الداعية والاستغناء عن الناس
على قدر قناعة العلماء والدعاة والخطباء في الدنيا وتقللهم منها تكون مكانتهم في نفوس الناس والتفافهم حولهم والانقياد لهم، وعلى قدر تعلقهم بالدنيا تكون زهادة الناس فيهم وعزوفهم عنهم ونفرتهم منهم.
قال سفيان الثوري: العالم طبيب هذه الأمة، والمال داؤها، فإذا كان يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره؟!
والقناعة والعفة والاستغناء عن الناس شرف الداعية والخطيب، يقول الحسن البصري: لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخَفّوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه.
وقيل لأهل البصرة: من سيدكم؟ قالوا: الحسن. قال: بم سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم (1).
عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استغنوا عن الناس ولو بشوص سواك» (2).
أي: تعففوا عن مسألتهم، والمراد أن العبد يشعر قلبه فقر الخلق إلى ربهم وعجزهم، وأنهم تحت قهر قدرة موجدهم، ويكف همم نفسه عن التطلع إليهم، وإلى ما في أيديهم وجوارحه عن الإقبال عليهم، ويقنع بما قسم له، «ولو بشواص السواك»، أي بغسالته أو بما تفتت منه عند التسوك، يعني اقنعوا بأدنى ما يسد الرمق حتى لو فرض أنه يسده غسالة السواك أو ما تفتت منه فاقنعوا به، وألزموا أنفسكم الاستغناء عنهم، وكفوها عن الطمع فيهم والنظر إلى ما في أيديهم، وقيل: المراد لا تطلبوا منهم غسل السواك مبالغة (3).
وعن أبي سعيد الخدري، أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: «ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر» (4).
وفي الحديث الحض على الاستغناء عن الناس والتعفف عن سؤالهم بالصبر والتوكل على الله وانتظار ما يرزقه الله، وقال القرطبي معنى قوله: «من يستعف» أي: يمتنع عن السؤال، وقوله: «يعفه الله» أي: إنه يجازيه على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته، وقوله: «ومن يستغن» أي: بالله عمن سواه، وقوله: «يغنه» أي: فإنه يعطيه ما يستغني به عن السؤال ويخلق في قلبه الغنى، فإن الغنى غنى النفس.
وقال ابن الجوزي: لما كان التعفف يقتضي ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى عنهم فيكون صاحبه معاملًا لله في الباطن، فيقع له الربح على قدر الصدق في ذلك.
وقال الطيبي: معنى قوله «من يستعفف يعفه الله»، أي: إن عف عن السؤال، ولو لم يظهر الاستغناء عن الناس؛ لكنه إن أعطي شيئًا لم يتركه، يملأ الله قلبه غنى بحيث لا يحتاج إلى سؤال، ومن زاد على ذلك فأظهر الاستغناء فتصبر ولو أعطي لم يقبل؛ فذاك أرفع درجة، فالصبر جامع لمكارم الأخلاق، وقال ابن التين: معنى قوله: «يعفه الله» إما أن يرزقه من المال ما يستغني به عن السؤال، وإما أن يرزقه القناعة، والله أعلم (5).
قال الغزالي رحمه الله: مثل المال مثل الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها العارف الذي يحترز عن شرها ويعرف استخراج ترياقها كان نعمة، وإن أصابها الغبي فقد لقي البلاء المهلك (6).
وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج له مسألته مني شيئًا وأنا كاره فيبارك له فيما أعطيته» (7).
قال الغزالي: من أخذ شيئًا مع العلم بأن باعث المعطي الحياء منه أو من الحاضرين ولولا ذلك لما أعطاه؛ فهو حرام إجماعًا، ويلزمه رده أو رد بدله إليه أو إلى ورثته، قال النووي في شرحه: اتفق العلماء على النهي عن السؤال لغير ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنهما حرام لظاهر الأحاديث، والثاني حلال مع الكرهة بثلاثة شروط: ألا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يكلف بالمسئول، فإن فقد أحد الشروط فحرام بالاتفاق (8).
وعن سمرة ابن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانًا، أو في أمر لا بد منه» (9).
