logo

الدعاة والرد على الخصوم (نوح عليه السلام)


بتاريخ : الخميس ، 13 ذو القعدة ، 1439 الموافق 26 يوليو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة والرد على الخصوم (نوح عليه السلام)

إن حركة العقيدة الإسلامية في التاريخ البشري كله، من لدن نوح عليه السلام إلى عهد محمد عليه الصلاة والسلام، قامت على حقائق أساسية واحدة؛ هي الدينونة لله وحده بلا شريك، والعبودية له وحده بلا منازع، والتلقي في هذه الدينونة والعبودية عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ، مع الاعتقاد بأن الحياة الدنيا إنما هي دار ابتلاء لا دار جزاء، وأن الجزاء إنما يكون في الآخرة، وأن حرية الاختيار التي أعطاها الله للإنسان ليختار الهدى أو الضلال هي مناط هذا الابتلاء.

ولقد جاء محمد عليه الصلاة والسلام ومعه {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، أما مضمون هذا الكتاب الأساسي فهو: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)} [هود:2-4].

ففي قصة نوح نجد هذا المشهد: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ... قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)} [هود:27-33]، ثم يجيء مشهد الطوفان وهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين.

ومن ذلك التعقيب على هذا القصص بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دلالته؛ والتسرية عنه بما أصاب إخوانه الكرام قبله، وبما أولاهم الله من رعايته ونصره، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم إلى مفاصلة المكذبين من قومه، كما فاصل الرسل الكرام أقوامهم على الحق الذي أرسلوا به، وذلك إلى التنويه بدلالة هذا القصص ذاته على صدق دعواه في الوحي والرسالة.

فبعد نهاية قصة نوح نجد هذا التعقيب: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49](1).

ويترتب على الدعوة إلى الله انقسام الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، لا تنتهي القضية عند حد مجرد اختيار الإنسان للهدى أو للضلال، للإيمان أو للكفر، كلا! بل تنتقل إلى مسألة الصراع والخصام؛ ولذلك قال: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، الخصام بكل وسيلة، بالصراع العقائدي، واللسان والإعلام والبيان، وبكل وسيلة ممكنة؛ ولذلك يقول الله عز وجل أيضًا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}  [الأنعام:112].

هناك صراع بالقول واللسان والحجة والبيان، وغير ذلك من الأساليب، بين جند الله وجند الشيطان، حتى الرسل والأنبياء جعل الله تعالى لهم أعداءً؛ بل إن الله تعالى عبَّر عن الكافرين بأنهم أعداء الله سبحانه، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فالكافر عدوٌ لله تعالى، كما أن الله تعالى عدوٌ له، وهذا الزخرف اللفظي والبهرج الإعلامي، الذي يستخدمه الضالون، يغتر به من لم يرد الله تعالى هدايتهم؛ بل أراد فتنتهم، ولذلك قال في الآية السابقة: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ}  [الأنعام:113]، أي هذا الزخرف وهذا الخداع والتضليل الإعلامي الذي يسلكه أعداء الإسلام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، بعد ذلك ينتقل الصراع إلى مرحلته الثالثة والأخيرة، وهي الحرب الصريحة بين الإسلام والكفر، وهذا ظاهر جدًا، كما في قوله تعالى: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]، هذه هي نهاية الصراع، أنه يتحول إلى صراع عسكري مسلح دامٍ، والعاقبة للمتقين في الدنيا وفي الآخرة(2).

