logo

الداعية وفن صناعة الفرص


بتاريخ : الأربعاء ، 17 ذو الحجة ، 1436 الموافق 30 سبتمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية وفن صناعة الفرص

اغتنام الفرص الملائمة للدعوة دليل على حكمة الداعية وحرصه وكمال عقله.

إذا هبت رياحك فاغتنمها       فإن لكل خافقة سكون

المصلح الإيجابي هو من يسعى لاغتنام الفرص حين تتاح أمامه، وله أسوة بإمام المصلحين صلى الله عليه وسلم، فقد كان هذا شأنه وديدنه؛ فحين جاءت امرأة من السبي تحتضن صبيها ذكَّر صلى الله عليه وسلم أصحابه برحمة الله لعباده، وحين يكون مع أحد أصحابه يعلمه ويوصيه.

عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: «ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد»، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، «هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»(1).

وحين لا يجد المصلح فرصة سانحة أمامه، ويفتش يمنة ويسرة؛ فإنه يسعى لأن يوجد الفرصة؛ فالحاجة أم الاختراع، ولن تعجز عقول المصلحين عن أن تهيئ الفرصة وتوجدها، فها هم صناع السلاح والمتاجرون به حين تكسد سوقه يفتعلون المعارك والحروب، ويؤججون نارها ليروجوا بضاعتهم، وها هم أصحاب رءوس الأموال يغرقون الناس بالدعاية لمنتجاتهم حتى يوجدوا فرص تسويقها.

إن الفرص الدعوية كثيرة، فلا بد من اغتنامها وعدم تفويتها، ونعني بهذه الفرص: الأحوال التي تقبل فيها قلوب الناس على الخير، ويضعف فيها داعي الشر، ويتأهب الناس فيها لسماع الحق.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على اغتنام مثل هذه الفرص، فإن لها من الآثار الحميدة على الفرد والمجتمع ما قد لا يكون في حسبان الداعية.

والمصلحون الإيجابيون لا يقف جهدهم عند ذلك فحسب؛ بل هم يبحثون في المواقف السيئة، ومن بين الصور المظلمة يبحثون عن النور والضياء، إنهم حين تحل المحن والنكبات، وحين يتشاءم الناس مما أمامهم يتلمسون الصور المشرقة، ويبحثون عن الثغرات ليستثمروا الواقع الجديد.

ومهما كانت الأحوال سيئة ومظلمة فالأوضاع الجديدة تحمل في طياتها العديد من الفرص، التي يمكن أن يستثمرها العقلاء.

ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثًا عن معبر لها، ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك، والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه؛ اغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله، وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفهما بنفسه، وتشويقهما إلى حديثه، وبيان نعمة الله على أهل التوحيد، فقال: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}، ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر، وأن توحيد الله سبب لكل خير، فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)} [يوسف:37-38].

ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف:39-40]، وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة فسّر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41].

وينتهز يوسف هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة، فكونه سجينًا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة، والأوضاع الفاسدة القائمة على إعطاء حق الربوبية للحكام الأرضيين، وجعلهم بالخضوع لهم أربابًا يزاولون خصائص الربوبية، ويصبحون فراعين! ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما، فيطمئنهما ابتداءً إلى أنه سيؤول لهم الرؤى؛ لأن ربه علمه علمًا لدنيًا خاصًا، جزاءً على تجرده لعبادته وحده، وتخلصه من عبادة الشركاء، هو وآباؤه من قبله، وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الأولى بقدرته على تأويل رؤياهما، كما يكسب ثقتهما كذلك لدينه.

ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله إلى النفوس، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف، وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها، {قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}.

بهذا التوكيد الموحي بالثقة بأن الرجل على علم لدني، يرى به مقبل الرزق وينبئ بما يرى، وهذا، فوق دلالته على هبة الله لعبده الصالح يوسف، وهي كذلك بطبيعة الفترة وشيوع النبوءات فيها والرؤى، وقوله: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} تجيء في اللحظة المناسبة من الناحية النفسية ليدخل بها إلى قلبيهما بدعوته إلى ربه، وليعلل بها هذا العلم اللدني الذي سيؤول لهما رؤياهما عن طريقه.

والفتيان على دين القوم، ولكنه لا يواجههما بشخصيتهما، إنما يواجه القوم عامة كي لا يحرجهما ولا ينفرهما، وهي كياسة وحكمة ولطافة حس وحسن مدخل.