أي: يلوث بها وجهه، فيذهب بذلك نوره ورونقه وماؤه وحياؤه... الإنسان الذي يسأل في أمر لا بد له منه، ولا يجد حل مطلقًا إلا السؤال فالزكوات والصدقات ما شرعت إلا لمثل هذا، وكذلك السلطان، حينما يسأل السلطان لا شك أن هذا يعني خلاف الأولى، إن أعطاك السلطان من غير مسألة ولا استشراف فخذه، وهو من أفضل المكاسب، لكن إن احتاجت المسألة إلى سؤال فالأمر أسهل؛ لأنه لا منة له في ذلك، فإنه إنما يعطي من بيت المال (10).7777777
عن رجل من بني أسد، أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسله لنا شيئًا نأكله، فجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عنده رجلًا يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا أجد ما أعطيك»، فتولى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يغضب علي أن لا أجد ما أعطيه، من سأل منكم وله أوقية، أو عدلها، فقد سأل إلحافًا»، قال الأسدي: فقلت: للقحة لنا خير من أوقية- والأوقية أربعون درهمًا- قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير وزبيب، فقسم لنا منه، أو كما قال: حتى أغنانا الله عز وجل (11).
وهذا الحديث يدل على أن السؤال مكروه لمن له أوقية من فضة، فمن سأل وله هذا الحد والعدد والقدر من الفضة، أو ما يقوم مقامها، ويكون عدلًا منها فهو ملحف، وما علمت أحدًا من أهل العلم إلا وهو يكره السؤال لمن له هذا المقدار من الفضة أو عدلها من الذهب على ظاهر هذا الحديث، وما جاءه من غير مسألة فجائز له أن يأكله إن كان من غير الزكاة (12).
وعن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، وإن كنت لا بد سائلًا فسل الصالحين» (13).
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله سائل عن عمل إذا فعله أحبه الناس، فقال له: «وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس» (14).
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفذ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك بالإياس مما في أيدي الناس فإنك لا تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه (15).
وثبت من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: «شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس» (16).
وقال الحسن: لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك (17).
من ثمرات الزهد أن يجمع الله لك فضائل عظيمة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (18).
قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20].
ومعنى هذا أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها، تعلقت بما عند غيرها وتشوقت إليه، فتمتد إليه العين، ويطمح إليه البصر، وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق وانكفت عن التشوف؛ فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها، ولم يطمح البصر إليه؛ ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها (19).
قال السعدي: أي: لا تمد عينيك معجبًا، ولا تكرر النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها- بقطع النظر عن الآخرة- القوم الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا، ليعلم من يقف عندها ويغتر بها، ومن هو أحسن عملا كما قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)} [الكهف: 7- 8].
{وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة والآجل من النعيم المقيم والعيش السليم في جوار الرب الرحيم {خَيْرُ} مما متعنا به أزواجًا في ذاته وصفاته {وَأَبْقَى} لكونه لا ينقطع أكلها دائم وظلها كما قال تعالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16- 17].
وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحًا إلى زينة الدنيا وإقبالًا عليها أن يذكرها ما أمامها من رزق ربه وأن يوازن بين هذا وهذا (20).
ومما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة عليه ألا يسألوا الناس شيئًا، فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟، وكنَّا حديثي بيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟، فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتُطيعوا»، وأسر كلمة خفيفة: «ولا تسألوا الناس شيئًا»، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا أن يناوله إياه (21)، قال الإمام النووي: فيه الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالًا وإن كان حقيرًا، والله أعلم (22).
قال أيوب السختياني رحمه الله: لا يسود العبد حتى يكون فيه خصلتان: اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم.
قال الإمام ابن حبان رحمه الله: العاقل لا يسأل الناس شيئًا فيردوه، ولا يلحف في المسألة فيحرموه، ويلزم التعفُّف والتكرُّم، ولا يطلب الأمر مدبرًا، ولا يتركه مقبلًا؛ لأن فوت الحاجة خيرٌ من طلبها إلى غير أهلها، وإن من سأل غير المستحق حاجة حطَّ لنفسه مرتبتين، ورفع المسؤول فوق قدره.
وقال رحمه الله: لا يجب للعاقل أن يبذل وجهه لمن يكرم عليه قدره، ويعظم عنده خطره، فكيف بمن يهون عليه رده، ولا يكرم عليه قدره؟! وأبغض اللقاء الموت، وأشد منه الحاجة إلى الناس دون السؤال، وأشدُّ منه التكلُّف بالسؤال (23).
