logo

الدعاة وتزكية النفوس


بتاريخ : الثلاثاء ، 21 محرّم ، 1437 الموافق 03 نوفمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة وتزكية النفوس

في خضم شئون الحياة المعاصرة، وكثرة مشاغلها، وتعدد متطلباتها، قد ننسى أن نتعاهد أنفسنا بالتربية والتزكية، ومن ثم تقسو القلوب، ونتثاقل عن الباقيات الصالحات، ونركن إلى متاع الدنيا وزخرفها.

وغاية الدين تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته، وما شرعه من الأعمال والآداب للفوز بسعادة الدارين.

والتزكية للأنفس بالفعل تسند إلى الله تعالى; لأنه هو الخالق المقدر الموفق للعبد لفعل ما تزكو به نفسه وتصلح، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]، وتسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه هو المربي للمؤمنين على ما تزكو به أنفسهم، ويعلو قدرها بسنته العملية والقولية في بيان كتاب الله، وما لهم فيه من الأسوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، فتزكيته صلى الله عليه وسلم للأمة من مقاصد البعثة.

وتسند إلى العبد لكونه هو الفاعل لما جعله الله سببًا لطهارة نفسه وزكائها؛ كالصدقات وغيرها من أعمال البر، ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس:9-10]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصلى (15)} [الأعلى:14-15] وأما قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49]، وقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فهو في زكاء النفس بدعوى اللسان، فالتزكية تطلق على الفعل المزكى، وهي الأصل، وعلى القول الدال عليه، ومنه تزكية الشهود(1).

وتزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة، كثيرة الخير والبركة، بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير، وهذه التزكية محمودة، وهى التي عناها الله سبحانه بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9].

وتارة تكون بالقول؛ بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقًا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثارها السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح(2).

إن الله تعالى أقسم أقسامًا كثيرة ومتوالية على أن صلاح العبد وفلاحه منوط بتزكية نفسه، فقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس:7-10].

إن مدار نجاة الإنسان في الآخرة من العقاب، وفوزه بالنعيم والسعادة الأبدية إنما هو على تزكية نفسه، وتطهيرها من العقائد الوثنية الباطلة، والأخلاق الفاسدة، حتى تكون متخلية عن الأباطيل والشرور، متحلية بالفضائل وعمل البر والخير، ومدار الهلاك على ضد ذلك، قال الله تعالى في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس:7-10]، فالله تعالى جعل كل إنسان متمكنًا بقواه الفطرية من أعمال الفجور والشرور، ومن أعمال التقوى والخيرات، وهو الذي يزكي نفسه بهذه، أو يدسيها بتلك.

فمن صحت عقيدته وحسن عمله صلحت نفسه وزكت، وكانت أهلًا للنعيم في ذلك العالم العلوي، ومن كانت عقيدته خرافية باطلة وأعماله سيئة، فسدت أخلاقه وخبثت نفسه، وكان هو الذي تكلف تدسيتها ودهورتها إلى هاوية الجحيم، ولا يشترط في التزكية ألا يلم الإنسان بخطأ، ولا تقع منه سيئة ألبتة؛ بل المدار على طهارة القلب وسلامته من الخبث وسوء النية، بحيث إذا غلبه بعض انفعالات النفس فألم بذنب يبادر إلى التوبة، ويلجأ إلى الندم والاستغفار، وتكفير ذلك الذنب بعمل صالح، فيكون مثل نفسه كمثل بيت تتعاهده ربته بالكنس والمسح وسائر وسائل النظافة، فإذا ألم به غبار أو أصابه دنس بادرت إلى إزالته؛ فيكون الغالب عليه النظافة، ولا يشترط في الشهادة له بذلك ما لا تخلو منه البيوت النظيفة عادة، من قليل غبار أو وسخ لا يلبث أن يزال، فالجزاء أثر لازم للعمل، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها(3).

وكان الأنبياء عليهم السلام يدعون إلى تزكية النفوس، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)} [النازعات:18-19].

وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].

ولولا الله ما زكى منهم من أحد، ولا تطهر ولا ارتفع، ولكنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم يطهرهم، يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره، ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات، فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة، والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها، قديمًا وحديثًا، يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات، والنزوات تزري بإنسانية الإنسان، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة، وهي أنظف كثيرًا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان، ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب، وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر، ويلطخ المجتمع والحياة.

ويطهر حياتهم من الظلم والبغي، وينشر العدل النظيف الصريح، الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام، وحكم الإسلام، ومنهج الإسلام، ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور(4).

{وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم ويرفعهم وينقيهم، يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم، ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم، ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم، يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته، ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم.

وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها، ومن أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب؛ وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده، يقول جعفر: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام(5).

ومن أرجاسها ما حكته عائشة رضي الله عنها وهي تصور أنواع الاتصال بين الجنسين في الجاهلية، كما جاء في صحيح البخاري، في هذه الصورة الهابطة الحيوانية المزرية: إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء؛ فنكاح منها نكاح الناس اليوم؛ يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته، فيصدقها، ثم ينكحها، والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب؛ وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الرجل، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت منهم باسمه، فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع منه الرجل! والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جُمِعُوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك(6).

ودلالة هذه الصورة على هبوط التصور الإنساني وبهيميته لا تحتاج إلى تعليق، ويكفي تصور الرجل وهو يرسل امرأته إلى (فلان) لتأتي له منه بولد نجيب، تمامًا كما يرسل ناقته أو فرسه أو بهيمته إلى الفحل النجيب؛ لتأتي له منه بنتاج جيد.

إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير، ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها، ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها، وإذاعاتها، ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها، إلى جانب نظامها الربوي، وما يكمن وراءه من سعار للمال، ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره، وعمليات نصب واحتيال وابتزاز تلبس ثوب القانون، وإلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي، الذي أصبح يهدد كل نفس وكل بيت، وكل نظام، وكل تجمع إنساني، نظرة إلى هذا كله تكفي للحكم على المصير البائس، الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية.

إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط، والحيوان أنظف وأشرف وأطهر؛ لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها، والتي يمتن الله على عباده المؤمنين بتطهيرهم منها في تلك الآية الكريمة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ}(7).

وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة وحياة الواقع، تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه، ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ الأعلى، ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم(8).

قد أتى على البشر حين من الدهر لا يعرفون من الدين إلا أنه تعاليم خارجة عن محيط العقل، كلف البشر بها مقاومة فطرتهم، وتعذيب أنفسهم، ومكابرة عقولهم وبصائرهم، خضوعًا للرؤساء الذين يلقنونهم إياها، فإن انقادوا لسيطرتهم عليهم بها كانوا من الفائزين، وإن خالفوهم سرًا أو جهرًا كانوا من الهالكين.

حتى إذا بعث الله محمدًا خاتم النبيين، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم مما كانوا فيه من الضلال المبين؛ بين لهم أن دين الله الإسلام هو دين الفطرة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة، والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال، وأن لا سيطرة على روح الإنسان وعقله وضميره لأحد من خلق الله، وإنما رسل الله هداة مرشدون، مبشرون ومنذرون(9).

وتزكية النفس سبب الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} [طه:75-76]، أي طهّر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب.

عن عائشة أنها فقدت النبي صلى اللَّه عليه وسلم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: «رب أعط نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها»(10).

وإصلاح النفوس وتطهيرها، عن طريق العلم النافع، والعمل الصالح، وفعل المأمورات وترك المحظورات، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى تزكية النفس بقوله: «ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان؛ من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولكن من أوسط أموالكم، فإن الله عز وجل لم يسألكم خيرها، ولم يأمركم بشرها، وزكى نفسه»، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان»(11).

إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه، ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه (من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه) مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء، وأن هذه القدرة كامنة في كيانه، يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)} [الشمس:7-8]، ويعبر عنها بالهداية تارة: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد، والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها، وتوجهها هنا أو هناك، ولكنها لا تخلقها خلقًا، لأنها مخلوقة فطرة، وكائنة طبعًا، وكامنة إلهامًا.

وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان، هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها، وتغليبه على استعداد الشر؛ فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها؛ فقد خاب: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)} [الشمس:9-10].

وهنالك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه، توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء، فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب.

ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة، وتكشف له عن موحيات الإيمان، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة، وبذلك يتضح له الطريق وضوحًا كاشفًا لا غبش فيه ولا شبهة، فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه.

وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان، وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام.

هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي:

فهي أولًا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني، حين تجعله أهلًا لاحتمال تبعة اتجاهه، وتمنحه حرية الاختيار، في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار، فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية؛ تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده، وفضلها على كثير من العالمين.

وهي ثانيًا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره، وتجعل أمره بين يديه، في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا، فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى، وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو!