خوارم المروءة
مررت على المروءة وهي تبكي فقـلت: علام تنتحب الفتاة؟
فقـــــالت: كـــيف لا أبـكي وأهــلي جميـعًا دون خــلق الله ماتوا
قال على رضي الله عنه: «ست من المروءة؛ ثلاث في الحضر وثلاث في السفر؛ فأما اللاتي في الحضر: فتلاوة كتاب الله تعالى، وعمارة مسجد الله، واتخاذ الإخوان في الله، وأما اللاتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح في غير معاصي الله»(1).
إذا المرء أعيته المروءة ناشئًا فمطلبها كهلًا عليه شديد
والمروءة هي التقوى والدين، وعادات الناس فيها متباينة، وأحوال العرب فيها خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر، خصوصًا إذا كانت الضرورة(2).
المروءة من أخلاق العرب التي يقيسون بها الرجال، ويَزِنُون بها العقول، حقًا إنها كلمة لها مدلولها الكبير الواسع، فهي تدخل في الأخلاق والعادات، والأحكام والعبادات، ولا تَكْمُل أخلاق المرء إلا إذا كان ذا مروءة.
المروءة هي الإنسانية، وهي كل أمر هنيء حميد المغبة جميل العاقبة، وهذا هو السيادة، يعني أن من كانت المروءة في غريزته حمله طبعه على تعاطيها في شبابه، غنيًا كان أو فقيرًا، ومن لم يكن عنده لم يقدر على تكلفها في سن الاكتهال، فلِله دَرُّهم! ما كان أحكمهم وأدراهم بالدقائق وأعلمهم؛ ولذلك جعل هذا النبي الأمي منهم، فملأت معارفه الأكوان، وسمت في رتب المعاني صاعدة فأين منها كيوان(3).
المروءة في كتب اللغة كما قال ابن الفارس: «الرجولية، وقيل صاحب المروءة: من يصون نفسه عن الدنس، ويقال: مرؤ الرجل؛ أي: صار ذا مروءة، وتمرأ الرجل؛ أي: تكلف»(4).
وقيل: هي السمت الحسن، وحفظ اللسان، والاجتناب من السخف، وألا يأتي الشخص ما يعتذر منه، مما يبخسه من مرتبته عند العقلاء، والمروءة هي من الأدلة التي يُستدل بها على أهل الفضل ومقامهم ووجوب إقالة عثراتهم، ولا يتسع المقام لذكر كل ما قيل عن المروءة وأهلها وفضلها، ولكن بالضد تتبين الأشياء(5).
وقال الماوردي: «المروءة مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها؛ حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق»(6).
قال بعضهم: حد المروءة رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر، والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم.
لقد أسمع القول الذي كاد كلما تذكرنيه النفس قلبي يصدع
فأبدي لمن أبداه مني بشاشةً كأني مسرور بما منه أسمع(7)
وفي تعريف المروءة كمصطلح أنها: كمال الإنسان من صدق اللسان، واحتمال عثرات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الجيران، وهي التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه في لبسه ومشيه، وحركاته وسكناته، وسائر صفاته(8).
فالمروءة لها معنيان: الإنسانية أو كمال الرجولية، أو الرجولية الكاملة؛ وكمال الرجولية ينتظم من الأخلاق الحميدة، والآداب السامية، فالمروءة إذًا هي جماع مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، فمن يفوته جانب من هذه المكارم يفوته جانب من العناصر التي تتكون منها المروءة.
وليذهبن بهاء كل مروءة وليفقدن جمالها المأهول
إن من المروءة لزوم الحياء والتواضع والحلم ونظافة البدن والرائحة الطيبة ومراعاة العادات وتجنب الفضول... إلخ.
وإن غابت المروءة عند المرء قلت هيبته واحترامه في نظر الآخرين، فابحث عن أسباب جلبها، فوالله إنها من أجمل الأخلاق.
يقول الشاعر:
وإذا جلست وكان غيرك قائمًا فمن المرؤة أن تقوم وإن أبى
وإذا اتكأت وكان غيرك جالسًا فمن المروءة أن تزيل المتكا
واذا ركبت وكان غيرك ماشيًا فمن المروءة إن مشيت كما مشى
وقيل للأحنف: «ما المروءة؟»، فقال: «العفة والحرفة»، وسئل آخر عن المروءة فقال: «المروءة ألا تفعل في السر أمرًا وأنت تستحيي أن تفعله جهرًا»(9).
ومن هذا يلمح أن المروءة تلتقي أيضًا ومعنى السهولة، فهي في الأخلاق السهلة الكريمة التي تستسيغها الطباع السليمة، وتسعى إلى بلوغها النفوس النازعة نحو الكمال.
جاء في كتاب الكامل للمبرد: «يروى عن ابن عمر أنه كان يقول: (إنا، معشر قريش، كنا نعد الجود والحلم السؤدد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة)».
وقيل لعبد الملك بن مروان: «ما المروءة؟»، فقال: «موالاة الأكفاء، ومداجاة الأعداء»(10).
وتأويل المداجاة المداراة؛ أي لا تظهر لهم ما عندك من العداوة.
وقيل لمعاوية: «ما المروءة؟»، فقال: «احتمال الجريرة، وإصلاح أمر العشيرة»، فقيل له: «وما النبل؟»، فقال: «الحلم عند الغضب، والعفو عند القدرة»(11).
ويبدو أنهم قد اختلفوا في أي الصفات أقرب إلى تحقيق المروءة، وأيها أولى برفع المنزلة واستجلاب الهيبة؛ فرآها بعضهم في إصلاح المال، ورآها آخرون في صفات معنوية أخرى.
وتلتقي المروءة في الاشتقاق مع المرء، وهو الواحد من بني آدم، فكأنها إذ تصبغه بتلك الصفات الجميلة، ترده إلى إنسانيته التي خلق عليها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، أما رده أسفل سافلين فقد يكون بالهوى الذي تميل النفوس إليه، أو بالاستجابة إلى وساوس الشيطان: أي أن الله عز وجل خلق جنس الإنسان في أحسن شكل، متصفًا بأجمل الصفات وأكملها، لكن الله سبحانه قد رده أسفل سافلين؛ بكفره وعصيانه واتباعه لهواه.
ومن هنا جاء قول الشاعر لبيد بن ربيعة:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح
فالفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها كريمة، لكنها معرضة للتلوث والانحراف، أو الانحطاط باتباع الهوى؛ فجاء الدين للحفاظ عليها نقيةً قويمةً، وجاءت الأنظمة والتشريعات لضبطها وإرشاد الإنسان إلى ما لا يضمن اهتداؤه إليه بنفسه.
فمن أصاب من الشعراء صفةً من الصفات الكريمة، التي فطر الله الإنسان عليها، فقد تضمن شعره ما يحيي المروءة، ويذكي ذكرها تنويها وتمجيدًا، وبناءً على كون المروءة جامعةً للمحاسن كلها، فإنك واجدها في الكرم، وعزة النفس، والحفاظ على الجار، والكرم والجود، والإيثار، والشجاعة والنجدة، والقناعة والزهد بمتاع الدنيا الفانية، وطهارة العرض، والحياء، والحفاظ على العهد والوفاء بالوعد، وعدم احتمال الضيم، وفي الصبر وعدم الملل أو الضجر، وفي نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، وغيرها من المناقب والمحاسن الخلقية.
وقد عقد ابن خلدون فصلًا في مقدمته بين فيه أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير، وقال في موضع آخر: «وهم مع ذلك أسرع الناس قبولًا للحق والهدى؛ لسلامة طباعهم من عوج الملكات، وبراءتهم من ذميم الأخلاق»، مع ما هم عليه من ضلال في الأديان، وظلم في التشريعات، وتواضع منزلتهم السياسية بين الأمم(12).
ومن المعلوم أن التشريع الإسلامي حين نزل ثم اكتمل قد أقر في العرب أخلاقًا وسجايا كانت تتحلى بها وتقدرها؛ كالكرم والحفاظ على العهد والشجاعة والشهامة، ونفى أخرى كانت العرب متورطة فيها؛ كالحمية الجاهلية، والغزو للنهب والسلب، والمفاخرة بالقبيلة وغيرها، فبعد نزول الشريعة صارت هي الميزان والحكم على أخلاق العرب ومفاخرهم، فَحُكم الله قاض على تلك الصفات، قبولًا أو رفضًا، وتهذيبًا أو تكميلًا.
