التناغم التربوي
التناغم التربوي هو الذي يكون بين الوالدين، فلا تجد في أسلوبهما التربوي للأبناء نغمةً نشازًا؛ بل نجد تناسقًا وتكاملًا وانسجامًا في العملية التربوية، وبالتالي يكون الأثر إيجابيًا وعظيمًا في بناء الشخصية السوية القوية للأبناء.
المشكلة التي تعانيها الكثير من الأسر افتقارهم لهذا التناغم التربوي، وبالتالي ينشأ الانحراف عند الأبناء أو التناقض في شخصياتهم، أو فقدانهم الكثير من مقومات الشخصية القوية المتكاملة، وبالتالي أصبح من الضروري التذكير بأهمية هذا التناغم التربوي، والذي يقوم على التفاهم التام بين الزوج وزوجته على الطرق التربوية التي يتعاملون بها مع الأبناء، دون أن يحدث أي تناقض يتسبب في تحطيم العملية التربوية، كأن يتفق الزوج مع زوجته على مصروف الأطفال، ومن الذي يعطيهم هذا المصروف، وعلى ألا يزيد المبلغ على المبلغ الفلاني، إلا في حالات الضرورة المقنعة.
وأن يتفقا على عدم الاختلاف أمام الأطفال على الأسلوب التربوي لأحدهما، كأن يضرب الوالد ابنه فيذهب الابن إلى أمه شاكيًا، فتأتي الأم وتعترض أمام الابن على زوجها، وأن الابن لا يستحق كل ذلك ليضرب، أو العكس؛ بل لا بد من الاتفاق على أن الابن إذا لجأ للأم أو للأب بعد معاقبته لا بد أن تقف الأم مع زوجها، وتقول للابن إنك أخطأت وتستحق العقوبة، وإن لم تكن مقتنعة بتلك العقوبة، كما يجب ألا يُكَذِّب الزوج زوجته أمام الأبناء، أو ينتقد بعض تصرفاتها، أو يحاول تعديلها أمام الأبناء؛ بل لا بد أن يتم ذلك بعيدًا عن الأطفال، هذه بعض أمثلة التناغم التربوي، والذي له أكبر الأثر في تنشئة الأطفال(1).
كلكم راع ومسئول:
إن تربية الأبناء مسئولية مشتركة بين الوالدين، فقد أولاهما الله سبحانه وتعالى حفظ هذه الأمانة، كل بحسب موقعه وقدرته، ولا ينبغي حصر هذه المسئولية العظيمة في واحد منهما دون الآخر.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها»(2).
قال المهلب: «هذه كلها أمانات، تلزم من استرعيها أداء النصيحة فيها لله، ولمن استرعاه عليها، ولكل واحد منهم أن يأخذ مما استرعى أمره ما يحتاج إليه بالمعروف من نفقة ومؤنة»(3).
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «إن الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما ينقش فيه، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة مربيه والقيم عليه»(4).
وهكذا يجمع العلماء على ضرورة تربية الأولاد تربية صحيحة، قوامها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن من يقوم بهذه المهمة إنما يقوم بعمل عظيم، هو امتداد لمهمة الأنبياء والمرسلين الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر وتعليمهم، والطفل، كما يقولون، صحيفة بيضاء نقية في أيدي أبويه ومن يربيه، فإذا نقشوا فيه صالحًا نشأ صالحًا، وإن نقشوا فيه شيئًا فاسدًا نشأ على السوء والفساد، فإذا أدرك الآباء والمربون هذه الأمانة وحملوها بصدق وإخلاص فلتبشر الأمة بالنصر القريب، عملًا بقول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وفي أداء المسئوليات المشتركة جاءت الشريعة بالأمر بوسيلة تؤدي، في الغالب، إلى أكمل النتائج وأحسنها، وذلك من خلال الحوار والمشاورة، ولعل هذه القيمة أعظم سبب لسعادة الأسرة ونجاح التربية، وقد جاء الأمر بالشورى في المسئوليات المشتركة في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة:233] .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده؛ حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه»(5).
