بين أهل الحق وأهل الباطل
الحق هو الصحيح الثابت الذي لا يسع عاقل إنكاره؛ بل يلزمه إثباته والاعتراف به، ومن صفاته أنه واضح لمن أراد أن يسلكه، مَنْ تَعَدَّاه ظلم ومن قصر عنه ندم، ومَنْ صارعه صرعه، وأتباعه هم خيار الخلق، عقولهم رزينة، وأخلاقهم فاضلة، إذا عَرَفُوا الحقّ انقادوا له، وإذا رأوا الباطل أنكروه وتزحزحوا عنه.
وكلمة الحق لها مدلولات عديدة في اللغة العربية، منها: الصواب والعدل في الأقوال والأفعال والمواقف، والباطل هو نقيض الحق، والمطلوب من الإنسان بصفة عامة والمسلم بصفة خاصة أن يتحرى الحق دائمًا، وأن يكون من أهله، فبالحق خلق الله السماوات والأرض، وبالحق أرسل الرسل وأنزل الكتب ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، ويكفي الحق شرفًا أن الله سمى به نفسه، قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].
أمَّا الباطل فهو ما لا ثبات له، وما لا يستحق البقاء؛ بل يستوجب الترك والقلع والإزالة، وأتباعه من أسافل الناس وأراذلهم وسَقَطهم، يُعْرَفُون بتكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، بل إِنْ شئت فقل سُلِبُوا نعمة العقل، فالجهل لهم إمامًا، والسفهاء لهم قادة وأعلامًا.
فَمَا إِنْ يتكلم أحدهم حتى يُعْرَفُ فساد ما عنده، يصور الباطل في صورة الحقّ، ويستر العيوب بزخرف القول، يتلون كالحرباء، فلا يثبت على مبدأ، ولكن إذا شاء طفا، وإذا شاء رسب، فيصدق فيه المثل القائل: يُطَيِّنُ عَيْنَ الشَّمْسِ، أي ينكر الحقَّ الجلىَّ الواضح بحجج سخيفة، وإذا كان الساكت عن الحقّ شيطان أخرس، فالمتكلّم بالباطل شيطان ناطق.
وقد حظيت المقارنة بين الحق والباطل باهتمام الحكماء والأدباء فقالوا: الحقُّ أَبْلَجُ والباطل لَجْلَجٌ، والمعنى: الحق واضح مُشْرِق والباطل غامض.
ومن أقوالهم الجامعة: دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام السَّاعة، للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل، العاقل لا يبطل حقًا ولا يحق باطلًا، الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، حق يضرُّ خيرٌ من باطل يسر.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وقال الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
ومن السهل أن يدعي الإنسان أنه على حق، ولكن التحدي هو: كيف يثبت ذلك؟ فرعون الذي ادعى الربوبية من دون الله، والذي سعى في الأرض بشتى أنواع الفساد من استباحة للدماء والأعراض واستعباد للرقاب، ها هو ذا يظهر بثوب المصلح الذي يخاف على قومه من موسى أن يبدل دينهم وأن يظهر في الأرض الفساد، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَاد} [غافر: 26]، ومع الأسف استطاع أن يخدع قومه فاستخفهم فأطاعوه، هلك التابع والمتبوع.
حتى الشيطان نفسه حينما أراد أن يغوي آدم إنما أغواه لما أتاه في صفة الناصح الأمين، {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21].
من خلال ما سبق يتبين أن أهل الباطل غالبًا ما يلبسونه لباس الحق ليزينوا وجهه القبيح، كالتي تحاول ستر العهر بارتداء النقاب.
لذلك وجب أن نتبين، ونعتمد معايير دقيقة ومنطقًا سليمًا في التمييز بين الحق والباطل، حتى لا تختلط علينا الأمور كما اختلطت على الكثير من الناس فأصبحوا يرون الحق باطلًا والباطل حقًا.
ويبقى السؤال المطروح: كيف نميز بين الحق والباطل إذًا؟
لا بد أولًا أن يكون لدينا نوع من الاستقلالية في الرأي والحكم على الأشياء، وأن يكون موقفنا بناء على قناعاتنا الشخصية، وأن نتحمل مسؤولياتنا كاملة في ذلك، بدل أن نتصرف بعقلية القطيع فننظر إلى الأشياء بعيون شيوخنا وأمرائنا، فما رأوه لنا حقًا أحققناه وما رأوه لنا باطلًا أبطلناه، فالحق لا يعرف بالرجال بل يجب أن نعرف الحق أولًا ثم نعرف أتباعه.