وذكر الآخرة هنا في قول يوسف يقرر، كما قلنا من قبل، أن الإيمان بالآخرة كان عنصرًا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعًا منذ فجر البشرية الأول، ولم يكن الأمر كما يزعم علماء الأديان المقارنة أن تصور الآخرة جاء إلى العقيدة، بجملتها، متأخرًا، لقد جاء إلى العقائد الوثنية الجاهلية متأخرًا فعلًا، ولكنه كان دائمًا عنصرًا أصيلًا في الرسالات السماوية الصحيحة.

ثم يمضي يوسف بعد بيان معالم ملة الكفر ليبين معالم ملة الإيمان التي يتبعها هو وآباؤه: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ}.

فهي ملة التوحيد الخالص الذي لا يشرك بالله شيئًا قط، والهداية إلى التوحيد فضل من الله على المهتدين، وهو فضل في متناول الناس جميعًا لو اتجهوا إليه وأرادوه، ففي فطرتهم أصوله وهواتفه، وفي الوجود من حولهم موحياته ودلائله، وفي رسالات الرسل بيانه وتقريره، ولكن الناس هم الذين لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه: {ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.

مدخل لطيف، وخطوة خطوة في حذر ولين، ثم يتوغل في قلبيهما أكثر وأكثر، ويفصح عن عقيدته ودعوته إفصاحًا كاملًا، ويكشف عن فساد اعتقادهما واعتقاد قومهما، وفساد ذلك الواقع النكد الذي يعيشون فيه، بعد ذلك التمهيد الطويل: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)} [يوسف:39-40].

لقد رسم يوسف عليه السلام، بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزًا شديدًا عنيفًا.

إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما بهذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجسم العقيدة، وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنما يعرضها قضية موضوعية: {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.

وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزًا شديدًا، إن الفطرة تعرف لها إلهًا واحدًا ففيم إذن تعدد الأرباب؟ إن الذي يستحق أن يكون ربًا يعبد ويطاع أمره ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار، ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود؛ فيجب تبعًا لذلك أن يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس، وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله ربًا، إن الرب لا بد أن يكون إلهًا يملك أمر هذا الكون ويسيره.

ففرق بين الدينونة لله الواحد القهار، والدينونة للأرباب المتفرقة بعيد! ثم يخطو يوسف عليه السلام خطوة أخرى في تفنيد عقائد الجاهلية وأوهامها الواهية: {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}.

إن هذه الأرباب، سواء كانت من البشر أم من غير البشر من الأرواح والشياطين والملائكة والقوى الكونية المسخرة بأمر الله، ليست من الربوبية في شيء، وليس لها من حقيقة الربوبية شيء، فالربوبية لا تكون إلا لله الواحد القهار الذي يخلق ويقهر كل العباد، ولكن البشر، في الجاهليات المتعددة الأشكال والأوضاع، يسمون من عند أنفسهم أسماءً، ويخلعون عليها صفات، ويعطونها خصائص، وفي أول هذه الخصائص خاصية الحكم والسلطان، والله لم يجعل لها سلطانًا ولم ينزل بها من سلطان.

وهنا يضرب يوسف عليه السلام ضربته الأخيرة الحاسمة فيبين لمن ينبغي أن يكون السلطان! لمن ينبغي أن يكون الحكم! لمن ينبغي أن تكون الطاعة، أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون العبادة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

إنَّ الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته؛ إذ الحاكمية من خصائص الألوهية.

ويوسف عليه السلام يعلل القول بأن الحكم لله وحده فيقول: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، ولا نفهم هذا التعليل كما كان يفهمه الرجل العربي إلا حين ندرك معنى العبادة التي يخص بها الله وحده.

المقصود بها هو الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده، سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية، فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه، ولم يجعلها لأحد من خلقه.

وحين نفهم معنى العبادة على هذا النحو نفهم لماذا جعل يوسف عليه السلام اختصاص الله بالعبادة تعليلًا لاختصاصه بالحكم، فالعبادة، أي الدينونة، لا تقوم إذا كان الحكم لغيره، وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإرادي في حياة الناس خاصة، فكله حكم تتحقق به الدينونة.

ويقرر يوسف عليه السلام أن اختصاص الله سبحانه بالحكم، تحقيقًا لاختصاصه بالعبادة، هو وحده الدين القيم: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، وهو تعبير يفيد القصر، فلا دين قيمًا سوى هذا الدين، الذي يتحقق فيه اختصاص الله بالحكم، تحقيقًا لاختصاصه بالعبادة.

نلاحظ أن يوسف عليه السلام استثمر الموقف استثمارًا كاملًا، وقطف الثمرة في أوانها؛ فإنه لما رأى إتيانهما إليه واثقين فيه مسلمين بأمانته مذعنين لعلمه، أكد عليهما ما وقر في نفوسهما بأنه أهل لهذه الثقة، ومحل لهذا العلم، مما يؤكد أهمية هذا العنصر في الدعوة، ثم أسند كل هذا الفضل إلى ربه، وبدأ عرض دعوته في وضوح وجلاء ويسر وسهولة.

وإلى هنا يبلغ يوسف أقصى الغاية من الدرس الذي ألقاه، مرتبطًا في مطلعه بالأمر الذي يشغل بال صاحبيه في السجن، ومن ثم فهو يؤول لهما الرؤيا في نهاية الدرس ليزيدهما ثقة في قوله كله وتعلقًا به: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}.

ولم يعين من هو صاحب البشرى ومن هو صاحب المصير السيئ تلطفًا وتحرجًا من المواجهة بالشر والسوء(2).

ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل؛ فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم، مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن الدر يتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ومع ذاك كله فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة، فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة إملالهم، فعن أبي وائل قال: كان عبد الله بن مسعود يذكر النَّاس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها؛ مخافة السآمة علينا(3).

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتنم فرصة الدفن في كثير من الأحيان للدعوة إلى الله تعالى والتزهيد في هذه الحياة الدنيا، كما في حديث البراء بن عازب وغيره، وهذا من الاغتنام الطيب، فإن القلوب مع رؤية الموت ومعاينة القبر مقبلة على الخير وقبول الحق، فإن فعل هذا أحيانًا فلا حرج، ولكن لا يكون أمرًا راتبًا، ومن اغتنام الفرص أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المرأة في السبي تبحث عن طفل لها، فلما وجدته أخذته في حضنها وألقمته ثديها، قال عليه الصلاة والسلام: «أتظنون أن هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر ألَّا تطرحه؟»، قالوا: لا يا رسول الله، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها»(4).

وكذلك لما تضاحك بعض الصحابة من دقة ساق ابن مسعود، اغتنم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة لنقلهم إلى أن الأمر ليس بظاهره، وإنما بحقيقته ونفعه للأمة، فعن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه، فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد»(5).

ولما أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرير فجعل الصحابة يعجبون من لينه، اغتنم الفرصة، فعن أنس رضي الله عنه قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا»(6).

فالداعية الموفق هو من يترقب الفرص ويسعى إليها، ولا ينتظر مجيئها إليه، يباغت المواقف ولا يكون هو رد فعل لها، لا يترك فرصة لما يسميه الناس الصدف أو الفجأة؛ بل تراه بدهيًا مستعدًا لكل موقف بما يناسبه، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: «الْقُطْ لي حصى»، فلقطت له سبع حصيات، هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول «أمثال هؤلاء فارموا» ثم قال: «يا أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»(7).

وعن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يعذبان، وما يعذبان في كبير»، ثم قال: «بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة»، ثم دعا بجريدة، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لم فعلت هذا؟ قال: «لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا» أو: «إلى أن ييبسا»(8).

استغلال للفرصة في التحذير من بعض الأعمال الموجبة لعذاب القبر، من التهاون في أمر الطهارة، والتهاون بأمر النميمة.

وفي قصة الشباب الذين أتوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا أزواجه عن عبادته في بيته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(9).

فالنبي صلى الله عليه وسلم وجد من هذه الحادثة فرصة مواتية لنشر منهج الوسطية والاعتدال في التعبد والعمل، والحث عليه والترهيب من مخالفته، والتنكب عن صراطه المستقيم، ولذلك لم يصحح النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ لهم فقط؛ بل صعد على المنبر، وبدأ يصحح الأمور على منهج الوسطية علنًا أمام الناس، وبالجملة فالأدلة على اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى لا تكاد تحصر.

فرص دعوية:

ومن الفرص الدعوية استغلال مواسم الاجتماع في رمضان في صلاة التراويح، فإن إقبال القلوب في هذا الشهر لا يكاد يخفى على أحد، فلا بد من ترتيب المحاضرات والمواعظ في هذا الشهر، واستغلاله الاستغلال الطيب، في الأمر بالتوبة والصدقة والدعوة إلى نبذ المخالفات والمعاصي.

ومنها: استغلال العزاء في الدعوة إلى الله تعالى بالموعظة الحسنة والتذكير بالموت، وأنه نهاية الحياة وانقطاع الأعمال.

ومنها: إقامة لقاء دوري بين جماعة المسجد للتعارف ولمناقشة ما يحتاجه الحي؛ كإصلاح المسجد، أو متابعة الجيران، أو لمعالجة المنكرات الموجودة بالحي، أو للتباحث بما يفيد الجماعة كعنوان خطبة الجمعة، ويستحسن دعوة أهل العلم المعروفين بين فترة وأخرى للتباحث معهم وإثراء اللقاء.

ومنها: استغلال مواسم العطل الصيفية في ترتيب الدورات العلمية والمحاضرات، والمسابقات الهادفة، وإحياء دور المراكز الصيفية بما يعود على الأمة نفعه في العاجل والآجل.

ومنها: استغلال النشاط المدرسي والإرشاد الطلابي في نشر الخير والدعوة إلى معالي الأمور، وإحياء روح التنافس الهادف بين طلاب المدرسة .

ومنها: تعاون طلبة العلم مع الخطباء في البلد في طرح الموضوعات المهمة في البلد، وإصلاح واقع الناس، والكلام عن مشكلاتهم، مع بيان سبل الحلول الشرعية النافعة .

ومنها: التعاون مع المؤسسات الخيرية في توزيع الصدقات ووجبات الإفطار في رمضان.

ومنها: استغلال فترة نزول بعض البلاء العام بالناس من الأوبئة، أو القحط العام، أو بعض الكوارث التي يقدرها الله تعالى على بلد، من هبوب الرياح المدمرة أو البراكين الحارقة أو الزلازل المهلكة، فإن هذه الأوقات من أنفع الأوقات في الدعوة إلى الله تعالى، وتذكير الناس بأن ما أصابهم إنما هو بما كسبت أيديهم، وأنه لا مخرج لهم من هذا البلاء إلا بالتوبة الصادقة، والإقلاع عن الذنوب، والرجوع إلى الله تعالى، وصدق اللجأ إليه سبحانه.

ومنها: استغلال جانب الرقية على المرضى في الدعوة إلى الله تعالى، وقد دخلت في هذا المجال فوجدت أن المريض يقبل على الراقي بقضه وقضيضه، ولا يكن هم الراقي مجرد المكسب المادي؛ بل ليكن همه كيف يكسب قلب المريض حتى يوجهه إلى قوافل العائدين إلى الله تعالى، فجانب الرقية من أعظم الفرص للدعوة إلى الله تعالى .

ومنها: استغلال جانب تفسير الرؤى والأحلام في الدعوة إلى الله تعالى، فإن الناس ينظرون إلى المعبر نظرة احترام وتقدير لا تكاد توصف، فما إن يدعوهم إلى الله تعالى ويحذرهم من مغبة الذنوب والمعاصي إلا وتجد أن القلوب قد انصاعت له وسالت بين يديه.

ومنها: استغلال زمن الحج واجتماع الناس من كل حدب وصوب، فوالله، إن هذا الاجتماع العظيم من أعظم ما ينبغي استغلاله في الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما وأنك تلتقي مع من لا تقدر على اللقاء به في غير هذه المواسم، والقلوب في هذه المشاعر فيها من الخضوع والإقبال والتضرع ما لا يجد الشيطان معه سبيلًا في الترغيب في الشر، فالله الله أيها الدعاة في هذا الموسم العظيم.

ومنها: استغلال اجتماع الأسر في أيام العيد، وذلك بحسن الترتيب والإعداد، والجمع بين الأخذ بالجد والحزم والترفيه والتشويق الهادف، وكم من الأسر التي استفادت من هذه الاجتماعات في صلاح أبنائها وبناتها وإقبال الأسرة كلها على الخير، فالله الله بحسن الإعداد لها.

ومنها: اغتنام أوقات الفراغ والأمن بكثرة الذكر، والنصب في التعبد، وحفظ المتون العلمية، ومراجعة المحفوظات السابقة، والتأليف في المسائل النافعة، وجمع المادة العلمية التي يعود نفعها على الأمة، والإقبال على قراءة الكتب النافعة.

ومنها: اغتنام أوقات الشباب والقوة والعافية في التعبد والدعوة، والإكثار من فعل الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون مع إخوانك الدعاة على البر والتقوى، والسعي في أن تضرب لك في كل باب من أبواب الخير بسهم، حتى إذا حلت بك الأمراض وصرفتك الأشغال وحل عليك زمن الضعف لا تلوم نفسك على التفريط والتواني زمن القوة والنشاط، وفي الحديث: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(10).

فالله الله أيها الدعاة الموفقون باغتنامها واستغلالها فيما يعود على الأمة نفعه في عاجل أمرها وآجله(11).