إن الاختلافات في وجهات النظر، خاصة في تربية الأطفال، أمر في غاية الخطورة في حال عدم التعامل معه بشكل صحيح، حيث يتحتم على الوالدين أخذ الموضوع بعين الاعتبار والانتباه لتبادل وجهات النظر بعيدًا عن أطفالهم.
ولعل إدراك الوالدين لخطورة انعكاسات تعارض أساليب التربية على شخصية الابن يحثهما على ضرورة تجاوز هذه المشكلة.
فالرسالة التربوية التي يحرص الأب على إيصالها ستضيع ويتلاشى أثرها إن قامت الأم بتوجيه رسالة مغايرة لها؛ ويؤدي ذلك إلى اختيار الابن الرسالة التي تناسبه هو؛ بل كثيرًا ما يبتدع حلًا ثالثًا تبعًا لهواه هو، وذلك يعني صعوبة في تمييز الابن بين الصواب والخطأ، والحلال والحرام، وهو أخطر ما يواجه التربية الصحيحة.
وتعارض أساليب التربية قد يؤدي إلى كراهة الطفل أحد الوالدين وضعف الميل نحوه، وقد تبدو المشكلة أكبر فأكبر في مراحل متقدمة من تعمق الخلاف بين الأب والأم حول تربية الأبناء.
فمن الواجب أن يكون هناك اتفاق مبدئي، بين الأب والأم، على عدم قيام أي طرف منهما بتوجيه رسالة تربوية مخالفة للرسالة التي وجهها أحدهما إلى الأبناء، خاصة أمامهم، وإن كان ثمة ملاحظات أو اعتراضات على تلك الرسالة فيؤخر أمرها إلى حين المشاورة والمحاورة بعيدًا عن عين الأبناء.
كما أن من المهم جدًّا أن يتعامل الوالدان بينهما بالصدق والصراحة، فلا ينبغي، لا شرعًا ولا خلقًا وتربية وأدبًا، لأحد الوالدين أن يظهر للآخر موافقة على أسلوب تربوي معين، ولكنه في حقيقة الأمر يخالفه ويناقضه ولا يقوم به، وسريعًا ما يكتشف الطرف الآخر خداعه له، فتفقد الثقة بين الأبوين في مسألة التربية، ولا تؤدي إلا إلى تفاقم المشكلة، في حين أن سلوك الصراحة والمشاورة والمراضاة بين الأبوين يؤدي إلى تجاوز الخلاف، كما أنه يتجاوز بالأبوين كل خلاف آخر، وذلك حين يعتادان على الشورى والتفاهم.
ويجب مراقبة الله عز وجل في تربية الأبناء، والتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أصول التربية عند الاختلاف، فإن كان الاختلاف في الوسائل فطريقة المشاورة والمحاورة بين الأبوين، ثم بعد ذلك يكون الحَكَم بينهما هو الناصح الأمين، من أهل الاختصاص أو الخبرة، وإذا صدق الوالدان في نيتهما صلاح الأبناء خلقًا ودينًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل لهما من خلافهما مخرجًا.
مع التنبيه إلى أن الله تعالى جعل في المرأة ما لم يجعل في الرجل، فالعاطفة والحنان عند المرأة أكثر منه عند الرجل، ورجاحة العقل وقوة الإرادة والإدارة عند الرجل أكثر منه عند المرأة، فيراعى هذا الجانب في الخلاف بين الزوجين، ولعلَّ الأمر لو أوكل للزوج أن يكون فيه نفع بالغ، إن كان الزوج متصفًا بالدين والعقل.
السبب الرئيسي لاختلاف الأبوين في تربية أبنائهم:
تعتبر التربية مسئولية مشتركة بين الوالدين، أعطاهم الله هذه الأمانة، ولكل منهم مسئولية ودور عليه القيام به، ولا ينبغي تركها على طرف دون الآخر.
فيكمن السبب الرئيسي لاختلاف الأبوين في تربية أبنائهم من غياب مبدأ الشورى والحوار والنقاش، فتتعارض آراء الزوجين في المسئوليات المشتركة الملقاة على عاتقهم في التربية، ويرجع ذلك إلى اختلاف الثقافة والبيئة بينهما.
فكثير من الأحيان يتعارض الأب مع النظام التربوي الذي تتبعه الأم، والعكس صحيح.
إن الكثير من العائلات والأسر تفتقر إلى مبادئ أساسية في التعامل مع الأطفال وتربيتهم، التي تستطيع من خلالها تجنب حالات سلبية عديدة في حياة أولادهم.
ورغم تعدد السلبيات التي يقع فيها الآباء والأمهات في التعامل التربوي مع أبنائهم، وكثرة البحوث العلمية والتطبيقية حول أفضل الطرق التربوية، يعد اختلاف الأب والأم في تربية الأولاد من أكثر المشاكل تكرارًا في الأسر، ومن أعمها ضررًا وأبلغها أثرًا وأسرعها ملاحظة وظهورًا.
وتأتي هذه الحالة عندما يقوم أحد الطرفين، الأب أو الأم، بتربية أحد أبنائهم بطريقة معينة وفق فكر معين، ويأتي الطرف الآخر لينقض تلك التربية وذلك الفكر بفكر وطريقة مختلفة، قد تصل حد التضاد، ما يوقع الابن في حيرة مركبة، ويضيع بالتالي تعب الطرفين في تحقيق أي أثر ناجح في تربيتهما.
بعض الأسر يوجد فيها اختلاف حول وجهات النظر في تربية الطفل بين الأم والأب؛ كأن يؤمن الأب بالصرامة والشدة، بينما تؤمن الأم باللين وتدليل الطفل، أو يؤمن أحدهما بالطريقة الحديثة، والآخر بالطريقة التقليدية.
ولننظر معًا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتأمل كيف نص الحديث على مسئولية كل واحد من الأبوين، ليؤكد استقلال كل واحد بهذا التكليف، وفي حديث الفطرة يظهر أيضًا كيف أن التوجه الديني للأبناء مبني على توجه أبويهم معًا، وليس واحدًا منهما فقط، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»(6).
الآثار السلبية لخلاف الوالدين على الصحة النفسية للطفل:
يقوم أحد الوالدين بتربية الأبناء بطريقة معينة، ويأتي الطرف الآخر لينقض تلك الطريقة بالتربية، هنا يصبح الأبناء ضحية تربية متناقضة ومتعارضة؛ تؤدي، في النهاية، إلى إنهاك الأب والأم دون تحقيق أي أثر إيجابي ناجح في تربية الأبناء .
تتولد لدى الطفل آثار كثيرة دون علم الأهل بها، فقد يكون فريسة سهلة للأمراض والعقد النفسية؛ كبكاء الطفل دون سبب، وانعدام الأمان العاطفي بين الطفل والوالدين، وعدم قدرة الطفل على الاستيعاب والتركيز، إضافة إلى شعوره بالإحباط وانعدام ثقته بالآخرين.
يقول الدكتور عبد الرحمن العيسوي: «إن من بين المشاكل التي قد تظهر على الأبناء نتيجة هذه الطريقة المتضاربة في التربية :
1- قد يكره الطفل والده ويميل إلى الأم، وقد يحدث العكس بأن يتقمص صفات الخشونة من والده.
2- قد يجد هذا الطفل صعوبة في التميز بين الصواب والخطأ، أو الحلال والحرام، كما يعاني من ضعف الولاء لأحدهما أو كلاهما.
3- وقد يؤدي ميله وارتباطه بأمه إلى تقمص صفاتها الأنثوية، فتبدو عليه علامات الرقة والميوعة(7).
