logo

الدعاة وشهوة الرياسة وحب السلطة


بتاريخ : الأحد ، 21 صفر ، 1441 الموافق 20 أكتوبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة وشهوة الرياسة وحب السلطة

الرئاسة أو الزعامة أو حب السلطة؛ مرض خطير، وداء مستطير، حالقةٌ تحلق الدين، ومزلقٌ عظيمٌ من المزالق التي يفنى فيها الإخلاص ويذوب التجرد، بل إن خطورته على الدين أشد من خطورة الذئب الذي يترك في حظيرة غنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» (1).

قال القاري: ومعناه ليس ذئبان جائعان أرسلا في جماعة من جنس الغنم بأشد إفسادًا لتلك الغنم من حرص المرء على المال والجاه، فإن إفساده لدين المرء أشد من إفساد الذئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها، أما المال فإفساده أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوات، ويجر إلى التنعيم في المباحات، فيصير التنعم مألوفًا، وربما يشتد أنسه بالمال، ويعجز عن كسب الحلال، فيقتحم في الشبهات مع أنها ملهية عن ذكر الله تعالى، وهذه لا ينفك عنها أحد، وأما الجاه فكفى به إفسادًا أن المال يبذل للجاه، ولا يبذل الجاه للمال وهو الشرك الخفي، فيخوض في المراءاة والمداهنة والنفاق، وسائر الأخلاق الذميمة، فهو أفسد وأفسد (2).

والحرص على الرئاسة وحب الرئاسة والسعي لها، شهوةٌ خفيةٌ في النفس ولا شك، والناس لديهم استعداد للزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة هذا نادر.

قال ابن رجب: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرص المرء على المال والشرف إفساد لدينه ليس بأقل من إفساد الذئبين لهذه الغنم، بل إما أن يكون مساويًا وإما أكثر (3).

نفهم من هذا المثل الذي يذكره صلى الله عليه وسلم أن حظيرة فيها أغنام، هذه الحظيرة غفل عنها صاحبها فدخلها ذئبان، والذئب من أشد الحيوانات ضراوة وعداوة وإفسادًا، فلو كان ذئبًا واحدًا لأفسد فساد عظيماً، فكيف بذئبين يشجع أحدهما الآخر؟ وكيف بحظيرة مفتوحة أهملها أصحابها وجاء الذئبان وهما جائعان ضاريان، والذئب إذا كان جائعًا وسلط على حظيرة غنم يهجم على الغنمة ويأكل من بطنها، ويهجم على الثانية ويأكل من بطنها، فلا يترك غنمة واحدة إلا نهش بطنها، وكأنه يريد أن يأكل الجميع، فلا تكفيه واحدة، هذا ذئب واحد، فكيف لو كانا ذئبين؟ فالذئب بشرهه وطمعه يفسد كل هذه الأغنام، ويأكل من الجميع ما يأكل.

فالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التشبيه أن حظيرة غنم دخل فيها ذئبان جائعان أفسدا إفسادًا عظيمًا وأهل الحظيرة غافلون عنها، فالحظيرة هي دين الإنسان، والذئبان هما حرص الإنسان على ماله، وحرصه على شرفه، فالإنسان الذي يحرص على المال يبدأ في جمع المال بأي صورة من الصور، والإنسان فيه نهم يشبه نهم الذئب حين يأكل الغنم، ففيه طمع وفيه شره وفيه حرص على المال وحرص على السيادة والرفعة.

فالإنسان قد يضحي بماله في سبيل سيادته ورفعته، والحرص على المال وعلى الجاه يفسد على الإنسان دينه أشد من إفساد هذين الذئبين في هذه الحظيرة التي فيها الأغنام، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه»، يعني: يحرص على المال وعلى الشرف فيفسد دينه بحرصه ذلك.

لذلك يقول العلماء: أما المال فإفساده أنه نوع من القدرة يحرك داعية الشهوة ويجر إلى التنعم في المباحات فيصير التنعم مألوفًا، يعني: معه مال فيألف كل شيء مباح، إذا غاب عنه هذا الشيء المباح يبدأ يغضب؛ لأنه فقد شيئًا من النعمة، وربما يشتد أنس الإنسان بهذا المال فيعجز عن كسب الحلال، ويبدأ يبحث عن الحرام فيقتحم في الشبهات وفي الحرام ويتلهى عن ذكر الله فيضيع دينه، ويكفي به إفسادًا أن المال يلزم الجاه، والجاه لا يلزم المال.