إن الأمة تحتاج إلى ذلك الصنف من الدعاة الذين يحرصون على اغتنام الفرص وتسخيرها في خدمة الدين، فهم أذكياء وعقلاء في اقتناص الفرص، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269].

صناعة الفرص الذاتية:

أن يحاول كل مسلم أو داعية إلى الله من خلال جهده الذاتي أن يصنع لنفسه أعمالًا وبرامج عمليه هادفة؛ ليكون من خلالها فرصًا للعمل دون الاعتماد على الآخرين من إخوانه في الدعوة، سواء كانت هذه الفرص إيمانية أو ثقافيه أو دعوية أو خيرية أو غيرها، قاصدًا بذلك اكتساب الأجر والثواب عند الله، واستثمار النفس والحياة بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، وما يعود على دعوته وأمته بالخير والنصر، مستعينًا بالله تعالى أولًا ثم بإخوانه الدعاة ثانيًا، ثم بإمكانياته وطاقاته، وما آتاه الله من النعم في تحقيق ذلك المطلب ثالثًا.

الأسباب المعينة على ذلك:

1- معرفة أن مناط التكليف فردي، وأن كل فرد سيحاسب يوم القيامة فردًا .

لذا ينبغي على الداعية أن يحصر همه وتفكيره فيما يجلب له الأجر، ويقربه إلى الطاعة، وذلك من خلال انتهاز الفرص وصناعتها.

2- معرفة أن صناعة الذاتية احترام للنفس وثقة بها.

3- التفكير في الآخرة وما أعده الله تعالى للعاملين في الجنة .

4- ربط هذه الحياة بحياة أخرى باقية ألا وهي الآخرة، فلا يرى شيئًا في الدنيا إلا وربطه بالآخرة، فعن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، يحدث عن أبيه قال: خرج زيد بن ثابت من عند مروان بنصف النهار، قلت: ما بعث إليه هذه الساعة إلا لشيء يسأل عنه، فسألته، فقال: سألنا عن أشياء سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»(12) .

5- معرفة الأثر الباقي من الأعمال والحسنات بعد الممات، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12].

6- الدعاء بأن يجعلك الله ممن يصنعون الفرص ويستثمرونها في الخير والدعوة، فعن ابن شوذب قال: كان أيوب يؤم أهل مسجده في شهر رمضان، وكان يقرأ بهم في كل ركعة بثلاثين آية، ويقول هو للناس: «الصلاة الصلاة»، فإذا قنت دعا بدعاء القرآن، ويؤمن من خلفه، وكان في آخر دعائه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: «اللهم استعملنا لسنته، وأوزعنا بهديه، اللهم اجعلنا للمتقين إمامًا»، ثم يكبر ويسجد(13).

أنواع الفرص:

أ‌- النوع الأول: فرص مهيأة ومتاحة، وما على الداعية إلا أن يستغلها، ويوظفها في خدمة تربيته الذاتية، أو خدمة الدعوة وأعمال الخير، مثل استغلال مناسبة عائلية في توصيل رسالة الخير.

ب‌- النوع الثاني: فرص يصنعها الداعية بنفسه، سواء كانت قاصرة النفع عليه أو متعدية النفع للدعوة وللآخرين؛ مثل قراءة جزء من القرآن قبل الذهاب إلى النوم .

فانتهاز الفرص جميل، ولكن صناعتها أجمل.

أخي الداعية: إذا استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل.

أخي الداعية: اختر أحد إخوانك في الدعوة من أهل الخير والاجتهاد في العبادة، واجعله معينًا ونصيرًا لك على طاعة الله تعالى، والدعوة وخدمة الإسلام والمسلمين، وتعاهد معه على ذلك إلى الموت، ومن ثم إلى الجنة إن شاء الله تحت شعار (قم بنا نتعاون على طاعة الله)(14).

_________________

(1) أخرجه البخاري (4474).

(2) في ظلال القرآن، سيد قطب (4/1992) وما قبلها.

(3) أخرجه البخاري (70).

(4) أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754).

(5) أخرجه أحمد (3991).

(6) أخرجه البخاري (2615).

(7) أخرجه ابن ماجه (3029).

(8) أخرجه البخاري (216).

(9) أخرجه البخاري (5063).

(10) أخرجه الحاكم في المستدرك (7846).

(11) استغلال الفرص الدعوية، موقع أهل الحديث.

(12) أخرجه ابن ماجه (4105).

(13) شعب الإيمان، للبيهقي (3005).

(14) فن صناعة الفرص الذاتية، موقع صيد الفوائد.