أسباب غياب التناغم التربوي بين الوالدين:
رغم الأفكار والكتب والمحاضرات التي تتكلم بشكل مستمر عن مسألة اختلاف تربية الأب والأم لأولادهما، والسلبيات التي تنتج عن ذلك، وأفضل الطرق لتلافي هذه المشكلة، إلا أنها تبقى من أكثر المشاكل التي تحدث داخل العائلات، وربما مرد ذلك لأمر هام؛ هو أن ما يحدث في هذه الحالة أن يُحَكِّم الأب والأم عاطفتهما في محاسبة وتربية الابن، بعيدًا عن العقل والمنطق؛ وإلا لكان الطرفان اتفقا على طريقة واحدة في التربية.
وفي معظم الحالات التي يحدث فيها اختلاف في التربية بين الأب والأم يأتي بسبب:
1- خوف الأم على ابنها من ممارسات قاسية للأب، أو خوف الأب من أن يؤدي الدلال المفرط للأم في التأثير على سلوكيات الابن.
2- أن تكون المسألة شخصية بين الأب والأم، عبر خلافات بينهما تنعكس على طريقة تربية الأولاد.
3- أن يكون هناك اختلاف واسع في الثقافة والمستوى التعليمي بين الأب والأم؛ ما يعكس معه اختلافًا في الأفكار والرؤى حول الكثير من القضايا الخاصة بتربية الأبناء.
4- اختلاف البيئة التي ينتمي إليها الأب والأم، كأن تكون بيئة أحدهما محافظة جدًا، والأخرى أكثر انفتاحًا، أو أن يكون أحدهما من مدينة تختلف عن الأخرى.
5- عدم إدراك الأب والأم أن المشكلة الأساسية تسيء لأبنائهم قبل كل شيء، وأن آثارها ستبقى لسنوات طويلة في أذهان الأبناء.
6- عدم الاتفاق المسبق بين الأب والأم على طريقة معينة لتربية الأبناء، وافتقارهما لوجود حوار مشترك حول التربية.
7- غياب الوازع الديني، الذي يجب أن يحضر أمام أعين الطرفين، بأن التربية مسئولية كبيرة يقع على عاتقها جيل كامل، وأن كلًا منهما راعٍ ومسئول عن رعيته، كما أخبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته»؛ وبالتالي فإن الأب والأم سيقدمان نفس الرسالة التربوية لأبنائهما وإن اختلفت الطريقة بينهما؛ بل على العكس قد تكون سببًا في ثبات هذه الرسالة التربوية ورسوخها في ذهن الابن.
ويجب مراقبة الله عز وجل في مسألة تربية الأبناء، والاتفاق مسبقًا على الطرق التربوية الصحيحة والتوجهات الإسلامية الأساسية في التعامل مع الطفل، واعتبار الدين المرجع في تبيان صحة هذه الرسالة من خطئها.
وفي هذه الحالة يندر وجود مشاكل بين الزوجين حول تربية أبنائهم، ويصبح من السهل معرفة ما إذا كانت هذه الرسالة التربوية صحيحة أم خاطئة.
ويجب على الأب أن يبذل جهده للحفاظ على زواجه وصورته أمام أطفاله، وتجنب الصراخ على الأم أمامهم، فشعور الطفل بأن والده يحترم أمه ولا يتعارك معها يعزز لديه الانتماء لأسرة متميزة.
أما الصراخ الدائم في وجه الأم سيغرس في نفس الطفل الكراهية تجاه والده لأنه أهان أمه، إضافة إلى ذلك هذه المواقف المؤلمة سوف تترسخ في العقل الباطن لدى الطفل؛ وبالتالي سيكون له أثر سلبي على مستقبل الأبناء .
جوانب أخرى يجب أن ننتبه إليها:
اتباع أسلوب الحوار، فكثرة الاختلاف في الآراء بين الأبوين تؤثر على الصحة النفسية للطفل.
