

وقال ابن عثيمين: «إن أعداء الله يصفون أولياءه بما يوجب التنفير عنهم لقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ الْسُفَهَاءُ}؛ فأعداء الله في كل زمان، وفي كل مكان يصفون أولياء الله بما يوجب التنفير عنهم؛ فالرسل وصفهم قومهم بالجنون، والسحر، والكهانة، والشعر تنفيرًا عنهم، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الْذِّينَ مِنْ قَبْلِهِم مِن رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَو مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِ نَبِيٍ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِين} [الفرقان:31].

وورثة الأنبياء مثلهم يجعل الله لهم أعداءً من المجرمين، ولكن {وَكَفَى بِرَبِكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]؛ فمهما بلغوا من الأساليب فإن الله تعالى إذا أراد هداية أحد فلا يمنعه إضلال هؤلاء؛ لأن أعداء الأنبياء يسلكون في إبطال دعوة الأنبياء مسلكين؛ مسلك الإضلال والدعاية الباطلة في كل زمان ومكان، ثم مسلك السلاح؛ أي المجابهة المسلحة؛ ولهذا قال تعالى: {هَادِيًا} في مقابل المسلك الأول الذي هو الإضلال، وهو الذي نسميه الآن بالأفكار المنحرفة، وتضليل الأمة، والتلبيس على عقول أبنائها، وقال تعالى: {وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، في مقابل المسلك الثاني، وهو المجابهة المسلحة.

تحقيق ما وعد الله به من الدفاع عن المؤمنين، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فإذا ذموا بالقول دافع الله عنهم بالقول؛ فهؤلاء قالوا: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُفَهَاءُ}، والله عز وجل هو الذي جادل عن المؤمنين، فقال: {أَلَا إِنَّهُم هُمُ السُفَهَاءُ} يعني هم السفهاء لا أنتم؛ فهذا من تحقيق دفاع الله تعالى عن المؤمنين؛ أما دفاعه عن المؤمنين إذا اعتدي عليهم بالفعل فاستمع إلى قول الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]: هذه مدافعة فعلية، حيث تنزل جنود الله تعالى من السماء لتقتل أعداء المؤمنين؛ فهذا تحقيق لقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]؛ ولكن الحقيقة أن هذا الوعد العظيم من القادر جل وعلا، الصادق في وعده، يحتاج إلى إيمان حتى نؤمن بالله عز وجل، ولا نخشى أحدًا سواه، فإذا ضعف الإيمان أصبحنا نخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية؛ لأننا إذا كنا نراعيهم دون أوامر الله فسنخشاهم أشد من خشية الله عز وجل؛ وإلا لكنا ننفذ أمر الله عز وجل، ولا نخشى إلا الله سبحانه وتعالى.

فنحن لو آمنا حقيقة الإيمان بهذا الوعد الصادق، الذي لا يخلف، لكنا منصورين في كل حال، لكن الإيمان ضعيف؛ ولهذا صرنا نخشى الناس أكثر مما نخشى الله عز وجل، وهذه هي المصيبة، والطامة العظيمة التي أصابت المسلمين اليوم؛ ولذلك تجد كثيرًا من ولاة المسلمين لا يهتمون بأمر الله، ولا بشريعة الله، لكن يهتمون بمراعاة فلان وفلان، أو الدولة الفلانية والفلانية، ولو على حساب الشريعة الإسلامية، التي من تمسك بها فهو المنصور، ومن خالفها فهو المخذول، وهم لا يعرفون أن هذا هو الذي يبعدهم من نصر الله، فبدلًا من أن يكونوا عبيدًا لله أعزة صاروا عبيدًا للمخلوقين أذلة؛ لأن الأمم الكافرة الكبرى لا ترحم أحدًا في سبيل مصلحتها؛ لكن لو أننا ضربنا بذلك عرض الحائط وقلنا: لا نريد إلا رضا الله، ونريد أن نطبق شريعة الله سبحانه وتعالى على أنفسنا، وعلى أمتنا؛ لكانت تلك الأمم العظمى تهابنا؛ ولهذا يقال: من خاف الله خافه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء»(5).

وقال الليث: «العافية دفاع الله عن العبد»، يقال: عافاه الله من المكروه يعافيه معافاة وعافية(6).

لقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم، ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتمًا من عدوه، ظاهر حتمًا على عدوه، ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح، والجهد والمشقة، والتضحية والآلام، والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة، ولا تضحية ولا ألم، ولا قتل ولا قتال؟

والجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا، وأن لله الحجة البالغة، والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة، ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حَمَلَة دعوته وحماتها من (التنابلة) الكسالى، الذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزل عليهم نصره سهلًا هينًا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء! نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القرآن، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء.

ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة، والذخيرة التي يدخرونها للموقعة، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه، ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله(7).

لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة، فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهي تواجه الخطر وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة، عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها، ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة، ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال.

والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كل قواها، وتحفز كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها؛ كي يتم نموها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.

والنصر السريع الذي لا يكلف عناءً، والذي يتنزل هينًا لينًا على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور؛ لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.

وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه، أولًا لأنه رخيص الثمن، لم تبذل فيه تضحيات عزيزة، وثانيًا لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به، ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه، فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.

وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية، تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر، ومن المشاعر المصاحبة لها من الأمل والألم، ومن الفرح والغم، ومن الاطمئنان والقلق.

ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة، ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة، والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها، وكشف نقط الضعف ونقط القوة، وتدبير الأمور في جميع الحالات، وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس.

من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله؛ جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء .

والنصر قد يبطئ على الذين ظُلِموا وأُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله؛ فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله.

قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلًا!

وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا، لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.

وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سندًا إلا الله، ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.

وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟»، فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»(8).

كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!

وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!

وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل، الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائمًا حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه! من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية(9).

والذي خلق الكون فقال له: كن، فيكون، هو نفسه يدافع عن الذين آمنوا، ولم يقل: يدْفع؛ بل يدافع؛ لأن دافع مصدره المدافعة، والمدافعة أبلغ من الدفاع، دفع دفعًا، ودافع مدافعةً {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.

 ولا يعرف معنى هذه الآية إلا المؤمن؛ لأنه من خلال تجاربه اليومية يرى رأي العين كيف أن الله سبحانه وتعالى يدافع عنه، وكيف أن الله سبحانه وتعالى ينقذه من عدوه، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يكيد لمن يكيدون له، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يحفظه بحفظه المنيع، هذا المعنى لا يتذوقه إلا المؤمن.

هذه الآية لها معنى قد تدركه عقولنا، إلا أن هذه الآية تستوجب منك الكثير من المعاناة، فمن كان مؤمنًا حقًا وكان يدعو الله حقًا في سره وجهره، وقد رأى من مدافعة الله عنه الشيء الكثير عندئذ يعرف معنى هذه الآية، ويعيش هذا المعنى، أن تعيش المعنى أبلغ من أن تفهمه.

كن مؤمنًا، والله سبحانه وتعالى يتولى الدفاع عنك، الإنسان العادي أحيانًا يشعر بغبْطة وبطمأنينة لا حدود لها إذا وكل محاميًا لامعًا في قضية شائكة، يقول لك: أنا محاميَّ فلان، وهو من ألمع المحامين، وله صلات وثيقة مع القضاة، واجتهاده لا يخطئ، وله شخصية قوية، وله هيبة في قصر العدل، وقد وكلته وأنا مطمئن، فما قولك إذا كان الذي يتولى الدفاع عنك هو الله سبحانه وتعالى؟

كن مؤمنًا واحْظ بهذا الشرف العظيم، كن مؤمنًا ونم مطمئنًا هادئ البال، فلن تستطيع جهة على وجه الأرض أن تنالك بالأذى؛ لأن الله يدافع عنك، كن مطمئنًا ولا تخش إلا الله، كن مطمئنًا وكن مؤمنًا، ولا تأخذك في الله لومة لائم.

ما أكثر القرى التي يهْلكها الله وهي ظالمة، {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، قصر مهجور، وبئر معطلة، صورة من صور إهلاك القوى.

لذلك فربنا عز وجل أعطانا صورة بلاغية كيف أن هذه القرية الظالمة التي أهلكها الله عز وجل لا ترى فيها إلا بئرًا معطلةً وقصرًا مشيدًا، هذا معنى(10).

حين تضيق بالخائفين من غير الله السبل، وترتجف أفئدة الوجلين مما يسمى بالقوى العالمية، فيحسبون لأسلحة العدو وإعداداته كل حساب، حين يمتلك الرعب قلوب بعض الناس حتى يخيل إليه أن لهؤلاء الكفرة في كل جدار جهازًا للتجسس، وأن لهم في كل سماء قمرًا للمراقبة، وأنهم يعلمون من أحوال المسلمين ما لا يعلمه المسلمون من أنفسهم، ويطلعون من ثغراتهم على ما لا يطلعون عليه، إذْ ذاك تأتي الجنود الإلهية اللطيفة في طبيعتها وتكوينها، العاتية في سحقها لكل من خرج عن أمر ربه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].