وإن أمة تلغي ملايين العقول من أجل عقل واحد أو بضعة عقول لهي أقرب إلى الضلالة منها إلى الهدى، وإن الذي يرضى أن يفكر الغير مكانه يحكم على نفسه بالسفه لأن الحجر لا يتم إلا على السفهاء، وقد يندم على ذلك ربما بعد فوات الأوان، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67].
وحتى يمكن للإنسان أن يستقل برأيه، لا بد أن يكون لديه قدر من العلم والوعي، فبنور العلم يستطيع التمييز بين الحق والباطل كما يميز المبصر بين الأبيض والأسود، وكلما ازداد الإنسان علمًا اقترب من الحق مسافة، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزمر: 9].
غالبًا ما يكون الحق إلى جانب الأغلبية والكثرة، ولكن ليس دائمًا، فقد يكون الحق إلى جانب الفرد على حساب الجماعة أو إلى جانب الأقلية على حساب الأكثرية، قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]، وقال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
يجب أن يكون الحق فوق الأهواء والمصالح الشخصية والمنافع الدنيوية كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، حين عرض عليه قومه التخلي عن الحق مقابل الجاه والحكم، فرفض رفضًا قاطعًا، وقال قولته الشهيرة الخالدة: « يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته» (1)، وقد ذم القرآن صنيع من ربط الإيمان بالمصلحة، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين} [الحج: 11].
كما يجب أن يكون الحق فوق العواطف والمشاعر، فلا نحابي في الحق حبيبًا مهما كانت خلته ولا صديقًا مهما بلغت صداقته، ولا نجرد صاحب الحق من حقه مهما بلغت بنا عداوته، قال تعال في حق الأعداء: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هَوَ أَقْرَبُ لِلتَقْوَى} [المائدة: 8]، وقال في حق الأقربين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقديمًا قال أحد الفلاسفة: أحب أستاذي وأحب الحق لكن حبي للحق أشد.
والعجيب أنَّ أهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالتهم وصَدّ الناس عنهم بكل ما أوتوا من قوة، ويحْتَالُون في إِضْلَالِهم بكل حِيلَةٍ وإمالتهم إِليهم بكل وسيلة، وقد صَوَّرَ القران طَرَفًا من ذلك، قال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، أي: ولقد كان مكرهم بالحق وبمن جاء به من الشدة بحيث كادت الجبال بسببه تزول وتنقلع من أماكنها، لكن الله بقدرته وقوته يَرُدُّ كيدهم في نحورهم، فلا يغن عنهم كيدهم ولا مكرهم شيئًا، قال سبحانه: {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]، أي: يفسد ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فأمرهم لا يروج ويستمر إلا على غبي أو متغابٍ (2).
والباطل مهما ملك من القوة والعتاد دائمًا ذليل، والحق دائمًا عزيز شعار صاحبه والمدافع عنه: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68]، وهي العبارة التي ذَكَّر الله بها موسى عندما: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه: 67]، من سحر فرعون وضخامته، ومعناها كما يقول صاحب الظلال: أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل، معك العقيدة ومعهم الحرفة، معك الإيمان بصدق ما أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة، أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقًا بشريًا فانيًا مهما يكن طاغية جبارًا (3).
إن القوة المادية- كائنة ما كانت- لا تملك أن تستعبد إنسانًا يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية، فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه، أما الضمير، أما الروح، أما العقل، فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال (4).
والثابت بيقين أَنَّ الغلبة دائمًا للحق، أَمَّا الباطل فأمره الى زوال، وتلك سنة لا تتخلف أبدًا: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]، والزَبَد: ما يعلو الماء وغيره من الرَّغوة عند غليانه أو سرعة حركته، ووجه الشبه هنا أَنَّ الحق في استقراره ونفعه كالماء المستقر النافع، وكالمعدن النقي الصافي، والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلص منها عند انصهاره، فيبقى الحق ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد (5).
قواعد في معرفة الحق:
يجب أن نعلم أن من أعظم النعم والمنن التي ينعم الله تعالى بها على من يشاء من عباده، التميز بين الحق والباطل، وبين أهل الحق، وأهل الباطل، وضبط ما يخالف الحق، وما يوافقه.
وهناك قواعد كثيرة يُتوصل بها إلى معرفة الحق، واجتناب الباطل هي بمثابة منارات، وخصوصًا عند طالب العلم، ومن هذه القواعد:
أولًا: الحق واحد ولا يتعدّد:
فهذه قاعدة من أهم القواعد التي تحفظ الحق؛ لأن أهل الباطل لما فشلوا في طمس الحق، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8]، لم يبق أمامهم إلا التلبيس، محاولة خلط الحق بغيره.
