إلى أي شيء ندعو الناس؟
هذا السؤال طرحه صاحب كتاب (الدعوة قواعد وأصول)، ثم أجاب قائلًا:
هذا سؤال يخيل للمسلم أنه لا يحتاج إلى إجابة لبداهته، فهو أوضح من الشمس في رابعة النهار، وأوضح من أن يجاب عليه، وهل هناك مسلم لا يعرف إلى أي شيء يدعو الناس؟
فلأول وهلة تبدو الإجابة سهلة واضحة، وهي كذلك لو تحددت المصطلحات، ووضحت الغايات، واستبانت الوسائل، بينما الحقيقة غير ذلك إذا غاب التصور الواضح والفهم الصحيح؛ نعم، قد تتحد الإجابة إجمالًا لأننا جميعًا ندعو إلى الإسلام الحنيف، ولكن البون سيكون شاسعًا والاختلاف كبيرًا إذا كان في الأمر تفصيل وتوضيح.
من هنا كان توجيه المسلم عمومًا، والداعية خصوصًا، هذا السؤال لنفسه، أولًا وقبل أن يخطو على الطريق خطوة، من الأهمية بمكان؛ ليحدد تصوره ويعرف غايته ويعد الوسائل اللازمة للوصول إلى ما يبغي بخطى ثابتة، وتصور محدد سليم، ففاقد الشيء لا يعطيه(1).
إن مهمة المسلم الحق لخصها الله تبارك وتعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج:77-78].
هذا كلام بيِّن لا لبس فيه ولا غموض، يأمر الله المسلمين أن يركعوا ويسجدوا، وأن يقيموا الصلاة، وأن يفعلوا الخير ما استطاعوا، وتلك هي المهمة الفردية لكل مسلم، التي يجب عليه أن يقوم بها بنفسه في خلوة أو جماعة.
ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده، بنشر الدعوة وتعليمها بين الناس.
وقد كشف الله عن سر هذا التكليف وحكمة هذه الفريضة، فبين لهم أنه اجتباهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سُوَّاس خلقه، وأمنائه على شريعته، وورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، وتلك هي المهمة الجماعية التي ندب الله إليها المسلمين جميعًا، أن يكونوا صفًا واحدًا، وكتلة وقوة، وأن يكونوا هم جيش الخلاص الذي ينقذ البشرية، ويهديها سواء السبيل.
ثم أوضح الحق تبارك وتعالى للناس بعد ذلك الرابطة بين التكاليف الفردية، من صلاة وصوم، بالتكاليف الاجتماعية، وأن الأولى وسيلة للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معًا، حتى لا يكون لأناس مندوحة من القعود عن فرائضهم الفردية بحجة أنهم يعملون للمجموع، وحتى لا يكون لآخرين مندوحة عن القعود عن العمل للمجموع بحجة أنهم مشغولون بعباداتهم، مستغرقون في صلتهم بربهم.
ويستطرد قائلًا: «أيها المسلمون، عبادة ربكم، والجهاد في سبيل التمكين لدينكم وإعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة، فإن أديتموها حق الأداء فأنتم الفائزون، وإن أديتم بعضها أو أهملتموها جميعًا فإليكم أسوق قول الله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116]»(2).
والذي ينبغي أن يعلم علم اليقين أننا، ابتداءً، ندعو الناس إلى دين الله، ودين الله هو الإسلام{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
الإسلام بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى؛ إسلام الوجه لله في صغير الأمر وكبيره، الإسلام بسعته ورحمته، وسهولته وبساطته، بشموله وعمومه، بعقيدته وشريعته، بنظامه وأخلاقه، بقيادته وريادته، بجهاده وعبادته، بدنياه وآخرته، بكل ما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.
دعوة إلى التوحيد:
وأول الدعوة ورأسها وأساسها الدعوة إلى توحيد الله تعالى في كل ما يجب توحيده فيه؛ من أسمائه وصفاته، في ربوبيته وإلهيته، فلا شك أن التوحيد هو روح هذا الدين، وهو أصل هذه الرسالة، كما كان دائمًا أصل جميع الرسالات، ودعوة جميع المرسلين والنبيين، وعليه فنحن ندعو الناس لكلمة التوحيد (لا إله الا الله محمد رسول الله)، التي تحمل كل هذه المعاني القيمة، والتي قدمها الصحابة رضوان الله عليهم للناس على أنها فكاك أعناقهم من النار أولًا، ثم خلاصهم من جميع ضروب الوثنيات الدينية والاجتماعية، وهي سبيل حريتهم من كل عبودية دون عبودية الواحد الأحد.
إنما ندعوهم إلى الإيمان أولًا والعمل ثانيًا.
الإيمان بأن الإسلام وضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن، وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات.
والعمل على أن تكون قواعد الإسلام هي الأصول الني نبني عليها نهضة الشرق الحديث، في كل شأن من شئون الحياة.
إن إسلامنا الذي ندعو إليه هو الإسلام الذي ينتظم الحياة جميعها، ويفتي في كل شأن من شئونها، ويضع لها نظامًا محكمًا دقيقًا، ولا يقف مكتوف الأيدي أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس، فهو ليس مقصورًا على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانيات، كما فهمه بعض الناس، لكننا نفهمه على أنه ينتظم شئون الدنيا والآخرة، وأنه إنما جاء لسيادة الدنيا، وإدارة شئونها على مراد الله تعالى، ولإرشاد الإنسانية كلها إلى طريق السعادة، والذي لا يمكن أن يكون إلا في نظم الإسلام الصالحة، وتعاليمه الإلهية المحكمة.
إن الإسلام الذي ندعو إليه هو إسلام العدل والإنصاف، والمساواة بين أبناء المجتمع، وضبط الإيقاع بين الراعي والرعية، فلا مكان في ظل الإسلام لفرعونية حاكمة، ولا قارونية كانزة، ولا كهنوتية موجهة، ولا جماهيرية ذلول الظهر لكل راكب أو مستغل.
إن دعوتنا إنما هي لإسلام الحرية في التفكير والتعبير في حدود مصالح الدنيا والآخرة، فالحريات موطدة، والحقوق مصونة، وباب الإبداع مفتوح على مصاريعه أمام كل عقل يفكر ويبدع.
إن الإسلام الذي ندعو إليه هو إسلام الحركة والعمل، وإعمار الكون، والأخذ بأسباب السيادة والقيادة والريادة، وليس هو إسلام العقائد الموروثة، أو العبادات الظاهرة، والأعمال التقليدية الفارغة عن مضامينها، والتي لا تحيي قلبًا، ولا تؤتي ثمرة، ولا تحرك جارحة لعمل.
ليس هو طقطقة المسابح، ولا الاختباء خلف أبواب البيع والمساجد، ولا هز الأعطاف والرقص في حلقات الذكر، ثم ترك الدنيا بعد ذلك يقودها غير المسلمين، ويتحكمون في مقادير العباد والبلاد.
إنها دعوة إلى إسلام الظاهر والباطن، فلا تعرف دعوتنا إيمانًا في القلوب لا يظهر على الجوارح، ولا دينا داخليًا لا أثر له على واقع صاحبه كما يزعمون بقولهم: «الإيمان إيمان القلب»، وإنما صلاح الباطن يورث صلاح الظاهر، وحسن العمل دليل على صحة الإيمان، فالإيمان الذي نعرفه والإسلام الذي ندعو إليه هو ما وقر في القلب وصدقه العمل.
إننا ندعو الناس إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، قال الإمام الطبري في تفسيرها: «إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك».
إننا ندعو إلى إسلام العقيدة والشريعة، إسلام الدنيا والدين، إسلام المسجد والمصنع، إسلام البيت والشارع، إسلام العبادة والعمل، إسلام النفس بكل هواها، وإسلام البدن والروح، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام:162-163]،إنه إسلام الرضا بالله، والاستسلام لأمره، والقبول بحكمه، والانقياد لشرعه، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
إن دعوتنا هي دعوة سيد الدعاة وإمام الرسل محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، بكليتها وبحقيقتها، نقتفي في ذلك أثره صلى الله عليه وسلم، متبعين خطاه، سائرين على نهجه، فنأخذ بحجز الناس حين نراهم يلقون بأنفسهم في النار، لنخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الباطل المظلم إلى الحق المبين، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن السبل المتفرقة إلى صراط الله المستقيم، مرددين ما قاله ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: «إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة»(3).
ندعو الناس إلى أساسيات واضحة، وإلى أمور شبه واضحة، وإلى أمور دقيقة غامضة، هذا هو الواقع، إذا دعونا الناس إلى الأمور الجلية الواضحة فقط فهذه يمكن أن يدعو إليها أي إنسان مستقيم؛ العامي، وصاحب المتجر، وصاحب المخبز، والبقال، كلهم يستطيعون أن يقولوا: إن الزنا حرام، وإن الربا حرام، والاختلاط بين النساء والرجال حرام، وهذا واجب على الجميع.
وما كان غير ذلك مما اختص به طلبة العلم؛ كالكلام في الطرق الصوفية، فهذا لأهله، وما كان أدق من ذلك فلأهله الخاصة، وهكذا نضع كل شيء في موضعه.
وأنت في كل مرحلة من المراحل بقدر ما تتهيأ له تدعو، ومن الدعوة إلى الله أنه إذا جاءك أمر وأشكل عليك، أو كان فوق طاقتك، أن تحيله إلى من هو أهل له، ثم تدعو الناس، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يدعون الناس، فإن أشكل عليهم أمر سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يستفتون الصحابة العلماء، وهم معدودون ومعروفون، فيرجعون إليهم ويسألونهم ثم يدعون الناس، وهذا أيضًا من الدعوة، ولا يشترط أن أكون حافظًا لكل شيء لكي أقول للناس كل شيء، وهكذا التأهيل على خطوات، ومع التأهيل لكل مرحلة تكون الدعوة، وتكون الانطلاقة(4).
________________
(1) الدعوة قواعد وأصول، ص31.
(2) رسالة: إلى أي شيء ندعو الناس، ص41-43، باختصار وتصرف يسير.
(3) حياة الصحابة (1/ 220).
(4) متى يكون الداعية مؤهلًا للدعوة، سفر الحوالي.