يقول أحد الرحالة: «حين نمر بأناس ونقول: السلام عليكم، يردون السلام واقفين، فالأعرابي لا يرد السلام إلا واقفًا، ويقول: توجهت إلى الصحراء مع اثني عشر رجلًا من الأعراب، وكان ذلك بعد ثمانية أيام من تركنا البئر، وقد أصبحنا على مقربة من بئر أخرى بعد أن اشتد بنا العطش، ووصلنا البئر وسقينا إبلنا، وأطلقناها ترعى ثم جلسنا جنب البئر، ولم يشرب أحد منا بعد، وحرصت ألا أظهر بمظهر المتهافت المتعجل، ولكن الظمأ دفعني إلى اقتراح الشرب، وأعطاني كبيرهم قدحًا من الماء، ووجدت من اللياقة أن أقدمها للشيخ، ولكنه رفض وطلب مني أن أشرب، أما هو فإنه لن يشرب حتى يصل الآخرون، وأضاف قائلًا: إنه من غير اللائق أن يشرب دون رفاقه في السفر، فالبدوي لا يأكل أو يشرب في غياب صاحبه ورفيقه».
وفي موضع آخر يقول: «إن البدو يسيرون، عادة، مستقيمي الجذع، وبِخُطًا قصيرة، وذلك لأن طأطأة الرأس أو الركض يعدان نقيصة من نقائص المروءة بينهم، وكذلك من يأكل وهو يمشي أو على قارعة الطريق».
فهل آن الأوان أن نحافظ على كل ما هو خاص وخصوصي بنا، وبتكوين الشخصية العربية، التي سادت العالم في يوم كانت فيه متمسكة بهويتها، معتزة بها؟(13).
أنواع المروءة:
(1) المروءة مع الله: بالاستحياء منه حق الحياء، وألَّا يقابل إحسانه ونعمته بالإساءة والكفران والجحود والطغيان؛ بل يلتزم العبد أوامره ونواهيه، ويخاف منه حق الخوف في حركاته وسكناته.
(2) المروءة مع النفس: بحملها على ما يجملها ويزينها، وترك ما يدنسها ويشينها.
(3) المروءة مع الناس: بإيفائهم حقوقهم على اختلاف منازلهم والسعي في قضائها، والبشاشة وطلاقة اللسان وسعة الصدر وسلامة القلب تجاههم، وقبول النصيحة منهم، والصفح عن عثراتهم، وستر عيوبهم، واحتمال أخطائهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
عوامل تحقيق المروءة:
1- اختيار الزوجة الصالحة مما يعين على تحقيق المروءة، فهي مع الزوج حرصًا منها على سمعته ومصلحته الشخصية «فاظفر بذات الدين تربت يداك»(14).
2- مجالسة أهل المروءات، ومجانبة السفهاء وأهل السوء.
3- علو الهمة والتطلع إلى أصحابها، فكلما علت الهمة ازدادت المروءة.
4- شرف النفس واستعفافها نزاهتها وصيانتها.
أسباب خوارم المروءة:
نقص الدين، وقلة الحياء، وخبل في العقل(15).
خوارم المروءة:
من خوارم المروءة ما هو محرم، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو مناف للآداب والحشمة، فمن تلك المجالات:
1- الرقص والتصفيق للرجال، فالرقص والتصفيق والتمايل مع الأنغام المحرمة، وهز بعض أعضاء الجسم أو تحريكها، وغير ذلك من الحركات الساقطة، التي يؤديها البعض في الاحتفالات والأعراس ونحو ذلك، مما لا يليق بالإنسان المسلم، ذكرًا كان أو أنثى، حتى إن بعض أهل العلم وصف الرقص والتصفيق والتمايل إذا صدر عن الرجال بأنه خفة ورعونة، مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلهما إلا أرعن.
2- استخدام الضيف وتكليف الزائر بالعمل ولو كان خفيفًا؛ لأن الإكثار منه لغير حاجة ليس من المروءة، قال عمر بن عبد العزيز: «ليس من المروءة استخدام الضيف».
3- البول قائمًا من غير حاجة، وكذا البول في قارعة الطريق؛ لأن الأَولى أن يتبول الإنسان جالسًا؛ لما في ذلك من المنافع الصحية، والاحتياط لعدم انتشار النجاسة أو التلوث بها، أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك، من مرض ونحوه، فلا بأس في ذلك إن شاء الله.
4- الأكل في الطريق والأسواق والأماكن العامة؛ ما لم تكن مكانًا معدًا للطعام، أو مكانًا يستتر فيه عن الناس، فهذا فعل وطبع يتنافى مع كمال المروءة، ولا يتفق ومكارم الأخلاق ومحاسن الصفات؛ ولذلك فقد ورد أثر عن ابن سيرين أنه قال: «ثلاثة ليست من المروءة: الأكل في الأسواق، والادهان عند العطار، والنظر في مرآة الحجام»(16).