حين يكفر أكثر من في الأرض ويضلون عن سبيل الله ويضلون، ثم يتمادون في غيهم فيؤذون عباد الله بلا ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله، حين تصل الحال ببعض المؤمنين إلى أن يقفوا مستبطئين النصر والفرج، يكاد اليأس يلتهم قواهم ويوهي عزائمهم؟ هناك يتنزل من الله نصر للمؤمنين، ويحق منه خذلان على الكافرين، ليعلم الفريقان أيهم على الحق ممن هو في ضلال، وليتبين لمن في الأرض أيهما أشد وأبقى، أهو استضعاف أقوياء البشر للمغلوبين على أمرهم، أم انتقام رب البشر من الظالمين المتسلطين؟! ويرسل الله من مخلوقاته أصغرها حجمًا وأقلها شأنًا وأخفاها عن الأنظار، لتكون غصةً في حلوق طالما شرقت بظهور الإسلام، وعمى لأعين رمدت بانتشار الدين الحق.

وقد أهلك الأمم السابقة لما تمادوا وبغوا وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فهذا نوح عصاه قومه وسخروا منه، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)} [القمر:10-14]، وأهلك تعالى ثمود بالطاغية، وأهلك عادًا بريح صرصر عاتية، وأهلك بالحاصب قوم لوط، وبالصيحة قوم شعيب.

ولما تكَبَّر فرعون وقومه أرسل الله عليهم من الآيات ما يثبت لهم ضعفهم وعجزهم، قال سبحانه: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133]، فلما تمادوا وطردوا موسى وقومه حتى {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} قال موسى وهو الواثق بربه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62]، فنصره الله بإهلاك فرعون وقومه بالماء، وبالريح نصر الله القلة المؤمنة على الأحزاب المتكاثرة، وبذلك امتن سبحانه على المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].

وإنه متى عادت الأمة إلى ربها وصدقت مع مولاها فلن تُخذَل {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]، فكونوا على ثقة أن ما يجري في الكون فإنما هو لحِكَمٍ يعلمها الحكيم العليم سبحانه، وأنه ما ظهر فساد في البر والبحر، من وباء أو مرض، أو أزمة مالية أو اقتصادية، أو مشكلة اجتماعية أو كارثة دولية، أو ضيق في الأرزاق أو قلة في البركات إلا بما كسبت أيدي الناس {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ففروا منه إليه، وتوكلوا عليه؛ فإنه ناصر عباده المؤمنين {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].

ولكن لا يجوز للداعي المسلم أن يحدد لله وقتًا لإنزال نصره وإعانته على أعدائه، ولا نوعًا معينًا أو كيفية معينة لهذا النصر أو العون، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيي وزكريا وَشَعْيَاءَ؛ سُلِّط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، فسلط على اليهود الذين أرادوا قتل عيسى عليه السلام، سلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم، وقال السدي: لم يبعث الله عز وجل رسولًا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قومًا من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا، قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها، وهكذا رسوله، أمره بالهجرة ثم رجع إليها فاتحًا منتصرًا»(11).

وما دام الداعي المسلم ينصر الله؛ أي: ينصر دينه بالدعوة إليه، فإن الله تعالى ناصره، قال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، فعلى الداعي أن يتيقن ذلك ولا يشك فيه أبدًا، قال صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من الطائف، وقد رده أهلها أسوأ رد، وكان معه زيد، قال عليه الصلاة والسلام لزيد: «إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله تعالى ناصر دينه ومظهر نبيه»(12)، الداعي لا ييأس أبدًا؛ لأن اليأس حرام أن يتسرب إلى القلب الموصول بالله، وإنما يدخل قلوب الكافرين المنقطعة صلتهم بالله، قال عز من قائل: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].

كم نحن في حاجة إلى أن ننزع من نفوسنا حب الدنيا وكراهية الموت، وأن ننزع من نفوسنا الضعف والاستعظام لقوة الأعداء، فإنهم أرذل وأحقر من أن يقارنوا بشيء أمام قوة ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى الذي قال: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، والذي قال: {وَكَانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، والذي قال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55](13).

***

_____________

(1) أخرجه البخاري (6502).

(2) تفسير ابن كثير (6/ 480).

(3) أخرجه البخاري (3436).

(4) التحرير والتنوير (17/ 272).

(5) تفسير القرآن، لابن عثيمين (3/ 24).

(6) تهذيب اللغة (3/ 141).

(7) في ظلال القرآن (4/ 2425).

(8) أخرجه البخاري (2810).

(9) في ظلال القرآن (4/ 2427).

(10) موسوعة النابلسي للعلوم، تفسير سورة الحج.

(11) تفسير ابن كثير (7/ 150).

(12) سبل الهدى والرشاد (2/ 440).

(13) الروح المعنوية عند الملمات، إسلام ويب.