القاعدة التربوية تقول: إنه يجب الاتفاق بين الوالدين في الأمور الدينية للحفاظ على استقامة الأبناء وصلاحهم، أما الأمور الدنيوية فالخلاف فيها أمر طبيعي، والأفضل أن يتم النقاش بين الوالدين بعيدًا عن الأبناء حتى يصلا لحل يتفقان عليه، ثم يعلنان القرار لهما، وهذا الحل المثالي للمشكلة، ولكن لو لم يحدث هذا الإجراء وكان الاختلاف أمام الأبناء ففي هذه الحالة نجد أربعة حلول ذكية:
أولًا: أن يتنازل أحدهما ويمرر الرأي الآخر ولو كان خطأً؛ لأن تقديم سلامة الأبناء تربويًا أفضل من إقامة معركة بين الوالدين تؤثر على صحتهم النفسية، وخاصة الخلاف في المسائل الذوقية أو الدنيوية؛ كالاختلاف في ساعة النوم أو اللعب أو طبيعة الأكل، ولكن بعد انتهاء الأمر يفتح الموضوع بين الوالدين بمفردهما للوصول إلى اتفاق مستقبلي، حتى لا يتكرر الخلاف العلني.
ثانيًا: أن يظهر أحد الطرفين التنازل من أجل الآخر، وفي ذلك تربية جميلة للأبناء، فتقول الأم: أنا موافقة من أجل أبيكم، أو هو يقول: وأنا مع رأي أمكم وإن كان رأيي خلاف ذلك، وهذه مبادرة جميلة.
ثالثًا: ممكن أن يقول أحد الوالدين: نخبركم بالقرار بعد التشاور، ويطلب مهلة للنقاش والحوار وعدم الاستعجال في اتخاذ القرار.
رابعًا: استخدام الذكاء والأسلوب غير المباشر لعلاج المشكلة، وأضرب على ذلك مثلًا؛ فقد حدثتني زوجة، وهي معلمة، قالت إنها عالجت هذه المشكلة من خلال عرض مشاكل الطالبات على زوجها وأخذ رأيه، ثم تقول له في اليوم الثاني أن رأيه كان حكيمًا وصائبًا، فصار زوجها بعد فترة يحترمها ويحترم قراراتها التربوية مع أبنائها، علمًا بأنه كان لا يعطي لها أي اعتبار في السابق.
فهذه أربعة حلول مفيدة ومجربة لعلاج مشكلة التناقض التربوي، ولكن المشكلة تكون أكبر لو كان أحد الوالدين هو نفسه يقول (لا) ثم بعد أيام يقول (نعم) لنفس العمل، أو يقول (لا) لأحد الأبناء و(نعم) لأخيه؛ ففي هذه الحالة نحن نساهم في تدمير أبنائنا.
فلنحرص على التناغم التربوي، ونعمل بمنهج (تعالوا)، فقد أمرنا الله أن نقولها لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64]، فمنهج (تعالوا) مطلوب مع أهل الكتاب، أليس من الأولى أن نعمل بها بين زوجين مسلمين من أجل أن يتفقا ويتجاوزا التناقض التربوي؟
كلما كان هناك تناسق واتفاق بين الوالدين في التربية كلما انعكس بشكل إيجابي على الأبناء، واتسم الأبناء بالثقة الكافية في أنفسهم والقدرة على التواصل مع الآخرين وتحمل المسئولية، وطبعًا العكس صحيح؛ أي كلما كان التناقض والاختلاف بين الوالدين في أسلوب تربية أبنائهم يؤثر ذلك على الأبناء في تكوين وتطور شخصياتهم، وتكون له انعكاسات سلبية على المدى البعيد في شخصيات الأبناء، فقيام الأب باتخاذ أسلوب معين مع الأبناء؛ كالعقاب مثلًا وحرمانهم من شيء معين، تأتي الأم على إثر ذلك بمكافأة الأطفال أو عدم تنفيذ ذلك الحرمان، أو بعمل الأم أسلوب مغاير تمامًا، خاصة في حالة عدم الاتفاق بين الأبوين في أسلوب تربية الأبناء، أو كثرة المشاكل بينهما أو التفكك الأسري، وغيرها من الحالات التي تنعكس على نفسيات الأبناء، فيؤثر على سلوكياتهم، ومنها الكذب والتحايل والتمويه وعدم تكوين علاقات إيجابية مع الآخرين، سواء على المستوى الأسري أو خارجه، فضلًا عن انعدام الثقة بأنفسهم.
