logo

المال في حياة الدعاة


بتاريخ : الجمعة ، 29 جمادى الأول ، 1436 الموافق 20 مارس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
المال في حياة الدعاة

حبب الله تعالى للبشر زينة الحياة الدنيا وزخرفها، فقال سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والْفِضَّةِ والْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأَنْعَامِ والْحَرْثِ} [آل عمران:14]، وليست المشكلة في ذلك الحب الذي وضعه الله تعالى في القلوب؛ بل إنه فطري وضروري لاستمرار الحياة، والقيام بواجب الخلافة في الأرض، ولكنها تكمن في تقديم حب تلك الأشياء على محبوبات الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما ينتج عن ذلك من التشاغل بها والركون إليها، حتى يصير الإنسان كأنه مسترق لها، لا يستطيع عمل ما يخالفها، وإن كان في ذلك سعادته ونجاحه.

وقد حذر الله عز وجل، في كتابه، عباده من تقديم حبهم لشهواتهم وملذاتهم على حبه سبحانه، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لدينه، فقال سبحانه: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَال اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَة تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِين} [التوبة:24].

والمال هو عصب الحياة، وبه تتحقق كثير من الآمال والطموحات للناس عمومًا، وللدعاة خصوصًا؛ وما ذاك إلا لكثرة آمالهم وطموحاتهم، فالدعوة التي تمتلك مالًا دعوة قوية ومؤثرة في محيطها؛ بل قد تكون في بعض المجالات تملك زمام التأثير والإصلاح عمومًا.

ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا   وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل.

فمن الخطأ الفادح أن يظن الإنسان أن الدعاة لا علاقة لهم بالمال ولا بالحياة المادية عمومًا؛ كيف هذا؟ أو ليسوا بشرًا؟! ولهم مطالب في الحياة كعامة الناس؟!

فالداعية بشر كعامة الناس؛ يحتاج إلى طعام وكساء ومسكن ومركب، وفي كثير من الأحوال يكون عنده عائلة وأسرة تحتاج إلى متطلبات الحياة المادية؛ بل إن الدعوة ذاتها تحتاج إلى الكثير من المال، وإلا فأين ذهب مال السيدة خديجة رضي الله عنها، وهي ثروة هائلة؟

بل إن من رجال الأعمال من يصبح داعية بماله وعلمه، لا يمنع أحدهما الآخر عن الدعوة؛ بل بالعكس؛ يستعين بأحدهما على الآخر، بالمال لطلب العلم، فبدون المال لا يستطيع الإنسان طلب العلم ولا التعلم، ولا شراء أدوات العلم.

عن أبي كبشة الأنماري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه»، قال: «فأما الثلاث التي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد صدقة، ولا ظلم عبد بمظلمة فيصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله له باب فقر، وأما الذي أحدثكم حديثا فاحفظوه»، فإنه قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه»، قال: «فهذا بأفضل المنازل» قال: «وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا؟»، قال: «فهو يقول: لو كان لي مال عملت بعمل فلان»، قال: «فأجرهما سواء»، قال: «وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل» قال: «وعبد لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا فهو يقول: لو كان لي مال لعملت بعمل فلان»، قال: «هي نيته، فوزرهما فيه سواء»(1).

المال وسيلة وليس غاية:

إن المال خضر حلو، إذا أخذ من حله وأنفق في حقه فنعم المال الصالح للعبد الصالح، وقصة الإنسان مع المال عجيبة؛ فهو يريده وسيلة لسعادته، ولكنه لا يكاد يملأ يديه منه حتى ينسى الأساس الذي انطلق منه، فيصبح المال لديه غاية، يركض له بالليل والنهار، وربما بالحلال والحرام، وربما لا يفيق من ركضه ولا تقف قدماه عن الركض إلا لتعثر بالقبر.

فالمال عند العقلاء وكرماء النفوس وسيلة لحفظ الكرامة، وتحسين مستوى الحياة وعمل الخير، وليس غاية تشخص لها الأبصار، ويُستَعبَدُ بها الإنسان، فيظل همه كنز المال، والركض وراء المزيد بالحق والباطل والحلال والحرام، حتى يسقط في حفرة السكتة القلبية، وقد ترك ماله لزوج زوجته القادم، أو أزواج بناته وزوجات أبنائه.

فما نال من ماله غير التعب والنصب، والشقاء والقلق، والسمعة السيئة، وعبادة المال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تَعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس وانتكس»(2).

والذي يجعل المال غاية لذاته، وليس وسيلة لتحقيق السعادة وعمل الخيرات، هو من عبيد الدرهم والدينار، في رق أبدي من أغلال المال، وكأن ماله قد صار حيَّة رقطاء تلف حول رقبته، وهو يظن أنه يحسن صنيعًا(3).

المال في اليد ليس في القلب:

وإن الأقوام الصالحين تكون الدنيا والأموال في أيديهم، وليست في قلوبهم وعقولهم؛ بل إن قلوبهم وعقولهم قد شغلت بالآخرة والعمل الصالح لها، لا مانع من أن يكون المسلم الصالح غنيًا أو له مكانة بالدنيا؛ بل إن هذا الأمر جيد، بحيث يستطيع بماله وسلطانه ومكانته خدمة الإسلام والمسلمين، ويسخر الدنيا لطاعة الله، لكن الخطأ أن يستخدم الدنيا، التي هي دار الفناء، لمعصية الله، ويغفل عن الآخرة التي هي دار البقاء.

هذا واقع حي مطبَّق في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، مُشاهد في أتباعهم يوم جدوا في طريقهم إلى خلاقهم، فما عاقهم مكروه ولا بأس ولا شدة عن بلوغ أهدافهم؛ بل وظفت هذه الشدة والمكروه والجوع والبأس لتهذيب أنفسهم وأخلاقهم، فإذا هم قلوب تتصل بالله، تتذكر الله وتخشاه، وتؤثره على كل مغريات الحياة، امتلأت نفوسهم بهمم وإيمان وأمانات وكفاءات من أخمص القدم إلى ذؤابة الرأس، تشابهت السبل فاتخذوا سبيل الله سبيلًا، وتفرق الناس فجعلوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وحزبه قبيلًا.

فهذا خادمه أنس رضي الله عنه يصف لنا شيئًا من معيشته صلى الله عليه وسلم فيقول: لم يجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على الضفيف، وفي رواية عن مالك بن دينار رضي الله عنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز قط ولا لحم إلا على ضفف.

قال مالك: سألت رجلًا من أهل البادية: ما الضفف؟ قال: أن يتناول مع الناس.

قالت عائشة رضي الله عنها تصف حالته المعيشية: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تقول عائشة رضي الله عنها: كان لنا حصير نبسطها بالنهار، ونَحْتَجِرُهَا علينا بالليل.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت:اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكلِّ ما عنده فقال: «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا(4).

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخلٍ، وكان أحبُّ أمواله إليه بيرحاء، وكان مستقبله المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماءٍ فيها طيب، قال أنس: فلمَّا أنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ‌ حَتَّى? تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ‌ حَتَّى? تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة على أقاربه وبني عمه(5).

فقد سهل على الصحابة بذل المال وإنفاقه؛ لأنه كان في أيديهم وليس في قلوبهم.

كان صلى الله عليه وسلم مع ذلك لا يخشى عليهم الشدة والفقر، فيقول كما صح عنه: «والله، ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»(6)، ينبه صلوات الله وسلامه عليه إلى أن الاستقامة على الدين غالبًا لا تكون مع حياة الترف والسرف؛ لأن هذا النوع من الحياة يورث القلوب قسوةً وجفاءً، وقلَّ من يشكر عند الرخاء!

يقول أبو هريرة: «ولقد رأيتني وإني لأخرُّ، فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها، مغشيًا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون، والله ما بي من جنون، ووالله ما هو إلا الجوع»(7)، ثمن العلياء عناء وشقاء.

احذروا غرور الدنيا:

وقد انطلق اليوم بعض من دعاة الإسلام في مجال التجارة، وحازوا مالًا وخبرة وتربيةً أثناء تجارتهم، وهم قد انقسموا في أعمالهم المالية إلى عدة أقسام:

 فأولها: الذين حصلوا على المال وفتنوا به، فغرتهم الدنيا، وسحرهم بريق الذهب والفضة، وشُغلوا عن أمور الدعوة والدين بالفانية؛ بل زاد بعضهم سوءًا أن قلّ صدقه ورق دينه.

 وثانيها: هم الذين تحمسوا لمّا سمعوا عن أهمية التجارة للدعاة، فدخلوا عن طريق عجلة وسوء تخطيط وقلة خبرة؛ بل إن بعض الدعاة لما دخل التجارة لم يكن يفكر إلا في تقسيم الأرباح، وكيف يتعامل معها، فكانت حصيلتهم الديون وقلة ذات اليد، بعد أن كانوا متوسطي الحال، وأيضًا تسلل الهم والحزن إلى نفوسهم.

ولقد أثرت هذه الديون على عملهم الدعوي، فأصبح أحدهم مشغولًا بهمّ سداد الدين، والآخر يبحث عن عمل إضافي لكي يحسّن وضعه المعيشي؛ ولو كان على حساب وقت الدعوة، والثالث قد حمّل إخوانه في الله مسئولية هذه الخسارة، فقطعهم بعد صلة، واغتابهم بعد ذبه عن أعراضهم، وقد يكونون فعلًا سببًا للخسارة.

لكن هذه الخسارة ليست مسوغًا ومبررًا لما فعل، وهذا النوع من الدعاة الذين قد تحملوا الديون قد قلّ إنتاجهم وعملهم الدعوي.

 وثالث هذه الأقسام: هم الذين قد فتح الله عليهم بالمال وبقاء الدين، وهم إما دعاة من عائلة تجارة وضرب في الأسواق، فهم من (أهل مكة أدرى بشعابها)، وقد كفوا إخوانهم النصح لهم، وإما هم من دخلوا بعد دراسات ومشورات ودخلوا بما يطيقون تحمله إذا خسروا، ودخلوا بعد سن الرشد والتجربة، فقد تجاوزوا الثلاثين؛ بل قاربوا الخمس والثلاثين، ودخلوا أيضًا جماعة تعاونوا في المال والجهد والعلاقات والأوقات، ولم يتعاونوا في الإدارة، نعم لم يتعاونوا في الإدارة، وصفات هؤلاء هي النصح الذي يقدم للدعاة عند دخولهم إلى التجارة، وكل صفة إذا أخذها الداعية بحقها؛ فإنه يحصل على خير وفير، وبركة عميمة بإذن الله.

 ورابع هذه الأقسام: هم الذين أعرضوا عن التجارة خشية الفتنة أو الخسارة، وقد شابت لحاهم في الإسلام، وليس لهم مصدر دخل غير الأعمال الوظيفية، وهذا الصنف على خير، ولكنهم ليسوا هم القدوة في هذا المجال، والأسوة بغيرهم من الناجحين في هذا المجال أنفع(8).

قواعد هامة للموازنة بين النفس والمال:

ومن أجل تجاوز كل هذه العوائق النفسية، والحواجز الجبلية، التي جعلت من المال سيدًا لا خادمًا، وهدفًا لا وسيلة، كان لا بد على الدعاة من مراعاة العديد من النقاط المهمة، على طريق بناء علاقة متوازنة وسوية بين البشر والمال، في عالم مليء بالمتغيرات والمغريات، وذلك بارتكاز خطابهم الدعوي على عدة نقاط، تمثل المدخل الرشيد في فهم الدور الحقيقي للأموال في حياتهم من وجهة النظر الإسلامية، التي تحقق السعادة الحقيقية في الدارين، ومنها:

أولًا: الملكية الحقيقية للأموال:

فمن وجهة نظر الإسلام للمال، المال مال الله عز وجل، فهو المالك الحقيقي، فالكون بكل ما فيه، من بشر مالكون وما يملكون، جزء من ملك الله العظيم، والبشر وكلاء ومستخلفون على هذا المال، وقد رسم لهم المالك الحقيقي، وهو الله سبحانه، خريطة طريق لإنفاق هذا المال، وكيفية التصرف فيه، وحدّد لهم طرق المسائلة في مدخله ومخرجه، وبيّن لهم أن من يخالف أوامره، ويعبث بخريطة التصرف في المال اكتسابًا وإنفاقًا، سوف يتعرض عندها لمسائلة شديدة، وعواقب وخيمة، قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، وفي الحديث: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع...، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه»(9).

ثانيًا: الأموال للعبادة وليس العكس:

عن أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم: «إن الله قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب»(10).

الشريعة تقر بأن البشر مفطورون على الحب الشديد للمال كما بينّا ذلك، وهذا الأمر سيشعل دائمًا سباقًا محمومًا على تحصيله، وبالتالي سيكون المطلوب دائمًا أقل من المعروض؛ ما أدى لحالة صراع مستمر بين الأفراد والجماعات والأمم على تحصيل هذا المال.

فيجب تقوية الجوانب الإيمانية عند البشر، وإثراء البناء العبادي لهم، وبالتالي يصمدون أمام شهوة اقتناء الأموال، وإشغال المسلم لنفسه بالطاعة والعبادة، والإقبال على الله عز وجل، وطلب العلم ودراسته يوفر له طاقات روحية متجددة، تسمو به فوق شهوات الدنيا، بما فيها شهوة المال، وهذا هو أحد أسرار وتميز الشريعة الإسلامية؛ أنها جمعت بين حاجات الجسد والروح معًا، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، في حين أن التشريعات المعاصرة أهملت بالكلية الجانب الروحي، حتى غدت الحضارة المعاصرة مادية صرفًا، لا أثر فيها لروح ولا إيمان.

ثالثًا: الابتلاء بالأموال:

المال في الإسلام يعتبر نعمة من نعم الله عز وجل التي يبتلي بها عباده لينظر كيف يعملون، شأنه في ذلك شأن نعمة الصحة والجاه والولد والمنصب، فلا كثرة المال دليل رضا ومحبة، ولا قلته دليل غضب ومقت، كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْر عَظِيم} [الأنفال:28]، فالاختبار كما يكون بالمرض، والفقر، والضعف، والشدة، يكون أيضًا بالمال، والولد، والجاه، والمناصب، والصحة، ولكن غالبية البشر يرسبون أمام هذا الاختبار؛ إذ إن الوعي البشري عادة ما يكون يقظًا تجاه الابتلاء والاختبار بالشدائد؛ من مرض وفقر وغير ذلك، فيصبرون ويحمدون ويرضون ويسلّمون، في حين أن الابتلاء بالنعم، وعلى رأسها المال، يعده كثير من الناس أنه رضا من الله عليهم، وينظرون إلى كم المجهود المبذول من أجل تحصيله، فتطالبهم أنفسهم وقتها بالتفنن في الاستمتاع بهذا المال الذي تُعب من أجله كثيرًا، وهنا يحدث الإخفاق البشري الشهير أمام المال، ولعل حديث القرآن عن قصة قارون موسى خير دليل على هذا الإخفاق في تقييم المال، وسوء التعامل فيه، وعاقبة من امتهن هذه النعمة، واستخدمها في البطر والأشر.

والحقيقة البشرية الثابتة، التي بينها القرآن الكريم عن طبيعة النفس البشرية، أن ثمة تلازمًا بين بسط المال والجاه والقوة وبين البغي والتجبر والبطر والطغيان، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِير بَصِير} [الشورى:27]، وقال: {كَلًا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]، وهذا الأمر يحتاج دومًا إلى إيمان متين، ويقين مكين لمراقبة الله عز وجل في هذه النعمة الخطيرة.

رابعًا: المال وسيلة ليس هدفًا:

يأتي المال على قمة الوسائل التي تحولت إلى غايات وأهداف مستقلة، وهذا الخلط والتوهان أوجد عند كثير من الناس أنواعًا شتى من الارتباك، والتخبط في التعامل مع المال، فبعضهم أهلكه طلب المال واللهث خلفه ليل نهار، ولا يبالي من أين حصّله؟وكيف اكتسبه؟! ولذلك قال الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ»(11)، وبعضهم يمنع حق الله والفقراء في ماله؛ فيمنع الزكاة والصدقة والمواساة، ويتحول إلى بشري شحيح، يقتله الشح والبخل والطمع في تكديس الأموال، والبعض الثالث يطغى ويتجبر بماله ويفقد كثيرًا من آدميته ويتحول لنموذج إنساني مشوه، معدوم الضمير والخلق والدين(12).

خامسًا: كلا طرفي الأمور ذميم:

وإنما المراد الاقتصاد في الإنفاق، وعدم تعلق القلب به والركون إليه، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حذر من الترف وأحوال المترفين، قد قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس»(13)، وقال صلى الله عليه وسلم لوالد أبي الأحوص: «فإذا آتاك الله مالًا فليُرَ أثر نعمة الله عليك وكرامته»(14).

فالمال يعمي ويصم، ويدعو إلى الركون والمتعة والراحة، ويدفع صاحبه إلى البذخ والإنفاق في غير حاجة، وقد أوضح الله تعالى في كتابه هذه الحقيقة في آيات، منها قوله تعالى: {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى(7)} [العلق:6-7].

وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)} [الإسراء:29].

والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن، والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير فيرسم البخل يدًا مغلولة إلى العنق، ويرسم الإسراف يدًا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئًا، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور، والحسير في اللغة: الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفًا وعجزًا، فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف، وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير، ملومًا في الحالتين؛ على البخل وعلى السرف، وخير الأمور الوسط(15).

قال الرازي: اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والإشهاد والرهن، والعقل أيضًا يؤيد ذلك؛ لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال؛ لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة(16).

وللإنسان في حياته طموحات تتتابع ولا تنتهي، خاصة في عصر كثُرت فيه المغريات، فإنْ وصل إلى هدف تطلع لما هو أكبر منه، فعليه إذن ألاّ يُبدّد كل طاقته، وينفق جميع دَخْله.

وكما نهى الإسلام عن التبذير نهى أيضًا عن البُخْل والإمساك؛ لأن البُخْل مذموم، والبخيل مكروه من أهله وأولاده، كما أن البُخْل سبب من أسباب الركود والبطالة والكساد التي تصيب المجتمع، فالممسك لا يتعامل مع المجتمع في حركة البيع والشراء، فيسهم ببُخْله في تفاقم هذه المشاكل، ويكون عنصرًا خاملًا يَشْقى به مجتمعه.

إذنْ: فالتبذير والإمساك كلاهما طرف مذموم، والخير في أوسط الأمور، وهذا هو الأقوم الذي ارتضاه لنا المنهج الإلهي.

والخلاصة: أن المال ما دام أنه من أهم محاور الحياة الحديثة، فلابد إذًا من العمل على بناء علاقة متوازنة ورشيدة في كيفية التعامل معه، والعمل على ترشيد إنفاقه والعمل على تثميره وتنميته، والتخلص من آفات النفس البشرية تجاه المال؛ من عشق جامح، وتبذير كالح، وإسراف فادح، وتوظيف المال العام والخاص في المجتمعات المسلمة بما يعود بالنفع والإغناء للجميع، وعلى الأغنياء أن يعلموا أنهم كانوا قبل الغنى فقراء فأغناهم الله، وبسط لهم في أرزاقهم، وأن بين أيديهم وديعة استودعهم إياها مالك الملك، وأنها نعمة واختبار من الله وابتلاء لهم بالمسرات، هم مسئولون عنها يوم القيامة، والإجابة تتلخص في قوله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11)} [الليل:5-11](17).

 

____________________________________________________

(1) رواه أحمد (18031).

(2) رواه الطبراني في المعجم الأوسط (2595).

(3) المال وسيلة وليس غاية، جريدة الرياض (العدد: 14025).

(4) رواه أبو داود (1678)، والترمذي (3675).

(5) رواه البخاري (1461).

(6) رواه البخاري (4015).

(7) رواه البخاري (7324).

(8) الدعاة والمال أربعة، مجموعة مواقع مداد.

(9) رواه الطبراني في المعجم الكبير (11177).

(10) رواه أحمد (21906).

(11) رواه ابن ماجه (2144).

(12) الدعاة والأموال، شريف عبد العزيز، موقع: ملتقى الخطباء.

(13) صحيح الجامع (1738).

(14) رواه أبو داود (4063).

(15) في ظلال القرآن، سورة الإسراء.

(16) مفاتيح الغيب، سورة النساء.

(17) الدعاة والأموال، شريف عبد العزيز.