وهذا نموذج لنبي الله نوح عليه السلام في الرد على خصومه، قال تعالى: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:61]، يقول مبتدئًا القوم بندائهم، بما يقربهم ويدنيهم لَا بما يبعدهم وينبيهم، يناديهم: يا قومِ، يا من أنا منكم وقطعة من جمعكم؛ يضيرني ما يضيركم، ويؤلمني ما يؤلمكم، ثم يقول نافيًا: {لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ}؛ أي ليس بي حال أضلتني عن الحق، وكأنهم قصدوا من الضلالة أنه مسحور قد ضل عقله وغاب، فهو يقول ما بي ضلال؛ بل أنا برشدي الكامل، وأنا فوق ذلك هاد مرشد متحدث عن الله تعالى؛ ولذا أردف نفي الضلالة بقوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} والاستدراك من نفي الضلالة إلى مرتبة عالية، وذكر أنه رسول، قد أرسله الله تعالى رحمة بهم، وإنقاذًا لهم من ضلالهم، وأضاف الرسالة إلى الله تعالى معبرًا بقوله: {رَبِّ العَالَمِينَ}؛ أي الذي ربى الناس وكونهم، وهو القائم عليهم، والمصرف لأمورهم، وللوجود كله سبحانه وتعالى.

وإنه لهذا ما أرسل الرسالة إلا رحمة بكم، وهداية وتوجيهًا إلى الصراط المستقيم(3).

قال المفسرون: الملأ الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء، والدليل عليه أن قوله: {مِن قَوْمِهِ} يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه، وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف، وذلك بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المجالس، وتمتلئ القلوب من هيبتهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء، وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر.

وقوله: {إَنَّا لَنَرَاكَ} هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية.

وقوله: {فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ} أي في خطأ ظاهر وضلال بين، ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بيَّنا أن نوحًا عليه السلام ذكرها؛ وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد، ولما ذكروا هذا الكلام أجاب نوح عليه السلام بقوله: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ}.

فإن قالوا: إن القوم قالوا: {إَنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِيْنٍ}، فجوابه أن يقال: {ليس بي ضلال} فلِمَ تّرك هذا الكلام وقال: {لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ

قلت: لأن قوله: {لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ}؛ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة؛ فكان هذا أبلغ في عموم السلب، ثم إنه عليه السلام لما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها؛ وهو كونه رسولًا إلى الخلق من رب العالمين، ذكر ما هو المقصود من الرسالة، وهو أمران: الأول: تبليغ الرسالة، والثاني: تقرير النصيحة فقال: {أُبَلِغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ}(4).

أي: قال نوح لقومه مستميلًا لقلوبهم: يا قوم، ليس بي أدنى شيء مما يسمى بالضلال فضلًا عن الضلال المبين الذي رميتموني به، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه، لأن التاء في (ضلالة) للمرة الواحدة منه، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، والمقام يقتضي ذلك؛ لأنهم لما بالغوا في رميه بالضلال المبين رد عليهم بما يبرئه من أي لون من ألوانه، وفي تقديم قوله: (بي) تعريض بأنهم هم في ضلال واضح.

ثم قفى على نفي الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه، وهي الهداية والتبليغ عن الله تعالى، فقال: {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف:61-62].

فأنت ترى أن نوحًا عليه السلام بعد أن نفى عن نفسه أي لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة:

أولها: قوله: {وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ}؛ أي: لست بمنجاة من الضلال الذي أنتم فيه فحسب، ولكني فضلًا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم؛ لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر.

قال شهاب الدين الحلبي: «جاءت (لكن) هنا أحسن مجيء؛ لأنها بين نقيضين؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال أو هدى، والرسالة لا تجامع الضلال، و{مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} صفة لرسول، ومن لابتداء الغاية»(5).

وثانيها: قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي}؛ أي: أبلغكم ما أوحاه الله إلي من الأوامر والنواهي، والمواعظ والزواجر، والبشائر والنذائر، والعبادات والمعاملات.

قال الآلوسي: «وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة، رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به من العبادات والمعاملات، أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء؛ كإدريس عليه السلام، والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير رسالته وتقرير أحكامها.

وثالثها: قوله: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}؛ أي: أبلغكم جميع تكاليف الله، وأتحرى ما فيه صلاحكم وخيركم فأرشدكم إليه وآخذكم نحوه.

والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصح هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه، وجميع أنواع التكاليف التي كلفهم الله بها، وأما النصح فمعناه أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات، ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه.

وأما الصفة الرابعة فهي قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ}؛ أي: أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم عن إخلاص، وأعلم في الوقت نفسه من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي أشياء لا علم لكم بها؛ لأن الله قد خصني بها.

أو المعنى: وأعلم من قدرة الله الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، ما لا تعلمونه، فأنا أحذركم عن علم، وأنذركم عن بينة {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ}(6).

قال ابن كثير: «وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغًا فصيحًا ناصحًا عالمًا بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعًا: (أيها الناس، إنكم مسئولون عنى، فما أنتم قائلون؟)، قالوا: (نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم، ويقول: (اللهم اشهد، اللهم اشهد)»(7).

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].

الشبهات ذاتها، والاتهامات ذاتها، والكبرياء ذاته، والاستقبال الغبي الجاهل المتعافي! إنها الشبهة التي وقرت في نفوس جهال البشر: أن الجنس البشري أصغر من حمل رسالة الله، فإن تكن رسالة فليحملها ملك أو مخلوق آخر، وهي شبهة جاهلة، مصدرها عدم الثقة بهذا المخلوق الذي استخلفه الله في أرضه، وهي وظيفة خطيرة ضخمة، لا بد أن يكون الخالق قد أودع في هذا الإنسان ما يكافئها من الاستعداد والطاقة، وأودع في جنسه القدرة على أن يكون من بينه أفراد مهيئون لحمل الرسالة، باختيار الله لهم، وهو أعلم بما أودع في كيانهم الخاص من خصائص هذا الجنس في عمومه.

وشبهة أخرى جاهلة كذلك، هي أنه إذا كان الله يختار رسولًا، فلم لا يكون من بين هؤلاء الملأ الكبراء في قومهم، المتسلطين العالين؟ وهو جهل بالقيم الحقيقية لهذا المخلوق الإنساني، والتي من أجلها استحق الخلافة في الأرض بعمومه، واستحق حمل رسالة الله بخصوصيته في المختارين من صفوفه، وهذه القيم لا علاقة لها بمال أو جاه أو استطالة في الأرض، إنما هي في صميم النفس، واستعدادها للاتصال بالملأ الأعلى، بما فيها من صفاء وتفتح وقدرة على التلقي، واحتمال للأمانة وصبر على أدائها ومقدرة على إبلاغها، إلى آخر صفات النبوة الكريمة، وهي صفات لا علاقة لها بمال أو جاه أو استعلاء! ولكن الملأ من قوم نوح، كالملأ من قوم كل نبي، تعميهم مكانتهم الدنيوية عن رؤية هذه الخصائص العلوية، فلا يدركون مبررًا لاختصاص الرسل بالرسالة، وهي في زعمهم لا تكون لبشر، فإن كانت فهي لأمثالهم من الوجهاء العالين في الأرض! {مَا نَراكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنا}، هذه واحدة.

أما الأخرى فأدهى: {وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ} وهم يسمون الفقراء من الناس (أراذل)، كما ينظر الكبراء دائمًا إلى الآخرين الذين لم يؤتوا المال والسلطان! وأولئك هم أتباع الرسل السابقون غالبًا؛ لأنهم بفطرتهم أقرب إلى الاستجابة للدعوة التي تحرر الناس من العبودية للكبراء، وتصل القلوب بإله واحد قاهر عال على الأعلياء؛ ولأن فطرتهم لم يفسدها البطر والترف، ولم تعوقها المصالح والمظاهر عن الاستجابة، ولأنهم لا يخافون من العقيدة في الله أن تضيع عليهم مكانة مسروقة، لغفلة الجماهير واستعبادها للخرافات الوثنية في شتى صورها.

وأول صور الوثنية الدينونة والعبودية والطاعة والاتباع للأشخاص الزائلة، بدلًا من الاتجاه بهذا كله لله وحده دون شريك، فرسالات التوحيد هي حركات التحرير الحقيقية للبشر في كل طور وفي كل أرض؛ ومن ثَم كان يقاومها الطغاة دائمًا، ويصدون عنها الجماهير، ويحاولون تشويهها واتهام الدعاة إليها بِشَر التهم للتشويش والتنفير.

{وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْي}؛ أي دون ترو ولا تفكير، وهذه تهمة كذلك توجه دائمًا من الملأ العالين لجموع المؤمنين، أنها لا تتروى ولا تفكر في اتباع الدعوات، ومن ثم فهي متهمة في اتباعها واندفاعها، ولا يليق بالكبراء أن ينهجوا نهجها، ولا أن يسلكوا طريقها، فإذا كان الأراذل يؤمنون، فما يليق إذن بالكبراء أن يؤمنوا إيمان الأراذل ولا أن يدعوا الأراذل يؤمنون! {وَما نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}.

يدمجون الداعية بمن تبعوه من الأراذل! ما نرى لكم علينا من فضل يجعلكم أقرب إلى الهدى، أو أعرف بالصواب، فلو كان ما معكم خيرًا وصوابًا لاهتدينا إليه، ولم تسبقونا أنتم إليه! وهم يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ الذي تحدثنا عنه، قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان، فذو المال أفضل، وذو الجاه أفهم، وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائمًا حين تغيب عقيدة التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة، وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب.

وهي انتكاسة للبشرية من غير شك؛ لأنها تصغر من القيم التي بها صار الإنسان إنسانًا، واستحق الخلافة في الأرض، وتلقى الرسالة من السماء، وترجع به إلى قيم أقرب إلى الحيوانية العضلية الفيزيقية {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ}، وهي التهمة الأخيرة يقذفون بها في وجه الرسول وأتباعه، ولكنهم على طريقة طبقتهم (الأرستقراطية).

ويتلقى نوح عليه السلام الاتهام والإعراض والاستكبار، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله، وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره. فلا يشتم كما شتموا، ولا يتهم كما اتهموا، ولا يدعي كما ادعوا، ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهرًا غير حقيقته ولا على رسالته شيئًا غير طبيعتها؛ {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)} [هود:28-31].

وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم، ولمس وجدانهم، وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم، والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والاختيار لها، ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولًا إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها، وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم؛ مبدأ الاختيار في العقيدة، والاقتناع بالنظر والتدبر، لا بالقهر والسلطان والاستعلاء.

ثم يقدم لهم شخصه ورسالته مجردين عن كل زخرف وكل طلاء وكل قيمة من تلك القيم العرضية الزائفة، يقدمها لهم في معرض التذكير؛ ليقرر لهم القيم الحقيقية، ويزدري أمامهم القيم الظاهرية، بتخليه عنها، وتجرده منها، فمن شاء الرسالة كما هي، بقيمها، بدون زخرف، بدون ادعاء، فليتقدم إليها مجردة خالصة لله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ}، فأدعي الثراء أو القدرة على الإثراء، {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأدعي قدرة ليست للبشر أو صلة بالله غير صلة الرسالة {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}، فأدعي صفة أعلى من صفة الإنسانية في ظنكم لأرتفع في أعينكم، وأفضل نفسي بذاتي عليكم {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا}، إرضاءً لكبريائكم، أو مسايرة لتقديركم الأرضي وقيمكم العرضية {اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ} فليس لي إلا ظاهرهم، وظاهرهم يدعو إلى التكريم، وإلى الرجاء في أن يؤتيهم الله خيرًا {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إن ادعيت أية دعوى من هذه الدعاوي، الظالمين للحق وقد جئت أُبَلغه، والظالمين لنفسي فأعرضها لغضب الله, والظالمين للناس فأنزلهم غير ما أنزلهم الله.

