logo

الدعاة ومعايشة الناس


بتاريخ : الجمعة ، 7 ربيع الآخر ، 1435 الموافق 07 فبراير 2014
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة ومعايشة الناس

اعتاد بعض الدعاة أن يكونالآمر الناهي فقط، يعيش في قصر من العاج بعيد عن مجتمعه، لا يختلط مع بني جنسه ولا يشاركهم في حياتهم، في حين كان الأنسب له

 

أن يشارك أفراح وأحزان الناس، لا سيما أن المعايشة تشع روح المحبة والإخاء والود، وتسهم في بناء علاقات وطيدة؛ يستطيع من خلالها الوصول بأسرع طريقة ممكنة لقلوب المدعوين.

 

ولقد كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم ملمًا بشئون عصره، واعيًا بمشكلات الناس على اختلافأنواعها، فهو يعلم علم اليقين فساد عقيدتهم وانحرافاتهم،والأوهام التي يؤمنون بها، كما كان يعلم شططهم في الشهوات، وكان مدركًا لتفاهةالأسباب التي تقوم عليها حروبهم؛ لذلك اختاره الله تعالى لتبليغ دعوته؛ليصلح من شأنهم ويعيدهم إلى رشدهم بعد أن فقدوه، وللوصول إلى هذه النتيجةأوحى الله تعالى إليه بالأسلوب الذي ينبغي أن ينتهجه معهم.

هناك ما يسمى بالمنهج الخفي الذي يتعلمه المتلقي من خلال الأخلاق والطباعوردود الأفعال التي يشاهدها, وذلك دون علم من المربي, وهذه نجدها متجسدة في بعضما كان يرويه الصحابة عن رسول في أقواله وأفعاله ولباسه, بل إيماءاتوجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.

فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف«(1)، فالمؤمن يألف لحسن أخلاقه وسهولة طباعهولين جانبه، ولا خيرفيمن لا يألف ولا يؤلف لضعف إيمانه، وعسر أخلاقه، وسوء طباعه، والألفة سببللاعتصام باللّه وبحبله، وبه يحصل الإجماع بين المسلمين، وبضده تحصل النفرةبينهم، وإنما تحصل الألفة بتوفيق إلهي لقوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِاللهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]، إلى قوله: {فَأَلَّفَ بَيْنَقُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

 

قال الماوردي: بين به أن الإنسان لا يُصلح حاله إلا الألفة الجامعة، فإنه مقصودبالأذية محسود بالنعمة، فإذا لم يكن ألفًا مألوفًا، تختطفه أيدي حاسديه، وتحكمفيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تَصفُ له مدة، وإذا كان إلفًامألوفًا، انتصر بالإلف على أعاديه، وامتنع بهم من حساده، فسلمت نعمته منهم،وصَفت مودته بينهم(2).

جاء في الموسوعة الفقهية:إن المخالطة فيها اكتساب الفوائد، وشهود شعائر الإسلام، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم ولو بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، وحضور جماعاتهم، وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد (3).

ولقد صنع ذلك القرآن نفسه مع المجتمع الأول، حيث كانت الآيات تنزل على الحدث مباشرة ليبين الحكم في حينه.

 

تقول عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات؛ لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ}... الآية (4) .

 

يقول سيد رحمه الله: فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها، وقد سمع سبحانه للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته(5).

 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأبطأ بي جملي وأعيا، فأتى علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال «جابر»: فقلت: نعم، قال: «ما شأنك؟» قلت: أبطأ علي جملي وأعيا، فتخلفت، فنزل يحجنه بمحجنه ثم قال: «اركب»، فركبت، فلقد رأيته أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «تزوجت» قلت: نعم، قال: «بكرًا أم ثيبًا» قلت: بل ثيبًا، قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك»، قلت: إن لي أخوات، فأحببت أن أتزوج امرأة تجمعهن، وتمشطهن، وتقوم عليهن، قال: «أما إنك قادم، فإذا قدمت، فالكيس الكيس»، ثم قال: «أتبيع جملك» قلت: نعم، فاشتراه مني بأوقية، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلي، وقدمت بالغداة، فجئنا إلى المسجد فوجدته على باب المسجد، قال: «آلآن قدمت» قلت: نعم، قال: «فدع جملك، فادخل، فصل ركعتين»، فدخلت فصليت، فأمر بلالًا أن يزن له أوقية، فوزن لي بلال، فأرجح لي في الميزان، فانطلقت حتى وليت، فقال: «ادع لي جابرًا» قلت: الآن يرد علي الجمل، ولم يكن شيء أبغض إلي منه، قال: «خذ جملك ولك ثمنه»(6).

 

وعلى هذا السبيل كان معلم الدعاة صلى الله عليه وسلم، يتفقد أصحابه؛ يعود مرضاهم، ويسأل عليهم، ويعين المحتاج، ويساعد ذوي الحاجة منهم.