ومن أعظم السبُل الشيطانية القول بإبطال تفرد الحق، وهذه المسألة الآن في هذا الزمان هي معترك في الحقيقة، يعني: أنت عندك نسبة، وأنا عندي نسبة، وهذا عنده نسبة، وأهل الأرض كل واحد عنده نسبة من الحق، فالحق نسبي، وليس هناك حق واحد كامل.
وهذه كارثة كبرى؛ لأننا إذا رضينا بهذا الكلام كان اليهود عندهم حق، والنصارى عندهم حق، والبوذيين عندهم حق، والقاديانية عندهم حق، والرافضة عندهم حق، وكل واحد عنده جزء من الحق، وانتهى الأمر، فلا أحد ينكر على أحد، وضاعت القضية.
ولذلك لا بد من الانتباه إلى المؤامرة الخطيرة في ادعاء أن الحق ليس محصورًا، وأنه ليس واحدًا، وليس مجموعًا في شيء واحد، فنحن نقول: إن الحق واحد، وهو صراط الله المستقيم، الذي أُمرنا بالتمسك به، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
فأفرد الله الصراط، وجمع السبُل، وأمرنا أن نسأله ذلك في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6- 7]، فهو أحد، وقال: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر: 41].
قال ابن القيم: والمقصود أن طريق الحق واحد إذ مرده إلى الله الملك الحق، وطرق الباطل متشعبة، ومتعددة (6).
والله تعالى يُفرد الحق، ويجمع الباطل، كما في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وجمَع السبل؛ لأن طرق الضلال متشعبة، وكثيرة، ولا حصر لها، وأفرد الحق، والصراط؛ لأنه واحد لا يتعدد.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شارحًا ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيمًا، ثم خطّ عن يمينه وشماله»، ثم قال: «هذه السبل، وليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه»، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}، بعد ذلك قال: «ثمّ خط عن يمينه وشماله»، ثم قال: «هذه السُبل، وليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (7).
وسأل رجل ابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ فقال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، جمع جادّة، يعني: الطريق، عن يمينه جواد يعني: طرق، وعن يساره جوادٌ، وثَمَّ رجال يدعون من مرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد، يعني: الطرق الجانبية هذه انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ هذه الآية، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (8).
فطريق الحق واحد، وهو طريق الله، وهو طريق الهداية، وهو طريق الإسلام، وهو طريق الاستقامة، وسبُل الضلال كثيرة خبيثة، وقد قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
والكثرة تأخذ العين وتهول الحس؛ ولكن تمييز الخبيث من الطيب، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته، وكفة الطيب ترجح على قلته.. وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة.. القوامة على البشرية.. تزن لها بميزان الله وتقدر لها بقدر الله وتختار لها الطيب، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث.
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان.. ذلك حين ينتفش الباطل فتراه النفوس رابيًا وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته.. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ولا عدة حوله ولا عدد.. إنما هو الحق.. الحق المجرد إلا من صفته وذاته وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته وإلا من جماله الذاتي وسلطانه! (9).
وقد يشكل على البعض جمع السُّبل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، والجواب: أن السبل هنا ليس المقصود بها المنهج، الصراط الأصلي المستقيم، الإسلام، التوحيد، وإنما المقصود بها سبل الخير، يعني: مثل ما نقول: «الإيمان بضع وسبعون شعبة» (10)، شُعب الإيمان، فإذًا سبل الخير، وشعب الإيمان طبيعي أن تتعدد.
فالصلاة سبيل إلى الجنة، والزكاة سبيل، وبر الوالدين سبيل، والإحسان إلى الجار سبيل، والنكاح بالمعروف سبيل، والإصلاح بين المتخاصمين سبيل، والسكوت عن الشر، والسكوت عن قول الباطل، والسكوت عن إيذاء الآخرين سبيل.
قال صلى الله عليه وسلم: «مَن سلك سبيلًا يلتمس فيه علمًا» (11)، والسبل إلى التعلم كثيرة، فمنها؛ الذهاب إلى العلماء، وثني الركب عندهم، ومنها القراءة في الكتب، ومنها سماع الأشرطة، ومنها السؤال بالهاتف، ونحو ذلك، السبل إلى تعلم العلم كثيرة.