وهكذا ينفي نوح عليه السلام عن نفسه وعن رسالته كل قيمة زائفة، وكل هالة مصطنعة يتطلبها الملأ من قومه في الرسول والرسالة، ويتقدم إليهم بها مجردة إلا من حقيقتها العظيمة، التي لا تحتاج إلى مزيد من تلك الأعراض السطحية، ويردهم في نصاعة الحق وقوته، مع سماحة القول ووده إلى الحقيقة المجردة ليواجهوها، ويتخذوا لأنفسهم خطة على هداها، بلا ملق ولا زيف ولا محاولة استرضاء على حساب الرسالة وحقيقتها البسيطة، فيعطي أصحاب الدعوة في أجيالها جميعًا، نموذجًا للداعية، ودرسًا في مواجهة أصحاب السلطان بالحق المجرد، دون استرضاء لتصوراتهم، ودون ممالأة لهم، مع المودة التي لا تنحني معها الرءوس! وعند هذا الحد كان الملأ من قوم نوح قد يئسوا من مناهضة الحجة بالحجة، فإذا هم، على عادة طبقتهم، قد أخذتهم العزة بالإثم، واستكبروا أن تغلبهم الحجة، وأن يذعنوا للبرهان العقلي والفطري، وإذا هم يتركون الجدل إلى التحدي:  {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

إنه العجز يلبس ثوب القدرة، والضعف يرتدي رداء القوة، والخوف من غلبة الحق يأخذ شكل الاستهانة والتحدي: {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

وأنزل بنا العذاب الأليم الذي أنذرتنا به فلسنا نصدقك، ولسنا نبالي وعيدك.

أما نوح فلا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم، ولا يقعده عن بيان الحق لهم، وإرشادهم إلى الحقيقة التي غفلوا عنها وجهلوها في طلبهم منه أن يأتيهم بما أوعدهم، وردهم إلى هذه الحقيقة، وهي أنه ليس سوى رسول، وليس عليه إلا البلاغ، أما العذاب فمن أمر الله، وهو الذي يدبر الأمر كله، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله، وسنته هي التي تنفذ، وما يملك هو أن يردها أو يحولها؛ إنه رسول، وعليه أن يكشف عن الحق حتى اللحظة الأخيرة، فلا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه: {قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}.

فإذا كانت سنة الله تقتضي أن تهلكوا بغوايتكم، فإن هذه السنة ستمضي فيكم، مهما بذلت لكم من النصح، لا لأن الله سيصدكم عن الانتفاع بهذا النصح، ولكن لأن تصرفكم بأنفسكم يجعل سنة الله تقتضي أن تضلوا، وما أنتم بمعجزين لله عن أن ينالكم ما يقدر لكم، فأنتم دائمًا في قبضته، وهو المدبر والمقدر لأمركم كله، ولا مفر لكم من لقائه وحسابه وجزائه: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

وعند هذا المقطع من قصة نوح يلتفت السياق لفتة عجيبة، إلى استقبال مشركي قريش لمثل هذه القصة، التي تشبه أن تكون قصتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعواهم أن محمدًا يفتري هذا القصص.

فيرد هذا القول قبل أن يمضي في استكمال قصة نوح: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}، فالافتراء إجرام، قل لهم: إن كنت فعلته فعليَّ تَبِعَته، وأنا أعرف أنه إجرام فمستبعد أن أرتكبه، وأنا بريء مما تجرمون من تهمة الافتراء إلى جوار غيرها من الشرك والتكذيب(8).

وإثارة الشبهات حول الدعوة والداعية والمدعو سلاح ذو تأثير قوي، يستخدمه خصوم الدعوة الإسلامية وأعداؤها من قديم الزمان، وتاريخ دعوات الأنبياء وسير الدعاة خير شاهد على ذلك، فهل يستعد الداعية لمواجهتها بالدليل والبرهان، ويقوم بالرد عليها بغية إزالتها عن نفوس المدعوين وإفحام المخالفين المعاندين؟ أم يكتفي ببيان الحق ولا ينشغل عنه بالردود على المخالف؛ إذ هو إضاعة الوقت واستجلاب العداوة؟

لقد اختلف العلماء في كيفية تعامل الداعية مع الشبهات التي تثار حول الدعوة والداعية، فذهب فريق إلى أن إزالة الشبهات عن نفوس المدعوين أمر لا يمكن للداعية الاستغناء عنه، ومن ثم يلزمه التعرف على الشبهات المثارة أولًا، وعلى المناهج والأساليب المناسبة للرد عليها ثانيًا؛ ليتمكن من إزالتها عن قلوب وأذهان المدعوين، وإيصال الدعوة إليهم حتى ينكشف الباطل أو تتم عليهم إقامة الحجة فيبتعدوا عنه، ويستنير لهم طريق الحق، فيرجعوا إليه فيهتدوا بهدى الله، وتبرأ ذمة الداعية.

وذهب فريق آخر إلى العكس من هذا القول؛ فقال بأن الرد على الشبهات بغية إزالتها عن قلوب وأذهان المدعوين وإيصال الحق إليهم منهج ليس بسديد؛ إذ لا يأتي هذا المنهج، في أغلب الأحيان، بالنتائج المرجوة، وإنما كثيرًا ما يثير الجدلُ والنقاش النفورَ والعناد واللجاجةَ بين المتجادلين المتناظرين، فيقعان في النزاع ويضيع الحق؛ ولذا فالمنهج الصحيح السديد هو عرض حقائق الإسلام بدون الرد على الشبهات، وإخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام، فأصبحت نموذجًا تطبيقيًا واقعيًا لهذه الحقيقة، يراه الناس فيحبونه، ويسعون إلى الإكثار منه.

ولما كانت مواجهة الشبهات في طريق الدعوة أمرًا حتميًا، كان لزامًا على الداعية أن يتعرف على المناهج الصحيحة، وأساليبها المتعددة، وأدلتها المتنوعة للتعامل مع المدعوين(9).

إن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا ردًا على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر، وإنما من أجل البيان الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين، ثم لا بأس، في أثناء عرض هذه الحقائق، من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قبل الأعداء أو الأصدقاء سواء، وفي مثل هذا الجو في الحقيقة كانت ترد ردود القرآن على شبهات المشركين وأهل الكتاب.

إن معركة الجدل التي يخوضها الشباب المسلم المتحمس مع أعداء الإسلام، لا تستحق في الحقيقة ما يبذل فيها من الجهد.

إن الكثرة الغالبة من هؤلاء المجادلين لا تجادل بحثًا عن الحقيقة ولا رغبة في المعرفة، وإنما فقط لإثارة الشبهات ومحاولة الفتنة.

والرد الحقيقي عليهم ليس هو الدخول في معركة جدلية معهم، ولو أفحمهم الرد في لحظتهم؛ إنما الرد الحقيقي على خصوم الإسلام هو إخراج نماذج من المسلمين تربت على حقيقة الإسلام، فأصبحت نموذجًا تطبيقيًا واقعيًا لهذه الحقيقة، يراه الناس فيحبونه، ويسعون إلى الإكثار منه، وتوسيع رقعته في واقع الحياة.

هذا هو الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهذا هو مجال الدعوة الحقيقية للإسلام(10).

***

______________

(1) في ظلال القرآن (4/ 1841-1843).

(2) الصراع بين الحق والباطل، موسوعة د. سلمان العودة.

(3) زهرة التفاسير (6/ 2879).

(4) تفسير الرازي (14/ 296).

(5) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (5/ 355).

(6) التفسير الوسيط، لطنطاوي (5/ 299).

(7) تفسير ابن كثير (2/ 223)، وأصل الحديث أخرجه مسلم (1218).

(8) في ظلال القرآن (4/ 1876)، وما قبلها باختصار وتصرف.

(9) منهج الدعوة الإسلامية في الرد على الشبهات، ص7.

(10) شبهات حول الإسلام، للأستاذ محمد قطب، ص9.