فالإنسان يجمع المال لكي يكون ذا قدر كبير بين الناس، فكيف يكون جاه الإنسان الذي يحرص عليه؟ إذا كان في سبيل المال يضيع دينه فكيف إذا كان في سبيل الجاه؟ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال والجاه يضيعان دين الإنسان، فهنا يخوض الإنسان في المراءاة في سبيل الجاه وفي النفاق وفي المداهنة وفي سائر الأخلاق الذميمة لكي يقال عنه رجل كبير ورجل بين الناس رئيس، فهذا من إفساد طلب الشرف وطلب المال لدين المرء.

وإذا كان الهم عند المرء همًا واحدًا كفاك الله عز وجل جل ما أهمك، وإذا اجتمعت بك الهموم في طلب المال وفي طلب الشرف وفي طلب المناصب ضاع الدين وضاعت الدنيا (4).

قال سفيان الثوري رحمه الله: ما رأيت زهدًا في شيءٍ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب؛ فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى.

وقال يوسف بن أسباط: الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون أتباعهم وأصحابهم من ذلك، كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالةً فيها: إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو بابٌ غامضٌ لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد نفسك واعمل بنية (5).

إنه شهوة خفية في النفس، قال أيوب السختياني رحمه الله: ما صدق عبدٌ قط فأحب الشهرة، وقال بشرٌ: ما اتقى الله من أحب الشهرة (6)، وقال يحيى بن معاذ: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة (7)، وقال ابن الحداد: ما صدّ عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة: المنصب، والرياسة (8).

إن هي إلا شهوة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحب الظهور، وهي التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئس الفاطمة» (9).

قال المهلب: حرص الناس على الإمارة ظاهر العيان، وهو الذي جعل الناس يسفكون عليها دماءهم، ويستبيحون حريمهم، ويفسدون في الأرض حين يصلون بالإمارة إلى لذاتهم، ثم لابد أن يكون فطامهم إلى السوء وبئس الحال؛ لأنه لا يخلو أن يقتل عليها أو يعزل عنها وتلحقه الذلة أو يموت عليها فيطالب في الآخرة فيندم.

والحرص الذي اتهم النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه ولم يوله هو أن يطلب من الإمارة ما هو قائم لغيره متواطئا عليه، فهذا لا يجب أن يعان عليه ويتهم طالبه، وأما إن حرص على القيام بأمر ضائع من أمور المسلمين أو حرص على سد خلة فيهم، وإن كان له أمثال فى الوقت والعصر لم يتحركوا لهذا، فلا بأس أن يحرص على القيام بالأمر الضائع ولا يتهم هذا إن شاء الله (10).

وقوله: «نعم المرضعة»؛ وذلك أولها لأن معها المال والجاه والسلطة، وقوله: «بئس الفاطمة» أي: آخرها لأن معه القتل والعزل في الدنيا والحسرة والتبعات يوم القيامة، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله: «إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟»، فقمت فناديت بأعلى صوتي ثلاث مرات: وما هي يا رسول الله؟، قال: «أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل وكيف يعدل مع أقربيه؟» (11).

والرئاسة التي نقصدها هنا ليست دنيوية فحسب؛ بل قد تكون دينية كذلك لمن يتبوأ مراكز الإرشاد والتوجيه والنصح والتربية، ولو كان يدفع إلى التطلع للرئاسة: القيام بالواجب وتحمل التبعة الثقيلة في وقت لا يسد الثغرة فيه من هو أفضل بذلًا وعملًا لكان الأمر محمودًا، أما إذا كان الدافع رغبة جامحة في الزعامة ونفرة من قبول التوجيه من غيره واستئثار بمركز الأمر والنهي؛ فيا خطورة ما أصاب من مرض.

وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام من ابتلي بهذا المرض وردَّه ولم يقبله، واسمعوا ما رواه الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من يخالفك؛ أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء»، قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بك (12).

بل قال صلى الله عليه وسلم لرجلين سألاه الإمارة: «إنا لا نولّي هذا مَنْ سأله، ولا من حرص عليه» (13).

يسن بذلك أحد قوانين الإدارة الإيمانية ويميِّزها عن إدارة اليوم الحديثة، ويمدح صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من الدعاة، الذين ليس يعنيهم ويشغل فكرهم سوى رضا الله سبحانه وتعالى بارزين كانوا أو مستترين، في المقدمة أو في المؤخِّرة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشفَّع» (14) .

وتأمل أنه ذكر هنا الساقة والحراسة؛ وكلاهما ليس من أماكن الصدارة أو مراكز القيادة، فكأنه أراد ترسيخ معنى الجندية ومعالجة حب الرئاسة في قلوب السامعين معالجة جذرية، فلا يذكر الرئاسة ولو بكلمة لتغيب حتى حروفها عن عينك وتتوارى عن قلبك.

وحب الرئاسة والسعي لها شهوة خفية في النفس، وكثير من الناس قد يزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة عنده نجم سماوي لا يُدرك.

قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية، قيل لأبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرياسة، فهي خفية تخفى على الناس وكثيرًا ما تخفى على صاحبها (15).

علامات حب الزعامة والتسلط:

لكنها وإن كانت خفية، ومهما توارت وأتقنت فن التستر والهرب، فقد أذن الله لنا أن نفضحها عن طريق علاماتها حتى لا يعود لمبتلى عذر في ترك التداوي وهجر التسامي، ومن العلامات:

ما ذكره الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير (16).

- فمن علاماتها إذن حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب، وكراهة أن يُذكر أحد عنده بخير؛ بل وانتقاص الآخرين ليرفع نفسه، فلا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم، بل ويحجب فضائل الآخرين ويكتم أخبارهم خشية أن يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبوا إلى غيره، أو يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.

الحسرة إذا زالت أو سُلِبت منه الرئاسة، وتأمل لو أن عالمًا تصدَّر مجلس علم مثلًا، فالتف الناس حوله، ثم جاء من هو أعلم منه فقدَّمه الناس عليه وانقطعوا إليه، فهل يفرح هذا العالم أو يحزن؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة ويفيد الناس أكثر منه؛ أم يحزن ويغتم لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وصيحات الإعجاب؟! بهذا تفضح قلبك أيها الداعية إذا خشيت مرضه وأردت شفاءه.

قال ابن الجوزي: وقد يكون الواعظ صادقًا قاصدًا للنصيحة؛ إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان فيحب أن يُعظَّم، وعلامته: أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك، ولو صحَّ قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق (17).

وقال كذلك: ومنهم من يفرح بكثرة الأتباع، ويلبِّس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما مراده كثرة الأصحاب (18).

إنها مجالس السوء وإن كان ظاهرها الخير، وأماكن الفتنة وإن رُفِعت عليها رايات الهدى، ووسائل الهلاك وإن صُنِعت للنجاة.

كم شارب عسلًا فيه منِيته     وكم تقلَّد سيفًا من به ذُبِحًا

وتستطيع أخي الداعية أن تُجري اختبارًا واحدًا يكشف لك حقيقة مجالسك على الفور، وذلك على طريقة ابتكرها عبد الرحمن بن مهدي وهي كما يلي: عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنتُ أجلس يوم الجمعة فإذا كثر الناس فرحت، وإذا قلوا حزنت، فسألت بشر بن منصور فقال: هذا مجلس سوء فلا تعُد إليه، فما عدتُ إليه (19).

- حسرة قلبه إذا منع من الظهور، وفاتته فرصة إبداء إمكاناته واستعراض قدراته، وبالحلو تُعرف المرارة، وبالضد تتميز الأشياء، لذا فاسمعوا ما فعل المحدِّث الرباني شيخ نيسابور أبي عمرو إسماعيل بن نجيد فيما قصَّه الإمام الذهبي: ومن محاسنه أن شيخه الزاهد أبا عثمان الحيري طلب في مجلسه مالًا لبعض الثغور فتأخَّر، فتألم وبكى على رؤوس الناس، فجاءه ابن نجيد بألفي درهم فدعا له، ثم إنه نوَّه به، وقال: قد رجوت لأبي عمرو بما فعل، فإنه قد ناب عن الجماعة، وحمل كذا وكذا، فقام ابن نجيد وقال: لكن إنما حملت من مال أمي وهي كارهة فينبغي أن ترده لترضى، فأمر أبو عثمان بالكيس فرد إليه، فلما جنّ الليل جاء بالكيس والتمس من الشيخ ستر ذلك، فبكى وكان بعد ذلك يقول: أنا أخشى من همة أبي عمرو (20).

- إضفاء هالات الأهمية الزائفة كادعاء المواعيد الكاذبة والانشغالات التافهة، ليوقع في روع الناس علو قدره وارتفاع منزلته وتهافت الناس عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور» (21).

قال ابن حجر: المتشبِّع أي المتشبِّه بالشبعان وليس به شبع، واستعير للتحلي بفضيلة لم يرزقها، وشُبِّه بلابس ثوبي زور؛ أي ذي زور، وهو الذي يتزيا بزي أهل الصلاح رياء، وأضاف الثوبين إليه لأنهما كالملبوسين، وأراد بالتثنية أن المتحلي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ارتدى بأحدهما واتزر بالآخر كما قيل: إذا هو بالمجد ارتدى وتأزَّرًا، فالإشارة بالإزار والرداء إلى أنه متصف بالزور من رأسه إلى قدمه، ويحتمل أن تكون التثنية إشارة إلى أنه حصل بالتشبع حالتان مذمومتان: فقدان ما يتشبع به، وإظهار الباطل (22).

- عدم المشاركة بفاعلية عندما يكون مرؤوسًا، بل والتهرب من التكاليف حين لا يكون هناك فرصة للبروز، واشتعال قلبه حماسة ونشاطًا عندما يكون رأس الأمر وقائده.

- كثرة نقده لغيره بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية مقترحات الغير ومبادراتهم مع عدم تقديم البديل، والعمل على إخفاق ما لم يشارك فيه.

- الإصرار على رأيه وصعوبة التنازل عنه، وإن ظهرت أدلة بطلانه ورجحان غيره.

ألا فانتبه يا طالب العلم وأنت تعلِّم الناشئة، وانتبه أيها المربي حين تربِّي من حولك، وتعلَّم من سعد بن أبي وقاص، وكيف حثَّنا على الزهد في الرئاسة بلسان حاله مما أغنانا عن آلاف الخطب والصفحات، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي» (23).

وتأمَّل أيضًا كيف كان هروب العلماء من مسئولية القضاء، والقضاء منصب وسلطة ومكانة وأبهة، وقد كان القاضي من أعظم الناس مكانة في زمانه، وكلمته مسموعة لا ترد؛ ومع ذلك كان الصالحون يهربون من القضاء ويُضربون عنه ولا يتولونه، بل ويسجنون ولا يرضونه، مع أنهم أهل له، وذلك لخوفهم من تبعات الأمر، وكيف لا وقد سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ينذر: «قاضيان في النار، وقاض في الجنة» (24).

وكيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يحذِّر: «من أتى أبواب السلطان افتُتِن» (25)، وكثرة من قضاة اليوم والعلماء على باب السلطان وقوف، وعلى رضاه حريصون، ولا يحسون بالكارثة!!

ترشيد العمل الدعويّ:

لا تُطِلْ ملازمة مكان واحد قائدًا؛ وانتقل إلى موقع دعويٍّ آخر؛ تزيد بذلك خبراتُك وتتسع به معارفُك وآفاقُك؛ مع تنوّع الساحات واختلاف التجارب والشخصيات، وقد يَرِد عليك من خواطر التشبُّث، ووساوس التباطؤ والتريُّث أن تقول: ليس ثمة من يُتقن العمل، ولا مَن يعرف الخلل، وحضوري يقي من الخطأ والزلل!

نعم قد لا يكون غيرك في كفاءتك الآن، لكنك لعلك كنت مثله أو أقل يوم ابتدأت؛ فتعلمت فأتقنت، وصرت خبيرًا بصيرًا، دعهم يتدربون ويأخذون فرصتهم، سيخطئون؛ لكنهم لا شك سيتعلمون، فإن نصحت لهم فالدين النصيحة.

ثم إن إتاحة الفرصة للآخرين فيه إطلاق الطاقات واكتشاف القدرات، وتطوير الصف الثاني والثالث، الذي هو مستقبل الدعوة القادم، ومن ثم تجديد لدماء العمل؛ وبعث الحيوية فيه والنشاط، وسيفسح هؤلاء المجال لآخرين جدد يتصدرون مواقعهم التي كانوا فيها، فتتحرك الدماء في عروق الدعوة، وينبعث النشاط وتتنوع الأفكار وتتعدد الإبداعات، وتستفيد أنت بتغيير الروتين وتحظى بفرصة البداية الجديدة مع الاستفادة من خبرات الماضي؛ لتضيف اكتساب الخبرات الجديدة في المواقع الجديدة، وتُكسب إخوانك روح التنازل عن المواقع وتبادلها، وتُكسبهم معانيَ تربوية بترك التعلق بالمناصب والمسؤوليات وهجر الأهواء والمألوفات، وتتألف فوق ذلك قلوبهم، بسبب ما قد يعلق مع طول الملازمة لمواقع المسؤولية من سوء ظن وتنافس أحيانًا واختلاف.

علاج آفة حب الرئاسة:

1- اللجوء إلى الله: وأما علاج هذه الآفة، فلا شك أنه اللجوء إلى الله أولًا وقبل كل شيء، اللجوء إلى الله بأن يرزقه الإخلاص والسداد وأن يزيل ما في نفسه من المرض والعيب، فإن الإخلاص هو الذي عليه قبول الأعمال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد...، ورجل تعلم العلم...، ورجل وسع الله عليه...» (26)، يقول هذا: تعلمتُ العلم في سبيلك لأعلم الناس وأنشر العلم، فيقال: تعلمت ليقال: عالم، وذاك يقول: قاتلتُ في سبيلك، فيقال: كلا، قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، قيل عنك أنك جريء، فيسحب إلى النار، والآخر يقول: قرأت القرآن فيك، فيقال: قرأت ليقال: قارئ، حسن الصوت، خاشعٌ في تلاوته، مؤثر، وذاك يقول: تصدقت في سبيلك، فيقال: لا: تصدقت ليقال: جواد، وقد قيل، أخذت أجرك في الدنيا، فيسحبون إلى النار.

فلابد من الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والتجرد عن النوازع الشخصية وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين قبل كل شيء.

2- استشعار المسئولية: وكذلك من العلاج: استشعار المسئولية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى سائلٌ كل راع عما استرعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته» (27)، كل واحد عنده رعية، يسوس أُناسًا أو يقودهم ويرأسهم ويتولى عليهم، يحاسب أمام الله يوم القيامة على هذا، والسؤال يوم القيامة ليس سؤالًا هينًا بل سؤال حسابـ، وكلما كبرت المسئولية، ازداد الحساب واشتد.

3- رحم الله امرأً عرف قدر نفسه: وكذلك من علاج حب الرئاسة تقدير النفس أن يعرف الإنسان قدره: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، يعرف المسئولية وما يتطلبه الوضع، ويعرف إمكانات نفسه، وهل يستطيع أن يقوم بالمسئولية أو لا، هذا الحساب للنفس مهم، هل أنا أصلح لهذه المسئولية؟ هل عندي قدرات لأن أقوم بهذه المسئولية؟ هل عندي ما أستطيع أن أملأ به هذا المكان وأعطيه حقه وأؤدي الأمانة؟

4- محاسبة النفس في غاية الأهمية، فإذا عرف أنه ضعيف فلا يقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر -وهذا حديث عجيب- فعلًا: «يا أبا ذر؛ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (28)، وقال في رواية أخرى: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» (29)، النبي عليه الصلاة والسلام يعرف شخصية أبي ذر جيدًا، فـأبو ذر رحمه الله ورضي عنه وأرضاه صادق من أصدق الناس لسانًا، ورع، زاهد في الدنيا، عنده مناقب كثيرة ومن السابقين للإسلام، ضرب حتى صار نقبًا أحمر من الدم الذي نزل عليه، ضربه كفار قريش لما جهر بإسلامه فما خاف، ومن أوائل السابقين للإسلام أبو ذر الغفاري.

لكن ليس كل فاضل عابد عنده علم وزهد وورع يصلح للقيادة، القيادة تتطلب متطلبات ومواصفات معينة.

5- التفكر في العاقبة يوم الدين: ومن علاج حب الرئاسة: التفكر في العاقبة يوم الدين، يوم الجزاء والحساب، يوم يحاسب كل إنسانٍ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}  [آل عمران:30]، يوم الحساب؛ لأن فيه محاسبة قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامةً وحسرةً يوم القيامة، فنعمَ المرضعة وبئست الفاطمة»، نعم المرضعة في الدنيا بما تأتي على صاحبها من المنافع وتجر له من الجاه والأموال والبسط والنفوذ، ولكن بئست الفاطمة بالموت الذي يهدم لذاتها، ويورث النفس الحسرات، بما سيكون يوم القيامة.

هذا أمر خطير ينبغي أن يحسب له حسابه، لا يتقدم إنسان ويتجرأ على منصب أو مكان أو مسئولية إلا وهو يضع نصب عينيه ماذا سيحدث له يوم القيامة ويحاسب نفسه قبل أن يحاسب، قال عليه الصلاة والسلام: «ليتمنينَ أقوامٌ ولوا هذا الأمر أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يلوا شيئًا» (30)، سيأتي عليهم يوم يندمون ويتمنون لو أنهم خروا من السماء إلى الأرض وأنهم ما تولوا شيئًا من أمور الناس لما حصلَ منهم من الخيانة أو التقصير أو الإثم والاعتداء والظلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «ليودَّنَّ رجلٌ أن خرَّ من عند الثريا وأنه لم يلِ من أمر الناس شيئًا».