المنهج الأصل واحد، أما سبُل الخير، وسبُل المعروف، وسبُل التعلم، وسبل الصدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر صدقة، وإرشاد رجل في أرض الضلال صدقة، وتهدي الأعمى صدقة، وتحمل الرجل متاعه على الدابة صدقة، وتغيث الملهوف صدقة.
فإذًا، نحن لا نتكلم الآن على سبل المعروف، وسبل الخير، وسبل التعلم، نحن نتكلم الآن على الصراط عند الله المؤدي للجنة، التوحيد، الإسلام، الحق واحد.
ولا يمكن أن يكون غيره صحيحًا، لا يمكن أن تكون اليهودية حق، والنصرانية حق، والبوذية حق، والهندوسية حق، والشرك بأنواعه الموجودة عند الطرق الصوفية، أو عند الرافضة صحيح، والقاديانية، والبهائية، والبابية صحيحة، لا يمكن، هذه أديان وليست سبل معروف، أو طرق خير.
فإذًا، ما نحن بصدده من ذكر أنه واحد هو الدين، وهو الصراط الموصل إلى الله، وهو منهجه، وسبيله، التوحيد، الإسلام واحد، فالله تعالى هو الإله الحق الواحد، ومن يعبدونه، ويوحدونه هم أهل الحق، والآلهة الأخرى باطلة، وعابدوها على الباطل.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، وقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]، ودين الحق واحد، وهو دين الإسلام، وبقية الأديان باطلة، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} ما في إلا دين واحد حق، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، والفرقة الناجية أهل السنة والجماعة واحدة، فلا يوجد عدة فرق على الحق، الفرقة الناجية واحدة.
الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، والبقية هلكى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن من قبلكم مَن أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وأن هذه الملّة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» (12).
وفي رواية قالوا: ومن هي يا رسول الله؟، قال: «ما أنا عليه وأصحابي» (13).
فلو كان الحق متعددًا لما عذَّب الله تلك الفرق، ولما كانت الاثنتين والسبعين في النار، قال عبد الله ابن مسعود: إنما الجماعة ما وافق طاعة الله، وإن كنتَ وحدك (14).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الحق واحد، ولا يخرج عما جاءت به الرسل، وهو الموافق لصريح العقل {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (15).
فأهل السنة والجماعة، والطائفة المنصورة واحدة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (16).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوئهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال» (17).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشَّوب، هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وهم الطائفة المنصورة (18).
ولذلك تجد أنت أن منهج ودين، وعقيدة، وطريقة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، والصحابة، وسعيد ابن المسيب، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وفلان، وفلان واحدة.
فلا تجد عندهم اختلاف في العقيدة، فعقيدة أبو بكر الصديق هي عقيدة الأوزاعي، عقيدة الإمام أحمد، هي عقيدة الثوري، عقيدة شُعبة ابن الحجاج هي عقيدة البخاري، عقيدة مالك، هي عقيدة من سبقه، الخط واحد، العقيدة واحدة، يختلفون في اجتهادات فقهية، لكن لا يختلفون في الأصول أبدًا، كالإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وأركان الإسلام، لا يختلفون في وجوب الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولا يختلفون في مشروعية بر الوالدين، والإحسان إلى الجار، والأخلاق الحسنة ما يختلفون.
نظرية وحدة الأديان:
يزعم بعض مدعي السلام والإصلاح في العالم أن وحدة الأديان ضرورة، ولا بد أن نسلك هذا الطريق، والتقريب بين الأديان، وأن هذا هو الطريق إلى السلام العالمي، وأنَّ تمسك كل أصحاب دين لدينهم يؤدي إلى تفرُّق الناس، وقيام الحروب والعداوات، ومن قال: أن الإسلام لا بغض فيه؟ ومن قال: أن الإسلام لا عداء فيه لأحد؟، ومن قال: إن كتاب الله لا قتال فيه لأحد؟، ومن قال: بأن حكم الله ليس فيه براءٌ من أحد، كيف؟
وأنت تقرأ في كتابه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء: 101]، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29]، قاتلوهم، مَن؟ الذين أتوا الكتاب لا يدينون بدين الإسلام، والمقصود القتال عند القدرة.
إذًا، الذين يقولون: إن تمسك أهل كل دين بدينهم يؤدي إلى عداوات، ويؤدي إلى حروب، والطريق إلى السلام العالمي هو التقريب بين الأديان، ووحدة الأديان يسود السلام.
أولًا: هم أنفسهم المنادون بذلك يحاربوننا، وحربهم لنا في البلاد واضحة جدًا، والذين طرحوا هذه النظرية لم يطبقوها على أنفسهم، لا، بل هم أول المخالفين لها، فيشُنُّون الحرب على الإسلام والمسلمين في كل مكان، وصِقع، وعصر، ومِصر، لم يفتروا عن ذلك.
ثانيًا: أن الكلام هذا في الحقيقة باطل؛ لأنه إذا رجعنا للقرآن والسنة سنجد أن الدين هذا فيه براء، وعداوة، وجهاد، مواقف، فيه بغض، كره، أكيد.
إذا أنت ما كرهت ما يكرهه الله، ولا أبغضت أعداء الله، ولا عاديتَ المشركين بالله، إذًا أنت ماذا؟ لا يكون صاحب ذلك مسلمًا.
لا يمكن، أن يجتمع الحب لله ولأعدائه، الحب لدينه وللأديان الباطلة في قلب واحد؟، لا يمكن.
فإذًا، هذه النظرية؛ نظرية تقريب الأديان، أو وحدة الأديان نظرية باطلة، ويقول أحد روادها العرب: أنا أؤمن بالإسلام، والمسيحية، واليهودية، طبعًا كلامه ليس جديدًا؛ لأن ابن عربي الملحد قال من قبله:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة فمرعًا لغزلانٍ وديرٌ لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى تواجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
فالرجل يحب كل شيء، الله والشيطان، والإسلام واليهودية، الوثنية، كل شيء، الإلحاد.
وهذا أيضًا كقول بعض الضلال.
هذه الدعوة الإلحادية الكفرية الفاجرة، هدفها الأساسي بث الكفر والإلحاد، طمس معالم الإسلام، طمس معالم التوحيد، نشر الإباحية، تغيير الفطرة، مساواة الكفر بالإسلام، {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ (22)} [فاطر: 19-22]، ولا الإسلام ولا الكفر، ولا الشرك ولا التوحيد، ولا السنة ولا البدعة.
الله سبحانه فرّق فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35-36].
وقال الله: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]، ويوم القيام يوم يُسحب اليهود على النار، النصارى إلى النار، وأرباب الأصنام هي وهم معبوداتهم معهم في النار، يسحبون إلى النار يقال: ألا تردون؟ {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)} [الشعراء: 94- 95].
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: أن الدعوة إلى وحدة الأديان إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله سبحانه، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان؛ وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعًا، محرمة قطعًا بجميع أدلة التشريع في الإسلام، من قرآن وسنة وإجماع (19).
هذه العبارات تبرر وجود الكفر، والشبهات، والشهوات، هذه العبارات، وهذه النظرية تبرر استمرار وجود اليهودية، والنصرانية، والأديان الباطلة الأخرى.
اعذروا اليهود في دينهم، واعذروا المشركين عباد الأوثان والأصنام في دينهم، واعذروا عباد القبور في دينهم، واعذروا عباد الكواكب والشمس في دينهم، اعذروهم، ما أحد ينكر على أحد.
قال ابن قدامه رحمه الله: قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في أوله يجعل الشيء ونقيضه حقًا، وفي آخره يخير المجتهدين بين النقيض عند تعارض الدليلين، فيختار، أو يخير المجتهدين بين النقيض عند تعارض الدليلين، فيختار من المذاهب ما يروق لهواه (20).
من تجاوز الحق وقع في الباطل:
من تجاوز الحق وقع في الباطل؛ لأن الحق والباطل عدوان، وضدان لا يجتمعان، وليس هناك برزخ بينهما، ولا منزلة بين المنزلتين، لأن الله قال: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]، أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع سوى الضلال، فمن ترك الحق وهو عبادة الله وحده، فقد وقع في الباطل والضلال وهو عبادة غيره من الآلهة الأخرى (21).
فهذا الاستفهام الإنكاري، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، معناه: لا واسط بينهما، لا يوجد بعد الحق إلا الضلال.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7- 8]، من تجاوز سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقع في البدعة، ومن تجاوز التوحيد وقع في الشرك، ومن تجاوز النور وقع في الظلام، ومن تجاوز الحق وقع في الضلال.
أنواع الخالطين بين الحق والباطل:
الأمثلة كثيرة، الذين يحاولون الجمع بين الحق والباطل هم أهل الباطل؛ لأن هذان ضدان لا يجتمعان، والخالطون بين الحق والباطل أنواع:
النوع الأول: علماء الضلالة من اليهود، وأمثالهم، الذي يلبسون الحق بالباطل، قال الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، لا تلبسوا: لا تخلطوا.