 

وفي هذا خُلقٌ يقوم على ضرورة معايشةالداعي إلى الله تعالى للواقع بما فيه ومن فيه، وضرورة التعرف على مجرياته،وسبر أغواره، وعدم الانعزال عنه، كما أن ذلك الخُلق يعني الشعور الصادق بمايشعر به المدعوين من مشاعر وأحاسيس مختلفة تجمع بين الفرح والحزن، والأملوالألم، والشدة والرخاء، ونحو ذلك حتى تكون دعوته منطلقةً من الواقع ومناسبةًله ولظروفه واحتياجاته .

 

عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب لعمر، فكان يغلبني، فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «بعنيه»، قال: هو لك يا رسول الله، قال: «بعنيه»، فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد الله بن عمر، تصنع به ما شئت»(7).

 

ما أروع أن يكون الداعية قريب من الناس يمازحهم بالصدق، ويضحك إليهم، ويشعرهم بالمرح، ويخفف عنهم آلامهم، فيشعرون معه بالود والمحبة؛ فهذا أدعى لقبول دعوته، واستجابة الناس له.

 

وعن عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، وكان ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت أصلي لقومي ببني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار، فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار، فيشق علي اجتيازه، فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكانًا، أتخذه مصلى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سأفعل» فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه بعد ما اشتد النهار، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت له فلم يجلس حتى قال: «أين تحب أن أصلي من بيتك؟» فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر، وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم، فحبسته على خزير(8) يصنع له، فسمع أهل الدار رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت، فقال رجل منهم: ما فعل مالك؟ لا أراه، فقال رجل منهم: ذاك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »لا تقل ذاك ألا تراه قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله«، فقال الله ورسوله أعلم، أما نحن، فو الله لا نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله«(8).

 

قال الغزالي: إن وجدت جليسًا يذكرك الله رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه، واغتنمه ولا تستحقره، فإنها غنيمة المؤمن وضالة المؤمن، وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة، وأن الوحدة خير من الجليس السوء (9).

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أسود رجلًا - أو امرأة - كان يكون في المسجد يقم المسجد، فمات ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم فقال: «ما فعل ذلك الإنسان؟» قالوا: مات يا رسول الله، قال: «أفلا آذنتموني؟» فقالوا: إنه كان كذا وكذا - قصته - قال: فحقروا شأنه، قال: «فدلوني على قبره» فأتى قبره فصلى عليه(10).

 

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب لعدم إخباره بجنازة رجل (امرأة)، ثم يذهب ليصلي عليه في قبره، ويلوم أصحابه على ذلك، كيف لا يحضر حتى وإن كان من عوام الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين غني أو فقير ولا بين أبيض أو أسود.

 

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير، ما فعل النغير»(11).

 

ذكر ابن حجر في الفتح في فوائد هذا الحديث: ومخالطة بعض الرعية دون بعض .... وأن النهي عن كثرة مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر(12).

 

قال الطيبي: (حتى) غاية قوله: (يخالطنا) وضمير الجمع لأنس وأهل بيته، أي: انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي، وحتى الملاعبة معه، وحتى السؤال عن فعل النغير(13).

 

مع الحجر الأسود كانت له مكرمه صلى الله عليه وسلم:

 

عن علي رضي الله عنه، قال: لما انهدم البيت بعد جرهم فبنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا على أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، فأمر بثوب فوضع، فأخذ الحجر فوضعه في وسطه، وأمر من كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فيرفعوه، وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه(13).

 

يحفر الخندق مع أصحابه:

 

وشارك النبي صلى الله عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعلمية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد علته غبرة، فتقدم أسيد بن حضير رضي الله عنه ليحمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطنيه؟ فقال: «اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني»، فقد سمع المسلمون ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، فازدادوا نشاطًا واندفاعًا في العمل(14).

 

إنه مشهد فريد من نوعه ولا مثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحيانًا بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه.

 

إن هذه التربية العملية لا تتم من خلال الموعظة، ولا من خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ما كان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقة والاضطهاد والمطاردة فيها إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبني وكأنما غدا هذا الجميع من الصحابة الكرام كله صوتًا واحدًا، وقلبًا واحدًا(15).

 

ونقل ابن حجر عن الخطابي: إن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلقاتهما، فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين، وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان، فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه، فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة، لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء، فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو روح البدن والقلب (16).

 

قال ابن جماعة رحمه الله: إذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائدًاعن العادة سأل عنه وعن أحواله وعمن يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسلإليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل؛ فإن كان مريضًا عاده، وإن كان في غمخفض عليه، وإن كان مسافرًا تفقد أهله ومن تعلق به، وسأل عنهم وتعرضلحوائجهم وأوصله بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكنشيء من ذلك تودد له ودعا له (17).

 

ثم إن المخالطة لابد أن يراعي فيها الداعية نفسه، فلا يثقلها بما يضعف عزيمتها ولا بما يعكر صفوتها بل يجب أن تكون المخالطة بحذر، ويتجاوز المعقول، لأنه يدخل في فضول المخالطة وذلك داء عضال.

وللإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلام قيم:وأما فضول المخالطة: فهي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة،وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة،وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام: متى خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.

 

أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذحاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذاالضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بأمره.

 

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحًافلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش،وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة، والعلاجللأدواء ونحوها، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم منالقسمالثالث: وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.

 

فمنهم من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وهو من لا تربح عليه فيدين ولا دنيا، ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما،فهذا إذا تمكنت منك مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.

 

القسم الرابع: من مخالطته الهلاك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفقلآكله الترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء.

 

وما أكثر هذا الضرب فيالناس لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم، الداعون إلى خلافها، الذين يصدون عن سبيل اللهويبغونها عوجًا، فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة، والمعرف منكرًا،والمنكر معروفًا(18).

 

لذا فإن التعامل مع الناس والدخول معهم يتطلّب من الإنسان جهادًا وصبرًا، ولهذا فقد عظّم الرسول المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم على من لم يخالطهم، روى الترمذي وابن ماجه أن رسول الله قال: »المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم«(19).

الناس ليسوا على طريق واحد، والشيطان ينزع بينهم، يكبِّر الأمر الصغير، ويزرع الشرّ، وينشر الفتنة، وإن الشحناء وتتبع العثرات بين الناس لإحدى خدع الشيطان وطرائقه، وإن الشيطان ليجمع هفوات الشخص عند صاحبه حتى تصير مثل الجبل، ولو صفّى الإنسان فكره لوجدها مجموعة أوهامٍ وخيالاتٍ، نسجُها كنسج العنكبوت، ولكن الشيطان يعمي الإنسان ويصمه.

 

والمشاركة تحسن وتفضل في حالتين:

 

الأولى: أن يكون الشخص نافعًا مفيدًا فيمجتمعه، نافعًا بعلمه؛ تعليمًا، وإفتاء، وإرشادًا، وقضاء، وغير ذلك، مثل أنيكون ذا جاه ونفوذ كلمة، فينفع في الوساطات المحمودة، والشفاعات المرغوبة؛فهو ملجأ بعد الله تعالى للمظلوم والمهضوم حقه ونحو ذلك، أو يكون صاحب بروإحسان، فيجد عنده المعوزون قضاء حاجتهم، وسد خلاتهم، وغير هؤلاء ممن همأركان في المجتمعات؛ فعزلة هؤلاء وأمثالهم: ضرر عليهم بحرمانهم من الأجرالمتعدي، وضرر على غيرهم- حيث يفقد ذو الحاجات- من المستفيدين، والمعلمين،والمظلومين، والمعوزين من يعنيهم على أمورهم.

 

وأما الذي ليس له من وجوده فائدة إلا بقدرالواجبات والحقوق السارية بين الناس، فهذا يعتزلهم ليسلم له دينه وعرضه،ويخالطهم بقدر حاجته إليهم، فهو معهم ببدنه، أما قلبه وروحه فمع خلوته،وانفراده بطاعة ربه وذكره إياه(20).

 

ويجب على الداعية البعد عن المبالغة في هذا الأمر؛ وإلا كانت النتائج عكسية والثمار مرة غير مرضية، فلا يبالغ في مخالطة الناس لكن يحسن أن تكون على قدر الحاجة الدعوية، فلا يشعر المدعو بتطفل الداعية عليه، بل مجرد الشعور بالاهتمام، ثم إن كل إنسان له من الخصوصيات ما لا يحب أن يتطلع عليها الآخرون، فعلى الداعية مراعاة ذلك وإلا ظهرت حالات من الصدام الحرجة مع بعض الناس.

 

____________________________________

(1) المستدرك على الصحيحين، (1/73).

(2) فيض القدير شرح الجامع الصغيرمن أحاديث البشير النذير، (6،/311).

(3) الموسوعة الفقهية الكويتية، (30/ 84).

(4) مسند الإمام أحمد بن حنبل، (40/ 228).

(5) في ظلال القرآن، (المجادلة: 1).

(6) صحيح البخاري، (2097).

(7) صحيح البخاري، (2115).

(8) صحيح البخاري، (425)، والمراد بالخزيرة: نخالة فيها غليظ الدقيق.

(9) إحياء علوم الدين، (2/ 232).

(10) صحيح البخاري، (1337).

(11) صحيح البخاري، (6129).

(12) فتح الباري شرح صحيح البخاري، (10/ 584).

(13) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، (6/107).

(14) مسند أبي داود الطيالسي، (1/108).

(15) صور من حياة الرسول، أمين دويدار، (ص:261).

(16) انظر: التربية القيادية (2/ 249).

(17) فتح الباري شرح صحيح البخاري، (11/332).

(18) المتابعة في العمل التربوي، مجلة البيان (العدد: 195) ذي القعدة، 1424هـ.

(18) (التفسير القيم ص:28ـ31).

(20) مسند الإمام أحمد بن حنبل، (5022).

(21) باب الترغيب في مكارم الأخلاق (16/17) [مخالطة الناس والصبر على أذاهم أفضل من اعتزالهم]، توضيح الأحكام للشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن البسام، موقع معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد.