logo

أدب الخلاف


بتاريخ : الأربعاء ، 19 رجب ، 1434 الموافق 29 مايو 2013
بقلم : تيار الاصلاح
أدب الخلاف

كثر في الفترة الأخيرة نشر الأحكام وبثها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وعلان مصدر تشويش وتشكيك عند كثير من الناس، لا سيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف.

ومن هنا كان ينبغي علينا أن ننظر في هذه القضية؛ لنتعرف على الأدب الذي يجب أن يتحلى المسلمون به في اختلافهم؛ ليتضح ما التبس، ويُزال ما غبش.

إن من نعمة الله تبارك وتعالى على هذه الأمة أن الخلاف بينها لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصيلة، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية، وهو أمر لا بد أن يكون.

إن الاختلاف سنة كونية، وضرورة تفرضها الطبيعة البشرية؛ لاختلاف العقول والأفهام، وأن ما يحدث بين المسلمين من تنوع في الآراء الفقهية إنما هو من قبيل الاختلاف الذي يوسع على المسلمين، ويثري الساحة العلمية بكثير من الفوائد والمسائل على مدار العصور.

فالاختلاف موجود منذ بدء الخليقة، فلا يمكن جمع البشر جميعًا على كلمة واحدة أو رأى واحد؛ ولذا قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118]، واتفق الحكماء على أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، إلا أن الخلاف في الرأي الآن أصبح يؤدي إلى قطع العلاقات بين صداقات دامت لسنوات؛ لمجرد عدم الاتفاق على أمرٍ ما، فهل نتفق على ألا نتفق؟

ما بين الخلاف والاختلاف:

ذهب الجمهور إلى أنه لا فرق بين الخلاف والاختلاف، وإنما يتحدد المعنى المقصود من السياق.

ففي الموسوعة الفقهية الكويتية: «الخلاف والاختلاف معناهما واحد، سواء أكان في اللغة أم في الاصطلاح، ويظهر ذلك في كلام بعض العلماء من اللغويين والأصوليين والفقهاء، فهم يستعملون أحيانًا اللفظين بمعنى واحد، فكل أمرين خالف أحدهما الآخر خلافًا فقد اختلفا اختلافًا»(1).

والذي يترجح هو عدم الفرق بين الخلاف والاختلاف؛ إذ لا دليل على التفريق يَسْلم من المعارضة، وإنما يتبين المعنى المقصود من خلال سياق الكلام، ومن جعل بينهما فرقًا فإنما هو اصطلاح ارتآه، ولا مشاحة في الاصطلاح، وأن الخلاف والاختلاف قد يكونان من باب التنوع، وقد يكونان من باب التضاد، ومنه ما هو سائغ وما هو غير سائغ، والمذموم هو أن يؤديا إلى الافتراق(2).

وفي الإسلام مساحة للخلاف، ومن ذلك كان اختلاف الأئمة الأربعة وغيرهم، فهم لم يختلفوا في أصول الديانة ولكن اختلفوا في الفروع، مع مراعاة الأخوة الإيمانية والاحترام والأدب بين بعضهم البعض، كم كان الإمام مالك يُكِنُّ من الحب لتلميذه الإمام الشافعي والعكس، وكم كان الإمام ابن حنبل يدعو للشافعي، ورغم اختلاف مذهب هذا مع ذاك كان الحب والوئام وتقبل الخلاف سائدًا بينهم، هذا الخلاف لم يكن أبدًا ليجعل الإمام الشافعي يؤلف الكتب والمؤلفات والمصنفات للهجوم على الإمام مالك، ويهجم عليه هجومًا مليئًا بالسب والقدح، هؤلاء القمم لم يكونوا ليفعلوا ذلك.

الأدب الأول: اختلاف الموقف من المخالف تبعًا لنوع الخلاف:

يجب أن نعلم أن الاختلاف ليس على درجة واحدة، وإنما ينقسم باعتبار حقيقة المسائل المختلف فيها إلى:

أ- اختلاف صوري:

وهو وإن كان يبدو فيه روح الاختلاف إلا أنه في الحقيقة لا تجد فيه هذا الاختلاف، فهو ليس اختلافًا على إطلاقه، وعند النظر يتضح عدم وجود اختلاف أصلًا، ومن صوره:

1- اختلاف التفاوت: كالذي يكون في الكلام، فيكون بعضه بليغًا وبعضه دون ذلك.

2- اختلاف التلاؤم: الذي يكون في الكلام الذي ظاهره الاختلاف، كاختلاف وجوه القراءات، ومقادير الآيات، واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ.

3- اختلاف التنوع: وهو أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثال ذلك تفسير قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]، قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار، وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا.

واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم.

وقد حصر الشاطبي الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع:

»منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة، ومنها: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد، ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولًا.

ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزًا؛ كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره؛ بل على إجازته والإقرار بصحته، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف، فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها؛ إذ الكل متواتر، وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم؛ وهي أنواع، وإن سميت خلافًا، إلا أنها ترجع إلى الوفاق»(3).

ب- اختلاف حقيقي:

ومنه اختلاف التضاد، وهو قسمان: سائغ، وغير سائغ.

التفريق بين الخلاف السائغ وغيره:

ثمة أمور يفترق فيها الخلاف الذي سوغه العلماء عن الخلاف الذي قبحه العلماء وذموه غاية الذم، ومنها:

1- الخلاف السائغ لا يكون في المسائل الأصولية، العقدية منها والفقهية؛ كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجية السنة، وفرضية الصلاة أو فرضية الوضوء للصلاة، مثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصريحة على إثباتها، فلا خلاف فيها، إنما يكون الخلاف في الفروع.

ويبين الشاطبي الفرق بين الخلاف السائغ وغيره فيقول: «فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار، ومجالًا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.

وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال: أما أهل رحمة الله، فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرهم.

يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر؛ بل لهم فيه أعظم العذر، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يرجع إليه، وهو قول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك رده إليه إذا كان حيًا، وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم»(4).

2- الخلاف السائغ لا يكون في المسائل التي انعقد الإجماع فيها؛ كعلو الله وكلامه جل وعلا، فإن وقع خلاف من مجتهد في مثل هذا فهو اجتهاد يعذر فيه لكنا لا نسوغه، يقول ابن تيمية: »وقوع الغلط في مثل هذا [يعني علو الله على خلقه] يوجب ما نقوله دائمًا: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب، فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله، وبرسوله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالًا من هذا الرجل [الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات]، فيغفر خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه»(5).

ويقول ابن تيمية: »من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع»(6).

ويقول محمد بن عبد الوهاب: »ثم اعلموا، وفقكم الله، إن كانت المسألة إجماعًا فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار فيمن يسلك الاجتهاد»(7).

قال ابن تيمية: «وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين، من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك، هو من هذا الباب، فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغيًا، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر»(8).

3- أن يكون هذا القول صادرًا عن الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية المعتبرة، بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله، وعليه فلا كرامة لمن صدر في رأيه عن العقل المجانب للشرع، أو عن الرؤى المنامية، ولا لمن صدر عن الهوى أو العصبية(9).

قال الشاطبي: »الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعًا، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه.

والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي؛ فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزله»(10).

الأدب الثاني: التمييز بين ما يقتضي العداوة والشقاق وبين ما لا يقتضي ذلك:

هناك من الاختلاف اختلاف يقتضي عداوة وشقاقًا، ويقع في الاختلاف الحقيقي؛ كالاختلاف في الأصول المجمع عليها، واختلاف آخر لا يقتضي عداوة وشقاقًا، ويقع في عامة الاختلاف الصوري، وقد يقع في الاختلاف الحقيقي؛ كالاختلاف في كثير من الفروع باجتهاد سائغ.

الأدب الثالث: ألا يكون اختلافًا نظريًا لا ينبني عليه عمل:

ينقسم الاختلاف باعتبار أثره إلى:

1- اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.

2- اختلاف نظري ذهني، لا ينبني عليه شيء في أرض الواقع.

فالأول اختلاف مؤثر في العمل، ومنه السائغ الذي لا يضر ومنه غير السائغ، والآخر من قبيل اختلاف السفسطائية: هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة؟

قال شيخ الإسلام: »وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلًا، فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفى البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفى مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفى اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك، فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولًا نقلًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كاسم صاحب موسى أنه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك؛ بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن اسحق وغيرهم، ممن يأخذ عن أهل الكتاب، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة»(11).

وقال: »وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا»(12).

الأدب الرابع: المفاصلة بين الاختلاف المحمود والاختلاف المذموم:

الاختلاف ينقسم إلى:

- اختلاف محمود: يوسع دائرة العلم ويثري الحياة العلمية، ويوسع على الناس في الأحكام.

- واختلاف آخر مذموم: لا تجني الأمة منه إلا الهلاك والدمار وفقدان الخير.

وقد حرر ذلك ابن القيم رحمه الله في الصواعق حيث قال: «الاختلاف في كتاب الله نوعان:

أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله سبحانه عن التشبه بهم في قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105]، وهم الذين تَسْودّ وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَه نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزب والتباين.

والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم، فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.

ومن هذا النوع المنقسم قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللُهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ} [الشورى:10].

والاختلاف المذموم كثيرًا ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق، فلا يقر له خصمه به؛ بل يجحده إياه بغيًا ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين، بخلاف أهل الحق فإ