ولذلك كان أحد الخلفاء يقول: وددت أني خرجت منها كفافًا لا لي ولا علي، من عظم استشعار المسئولية، ولو حصل خطأ أو شيء جلس يبكي، كيف هو مقصر، كيف لم يعلم عن هذه الأمة، أو كيف لم يعلم عن هؤلاء الناس والأفراد.

6- إيثار الباقي على الفاني: والتفكر في هذه الدنيا وزوالها وسرعة انقضائها وهمومها وغمومها وأحزانها، وقصرها وهوانها على الله، لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فلو كانت تساوي جناح بعوضة ما أعطى الكافر ولا شربة ماء.

جاء في البخاري: عن ابن عمر، قال: دخلت على حفصة ونسواتها تنطف، قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء، فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: حفظت وعصمت (31).

7- التفكر في حال السلف وموقفهم من الرئاسة: وكذلك من علاج حب الرئاسة في النفس ومطاردة هذا النازع الموجود: التفكر في حال السلف في قضية موقفهم من الإمارة والرئاسة، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في إبلٍ له وغنم، فأتاه ابنه عمر بن سعد، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما انتهى إليه فإذا هو ابنه عمر، قال: يا أبتي! أرضيتَ أن تكون أعرابيًا في إبلك وغنمك والناس يتنازعون في الملك؟! قال: فضرب سعدٌ صدر عمر وقال: اسكت يا بني فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» غني النفس، تقي في نفسه، خفي يخفي عمله ولا يطلب رئاسات ومناصب، يكفيه ما هو فيه من شئون نفسه.

وكذلك حال الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، كيف كانوا يقولون، وعمر بن عبد العزيز بكى عدة مرات على المنبر، ويقول: يا أيها الناس: أنا أخلع نفسي ولا ألزم أحدًا بطاعة، والناس هم الذين يصرون عليه ويقولون: بلى، أنتَ وتبقى، ويؤكدون له العهد.

القضاء منصب ومسئولية وسلطة، وكان القاضي من أعظم الناس في زمانه، وكانوا يهربون ويضربون عن القضاء ولا يتولونه ويسجنون ولا يتولونه، يرغمون يدفعون ويأبون، وكانوا يهربون من منصب الفتوى، مع أنهم أهل، لكن الواحد يرد الفتوى إلى الآخر، وكانت الفتوى تذهب تدور على نفر وترجع إلى الأول كل واحد يرحلها إلى صاحبه، فهربوا من المسئوليات والقضاء والمناصب والفتوى، هربوا يريدون النجاة لأنفسهم، لا يريدون تبعات، لم يكن قصدهم التهرب من المسئولية، وإنما كان الابتعاد عن النار (32).

***

____________

(1) أخرجه الترمذي (2376).

(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3243).

(3) مجموع رسائل ابن رجب (1/ 64).

(4) شرح الترغيب والترهيب للمنذري - حطيبة (54/ 6، بترقيم الشاملة آليًا).

(5) تفسير سفيان الثوري (ص: 19).

(6) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 346).

(7) صفة الصفوة (2/ 294).

(8) موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية (4/ 503).

(9) أخرجه البخاري (7148).

(10) شرح صحيح البخاري لابن بطَّال (8/ 218).

(11) أخرجه البزار (2756).

(12) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 158).

(13) أخرجه البخاري (7149).

(14) أخرجه البخاري (2887).

(15) مجموع الفتاوى (16/ 346).

(16) جامع بيان العلم وفضله (1/ 571).

(17) تلبيس إبليس (ص: 112).

(18) تلبيس إبليس (ص: 117).

(19) سير أعلام النبلاء (7/ 590).

(20) تاريخ الإسلام (26/ 336).

(21) أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2129).

(22) فتح الباري لابن حجر (9/ 318).

(23) أخرجه مسلم (2965).

(24) أخرجه الترمذي (1322).

(25) أخرجه الترمذي (2256).

(26) أخرجه مسلم (1905).

(27) صحيح الجامع (1774).

(28) أخرجه مسلم (1825).

(29) أخرجه مسلم (1826).

(30) أخرجه أحمد (10737).

(31) أخرجه البخاري (4108).

(32) حب الرئاسة حب الشهرة/ إسلام ويب.