5- الإكثار من تناول الطعام والإقبال عليه بنهم شديد، لا سيما عندما يكون الإنسان مدعوًا إلى وليمة أو نحو ذلك؛ لما في ذلك من منافاة للأدب، ولما فيه من مخالفة لهدي الإسلام عند تناول الطعام، وقد ذكر ابن عبد البر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا دعي إلى طعام أكل شيئًا قبل أن يأتيه، ويقول: «قبيح بالرجل أن يظهر نهمته في طعام غيره»(17).
6- التجشؤ بصوت مرتفع، أو ما يعرف بعادة التكرُّع، ويقصد بذلك إخراج صوت مرتفع ومزعج من الفم في حضرة الناس، وعادة ما يكون التجشؤ نتيجة للشبع وكثرة الأكل، وهنا تجدر الإشارة إلى أن من أسوأ العادات وأكثرها أذى في الصلاة أن يتجشأ آكل الثوم أو البصل أو الكراث في صف المصلين، فيزعجهم ويقطع خشوعهم، وتخرج من فمه رائحة كريهة، يؤذي بها عباد الله من الملائكة والمصلين، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كُف عنا جُشَاءَكَ، فإن أكثرهم شِبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة)»(18).
7- من خوارم المروءة أن يأكل الرجل وحده في البيت من أطايب الطعام ويترك ما بقي لزوجته وأولاده.
إن من كمال المروءة أن يطعم زوجته كلما أكل، ويكسوها إذا اكتسى(19).
8- إخراج الريح بصوت مع القدرة على ضبط النفس؛ بخلاف ما لو خرج من غير قصد، ولا يجوز الضحك من ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لِمَ يضحك أحدكم مما يفعل؟»(20).
قال النووي رحمه الله: «وفيه النهي عن الضحك من الضَّرْطة يسمعها من غيره؛ بل ينبغي أن يتغافل عنها ويستمر على حديثه واشتغاله بما كان فيه، من غير التفات ولا غيره، ويظهر أنه لم يسمع، وفيه حسن الأدب والمعاشرة».
9- أن يحاكي شخصًا في حركاته ومشيته من باب السخرية وإضحاك الناس، أو أن يأتي الإنسان ببعض الأقوال أو الأفعال الهزلية التي تضحك منه الناس؛ كأن يقلد شخصًا في كلامه أو حركاته أو نحو ذلك، لغرض السخرية منه، وإضحاك الآخرين عليه، ويعظم أمر هذا السلوك الخاطئ عندما يكون المقلد مبتلى بذلك الشيء أو تلك الصفة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب ويل له ويل له»(21).
10- أن يتحدث الإنسان إلى جلسائه ببعض الأحاديث المخلة بالآداب، وأن يخبرهم، صادقًا أو كاذبًا، ببعض القصص والمغامرات والأحداث الفاضحة؛ بحجة الإمتاع والمؤانسة، وهذا أمر مخالف لما أمر الله به عباده من الستر وعدم نشر الفاحشة بين المسلمين، كما يتبع هذه المخالفة أن يتحدث الإنسان عما يقع بينه وبين امرأته من أمور خاصة، أو وصف تفاصيل ذلك، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها»(22)؛ وما ذلك إلا لما في هذا الأمر من خيانة للأمانة، ومخالفة للمروءة وآداب المسلم، التي تمنعه من مجرد التعرض لهذا الأمر تصريحًا أو تلميحًا، وأما مجرد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجة فذكره مكروه؛ لأنه خلاف المروءة.
قال النووي: «تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمر الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(23)(24).
12- تذوق الأطعمة والفواكه عند الباعة، وكذا الادهان عند العطار دون استئذانهم، أو دون أن ينوي الشراء منهم.
13- كشف العورة وما جرى بالعادات عند الناس ستره؛ سواء أكان ذلك الكشف صادرًا عن الرجال أم النساء، ولا سيما في الاحتفالات والأعراس، وعند ممارسة الألعاب الرياضية في الملاعب والمسابح والصالات المغلقة، فعن زرعة بن عبد الرحمن عن جده جرهد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وقد كشف فخذه فقال: «غطها فإنها عورة»(25).
14- لبس بعض الناس، وبخاصة من هم في سن الشباب، للملابس الغريبة الوافدة؛ لما قد يكون فيها من التشبه بأهلها، أو لأنها لا تليق بالإنسان المسلم العاقل المتزن، لا سيما في المساجد والأسواق والمجالس والأماكن العامة، ومن هذه الملابس القبعات والأقمصة الملونة، والملابس الشفافة والملابس غير الساترة، والبنطلونات والسراويل الضيقة جدًا، وغيرها من الملابس المضحكة المزرية، التي وفدت إلينا من مجتمعات غير محافظة على القيم والأخلاق الإسلامية، والتي قد تكثر عليها الرموز والشعارات والعبارات المخالفة لتعاليم ديننا الحنيف، أو المخلة بالآداب والمنافية للأذواق السليمة.
قال في الفتح، وهو يتكلم عن لبس الثوب الأحمر: «وقال الطبري: (الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعًا بالحمرة، ولا لبس الأحمر مطلقًا ظاهرًا فوق الثياب؛ لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثمًا، وفي مخالفة الزي ضرب من الشهرة، والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك»(26).
15- عدم احترام الصغار للكبار، سواء أكان ذلك في المجالس أم في المناسبات، وعدم توقير كبار السن وإنزالهم منازلهم، حتى أصبحنا في وقتنا الحاضر نرى الصغار يسابقون الكبار في كل شيء، وقد يعارضونهم في الكلام، أو يسخرون منهم، وهذا أمر محرم؛ لأن الله تعالى، وهو رب العالمين، يكرم ويجل ذي الشيبة المسلم، فقد روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم»(27)، وهنا تجدر الإشارة إلى أن على الآباء تربية أبنائهم على آداب المروءة، وتعويدهم إياها منذ نعومة أظفارهم؛ حتى لا تسبق إليهم الأخلاق والطباع السيئة، فتحول بينهم وبين مكارم الأخلاق وجميل الطباع، قال الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئًا فمطلبها كهلًا عليه عسير
16- مخاطبة المرأة الرجل بخطاب فاحش أمام الناس وفي تجمعاتهم، وجلوس الرجل مع النساء الأجنبيات في الأماكن العامة، ودخول الأماكن التي فيها انتهاك حرمات الله ولو لم يكن هو كذلك، قال ابن حجر في الفتح: «(فمن اتقى الشبهات)؛ أي: حذر منها، قوله: (استبرأ) بالهمز، بوزن استفعل، من البراءة؛ أي: برأ دينه من النقص، وعرضه من الطعن فيه؛ لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة»(28).
17- التكلم بالأعجمية وترك العربية من غير حاجة، قال عمر رضي الله عن: «ما تكلم الرجل الفارسية إلا خب، ولا خب إلا نقصت مروءته»(29)، وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للبلد وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو لأهل الديوان، فلا ريب أن هذا مكروه؛ فإنه من التشبه بالأعاجم»(30).
18- الاكثار من المزاح، فهو مما يذهب المروءة ويسقط الهيبة، ولا سيما مع من لا يعرفهم الإنسان؛ لما في ذلك من إسقاط هيبته والإقلال من مكانته، ولأن كثرة المزاح مدعاة لحصول الخصام، وإثارة الأحقاد في النفوس.
قال الشاعر:
فإياك إياك المــــــزاح فإنــــــــــه يُجَرِّي عليك الطفل والدَّنِس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ويورث بعــــــــد العز صاحـــــبه ذلًا
وهنا يجدر التنبه إلى أن هذا لا يعني أن يكون الإنسان عبوسًا منقبضًا، فإن هذا مما يذم ويكره، ولكن هدي الإسلام أن يكون الإنسان جادًا في قوله وعمله، وكل شأنه، مع شيء من البشاشة وطلاقة الوجه، لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»(31)، وما ذلك إلا لما ينتج عن كثرة المزاح، في الغالب، من الاستخفاف وقلة الهيبة وذهاب الحشمة.
19- إضاعة الوقت بالجلوس لوقت طويل في المقاهي والاستراحات وما في حكمها لغير حاجة ملحة، وكلنا نعلم أن المقاهي وما شابهها تُعَد، في الغالب، من الأماكن التي يجتمع فيها أراذل الناس ورفاق السوء، وقد ورد عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال: «آفة المروءة إخوان السوء».
يضاف إلى ذلك ما في ارتياد هذه الأماكن من هدر للوقت وإضاعته فيما لا فائدة منه، ولا نفع فيه، ولا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد والانحراف، وهنا يجدر بنا أن نتذكر ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة، (أي حسرة وندامة)، وما مشى أحد ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحد إلى فراشه ولم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة»(32).
20- تقبيل الزوجة ليلة زفافها بحضرة الناس، كما يُفعل في الأعراس المختلطة، من خوارم المروءة، أو وضع يده على موضع الاستمتاع منها، من صدر ونحوه(33).
21- قص شعر الرأس بأشكال غريبة وغير مألوفة، وكلنا يعلم أنه قد انتشرت في هذا الزمان بعض قصات الشعر المضحكة المبكية، وخاصة بين الشباب والشابات، والتي يعلم الله أنها تشوه الشكل، وتدل، دلالة واضحة، على فساد الذوق وحب التقليد، كما تؤكد أن من يفعلها عامدًا متعمدًا ضعيف العقل ممسوخ الهوية؛ لأنه مقلد للآخرين ممن لا دين لهم ولا مروءة ولا حياء.
22- امتهان الشحاذة ومد اليد للناس من غير حاجة ضرورية تدعو إلى ذلك، وما عد التسول مما يخالف المروءة إلا لما في ذلك الفعل من احتمال الكذب والخداع والتحايل، الأمر الذي يسقط مروءة الإنسان، ويذهب ماء وجهه في الدنيا ولحمه في الآخرة، فقد روي عن حمزة بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم»(34)، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير فيه وأبعد بالبهاء من الرجال
كما قال بعض أهل العلم: إن من كان أكثر عمره سائلًا، أو يكثر ذلك منه؛ فينبغي أن ترد شهادته؛ لأن ذلك دناءة وسقوط مروءة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من الشحاذين والمتسولين الذين اتخذوا سؤال الناس مهنة لهم، وممن يتنقلون بين المساجد والجوامع وهم يحملون الأوراق والصكوك والتقارير الطبية ليستشهدوا بها على فقرهم وحاجتهم الزائفة، وقد يحمل بعضهم أطفالًا صغارًا أو معاقين؛ ليستدروا بهم عطف الناس وشفقتهم، أكثرهم من الكاذبين والمحتالين الذين يحتاجون إلى تأديب وردع من الجهات المعنية، فالواجب على الناس عدم الانخداع بهم أو التعاطف معهم، لا سيما أنهم يحدثون كثيرًا من التشويش والفوضى في بيوت الله تعالى، ويتسببون في قطع خشوع الناس ومنعهم من الانشغال بالتسبيح والذكر بعد الصلاة.
وهذا يعني أن هذه الصور المخالفة للمروءة تحتاج منا إلى أن نعيد النظر فيها متى وجدت عندنا، وفي كل الأفعال والأقوال والتصرفات التي لا يقرها شرع ولا يقبلها عقل، كما أن علينا أن نجتهد جميعًا في تصحيح أخطائنا، وأن نجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القول والعمل، والالتزام بتعاليم الدين وتوجيهات سنة رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وآداب تربيتنا الإسلامية السامية(35).
***
______________
(1) روح البيان (1/ 209).
(2) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 242).
(3) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (16/ 166).
(4) شرح كتاب سيبويه (4/ 450).
(5) شرح فتح القدير (7/ 415)، البحر الرائق (7/ 92).
(6) أدب الدنيا والدين (1/ 401).
(7) نهاية الأرب في فنون الأدب (6/ 50).
(8) شرح نخبة الفكر، للقاري (1/ 247).
(9) لسان العرب (1/ 155).
(10) الكامل في اللغة، ص25.
(11) الأمثال والحكم، ص107.
(12) المروءة في ظلال الشعر، شبكة الألوكة.
(13) المروءة بين حدين، الوطن أون لاين.
(14) أخرجه البخاري (5090)، ومسلم (1466).
(15) تخلقوا بخلق المروءة، موقع: صيد الفوائد.
(16) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص233.
(17) بهجة المجالس وأنس المجالس، ص189.
(18) أخرجه الترمذي (2478).
(19) عون المعبود وحاشية ابن القيم (6/ 128).
(20) أخرجه البخاري (4942).
(21) أخرجه الترمذي (2315).
(22) أخرجه مسلم (3542).
(23) أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47).
(24) شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 8).
(25) أخرجه ابن حبان (1710).
(26) فتح الباري (10/ 306).
(27) أخرجه أبو داود (4843).
(28) فتح الباري (1/ 127).
(29) مسند الفاروق (2/ 345).
(30) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 526).
(31) أخرجه مسلم (6690).
(32) أخرجه ابن حبان (853).
(33) مغني المحتاج (4/ 575).
(34) أخرجه مسلم (2396).
(35) من آداب المروءة وخوارمها، موقع: صيد الفوائد.