ولذا فعلى الآباء تجنب الاصطدامات والمشاحنات والمشاكل أمام الأبناء، وتقاسم الأدوار فيما بينهم، والاتفاق المسبق عليها، وأساسها تفادي الانعكاسات السلبية على الأبناء، وتوظيف التوازن الأسري والدفء العائلي لبث المحبة والحنان، بلا تدليل يكسر ثوابت الأسرة، وخاصة عندما تتعدد الاحتياجات، ويزيد معدل الضغط اليومي بأنواعه المختلفة على الأم والأب مع الأبناء ومتطلباتهم الحياتية، وتتوالى التحديات يومًا تلو الآخر.
ولا ننسى بأن تربية الأطفال تعد من أكبر التحديات التي تواجه الأبوين، لا سيما في المرحلة العمرية من 4 - 10 سنوات، وهي المرحلة التي تلعب فيها التنشئة الأسرية دورًا مؤثرًا على شخصية الطفل بحسب خبراء التربية، وغالبًا ما تتزامن هذه المرحلة العمرية مع فترة توصف بزخم الحياة العملية والمسئوليات لكل من الأبوين، سيما إذا كانت الأم تشتغل أيضًا إلى جانب الأب، الأمر الذي يتطلب موازنة بين المسئوليات المادية وتربية الأبناء والتفرغ لهم؛ إذ في الغالب ينشغل الآباء في السعي وراء تأمين متطلبات الحياة لتأسيس عائلة على أساس مادي قوي؛ يؤمن الحياة الكريمة للأبناء، وفي الوقت نفسه قد ينشغل الآباء بالتركيز على الجانب المادي؛ على حساب جوانب تربوية أساسية دورها حيوي وفعال في بناء شخصية الأطفال، في مرحلة عمرية يصفها خبراء التربية بالحرجة، كونها تلعب دورًا في صقل شخصيتهم وتكوينها، وبما أن الأبناء هم ثرواتنا الحقيقية الباقية، فمن زرع حصد؛ ولكي نحصد بناءً سليمًا علينا أن نؤسس أساسًا متينًا، له أسلوبه المدروس والممنهج والمتفق عليه.
ولا شك أنه كلما أصبنا العمق ظهر على السطح الكثير من التحديات في تربية الأطفال والمراهقين والشباب، حتى نصل بهم إلى بر الأمان؛ ليكونوا صالحين لأنفسهم ولأسرهم والمجتمع ككل، ويكونوا منتجين في المستقبل، ولهذا السبب، وقبل كل شيء، يفترض أن يكون هناك اتفاق مسبق بين الأبوين على نظام أسري تربوي ثابت، حتى تتحقق القدرة على السيطرة الإيجابية على الأطفال بأسس تربوية سليمة، وحتى لا ينفلت زمام بناء شخصيتهم؛ وخاصة في مراحلهم العمرية الأولى(8).
_______________
(1) التناغم التربوي، جاسم داود.
(2) أخرجه البخاري (853)، ومسلم (1829).
(3) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (7/ 71).
(4) إحياء علوم الدين (3/ 72).
(5) تفسير القرآن العظيم (1/ 380).
(6) أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658).
(7) مشكلات الطفولة والمراهقة، عبد الرحمن العيسوي.
(8) خطوات نحو بناء أسرة سعيدة، منتديات بيت حواء.