نهاهم عن أمرين: الكتمان، والخلط؛ لأنهم اشتهروا بذلك، يكتمون صفة النبي عليه الصلاة والسلام المكتوبة عندهم، ويخلطون الحق بالباطل، حتى لا يتميز هذا من هذا، والذي يفعل ذلك في هذه الأمة متشبّه بهم.
كالخلط الحاصل بين الحرية، والانفلات من الدين، فالله تعالى أعطى العباد قدرًا من الحرية في الاختيار، ما أعطاهم حرية كاملة في كل شيء، يعني ما قال: تعبدوني، وتعبدوا غيري كما تريدون، تزوج أو تزني، افعل ما تشاء، لك الحرية، ترابي أو تبيع، افعل ما تشاء، لا.
جعل لهم حدودًا، محرمات لا يجوز انتهاكها، وواجبات لا يجوز اختراقها، وتعديها والخروج منها، وفي أشياء كثيرة الإنسان فيها عنده خيارات، مثلًا هو حد له أربع، الجمع بين أربع في الزواج، يعني: أتزوج واحدة، أتزوج اثنتين، يتزوج ثلاثة، يتزوج أربعة، يأخذ ملك يمين، هو حر.
فإذاً، الخلط بين الانفلات من الدين، وقضية الحرية، هذا خلطٌ عظيم بين الحق والباطل، هذا مروقٌ من الدين، هذا تحرر من ضوابط الدين؛ لأنه شذوذ، وعري، وفواحش، وانحطاط، وكفر، خلاص، أنت حر تفعل ما تشاء.
الذين يخلطون اليوم بين الشورى، والديمقراطية، الديمقراطية منتج غير إسلامي، الديمقراطية تقوم على رأي الأكثرية، مثلًا، وقد قلنا سابقًا: أن الأكثرية لا تدل على الحق بالضرورة، والله قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
يعني: الآن لو استفتينا سكان العالم، سكان الكرة الأرضية، يقدّر عددهم بسبعة مليار، لو استفتيناهم على دين الإسلام، لو أربعة مليار قال: ما يعجبنا، ماذا نفعل؟
قرر العالم إلغاء الإسلام؛ لأنه أكثرية أهل الأرض لا يعجبهم، المسلمون لو كانوا مليارين من سبعة، هل هذه أكثرية، لا، لماذا؟ أكثر العالم كفار، انتهت القضية.
في الإسلام أهل الحل والعقد هم الذين يقررون، العلماء، والخبراء، وكبار الناس، والوجهاء، والحكماء، والمشايخ، ورؤوس الناس، خلاص (22).
ومع ذلك هل ترك أعداؤنا مجالًا للمسلمين في الديمقراطية، أن يصلوا إلى نتيجة إسلامية، أو حكم إسلامي؟ وهل تركوا حماس لما وصلت للحكم عن طريق الديمقراطية؟ وهل تركوا جبهة الإنقاظ لما وصلت للحكم؟ وهل تركوا الإخوان في مصر لما جاءوا عن طريق الديمقراطية؟
فالحقيقة أن الديمقراطية حصان طروادة لوصولهم لأهدافهم الخبيثة وأخلاقهم الدنيئة، والله غالب على أمره.
------------
(1) سيرة ابن هشام (1/ 266).
(2) كيف نميز الحق من الباطل؟ هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
(3) في ظلال القرآن (4/ 2342).
(4) في ظلال القرآن (4/ 2096).
(5) التفسير الوسيط للزحيلي (2/ 1158).
(6) بدائع الفوائد (1/ 127).
(7) أخرجه أحمد (4142).
(8) تفسير الطبري (9/ 671).
(9) في ظلال القرآن (2/ 984).
(10) أخرجه مسلم (161).
(11) أخرجه مسلم (7028).
(12) أخرجه أبو داود (4597).
(13) أخرجه الترمذي (2641).
(14) شرح اعتقاد أهل السنة اللالكائي (1/ 109).
(15) منهاج السنة النبوية (5/ 190).
(16) أخرجه البخاري (7460)، ومسلم (5064).
(17) أخرجه أبو داود (2484).
(18) العقيدة الواسطية (1/ 32).
(19) فتاوى اللجنة الدائمة (1- 12/281).
(20) روضة الناظر وجنة المناظر (2/ 361).
(21) التفسير الوسيط لطنطاوي (7/ 64).
(22) قواعد التمييز بين الحق والباطل/ الموقع الرسمي للشيخ محمد صالح المنجد.