قال الحافظ ابن رجب: روي أن عبد الله بن سلام لقي كعب الأحبار عند عمر، رضي الله عنهم جميعًا، فقال: يا كعب، من أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه؟ قال: يُذهبه الطمع، وشره النفس، وتطلب الحاجات إلى الناس، قال: صدقت.
قال ابن رجب: فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك، وأما من كان يرى المنة للسائل عليه ويرى أنه لو خرج له عن ملكه كله لم يف له ببذل سؤاله له وذلته له، أو كان يقول لأهله ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، فهذا نادر جدًا من طباع بني آدم، وقد انطوى بساط ذلك من أزمان متطاولة.
وأما من زهد فيما في أيدي الناس وعف عنهم فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ويسود به عليهم؛ كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم (24).
وُيخص بالذكر هنا الدعاة إلى الله فإن عليهم أن يكونوا أعزة، وأن يستغنوا بما عند الله عما في أيدي الناس، فالأنبياء بلغوا دين الله ونشروه في العالمين، ولم يرجو من وراء ذلك لا جزاء ولا شكورًا، ولا مدحًا ولا ثناء، ولا مالًا ولا جاهًا، ولا شيئًا من حطام الدنيا، بل كانوا كما قال الله عنهم أنهم قالوا جميعًا: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 109].
ذلك أن الناس إذا علموا أن الداعية ينظر إلى أموالهم أو ينظر إلى شفاعتهم وجاههم ويستعظمه في نفوسهم ويرجو من ورائه مقاصد؛ فإنهم في الغالب لا يقبلون منه، ولا يتأثرون بخطابه.
فعلى الداعية إلى الله أن يكون عزيز النفس، غنيًا بالله، وبما عند الله، وأن يزهد عما في أيدي الناس، وأن لا يتطلع إلى ذلك، فما جاءه من غير استشراف ولا تطلع، ولا سؤال فلا بأس عليه أن يأخذه، مع أن الأولى والأكمل له أن لا يقبل العطاء من الناس؛ فقد جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو أحوج إليه مني، -أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير-، فقال: «يا عمر! ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ إليه فخذه، فإن شئت تمولته، وإن شئت تصدقت به» (25)، أي: فأنت تملكه وليس عليك في ذلك شيء؛ لأنه جاءك من غير مسألة.
قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، هذه خارطة الطريق، لتكمل رحلة الحياة متوكلًا على الله أولًا، ثم معتمدًا على نفسك وقدراتك، دون سؤال الناس أو الحاجة إليهم في أي من أمور الدنيا، إلا لضرورة وبتعفف وفي أضيق الحدود، سواء كان ذلك مالًا أو شفاعة أو عونًا أو عاطفةً أو طلب حق ونحوها، عدا ذلك فارتق بنفسك، وضعها في منزلتها التي تليق بها، تعوّد أن لا تشحذ الاهتمام من أحد، وأعلم أن «لا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفًا»، ولا تربط نفسك بشخص، ولا تأسر حياتك مع جماعة، ولا تخضع لصاحب معروف تفضل به عليك يومًا، كن أنت من يمسك بزمام الأمور، ولا تنتظر أحدًا مهما كلفك الأمر.
إذا ما اتقنت فن الاستغناء عن الآخرين، لن تكون مضطرًا لإراقة ماء وجهك لأحد، ولا لهدر وقت طويل من حياتك في التزلّف وتصنّع المجاملة، ومنح التقدير والاهتمام لمن لا يستحق، ولن يكون عليك أن تتحول إلى «سائسًا» لشؤون الناس من أجل كسب ودهم ورضاهم، حينها ستكتشف نقطة الانطلاق، وستعيش معنى آخر للحياة، يشعرك بتفاصيل الوجود (26).
قال الطبري: القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29] وهذا أيضًا خبر من الله عن قيل نوح لقومه أنه قال لهم: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ}، على نصيحتي لكم ودعايتكم إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له مالًا: أجرًا على ذلك، فتتهموني في نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلب عرض من أعراض الدنيا، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} يقول: ما ثواب نصيحتي لكم ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فإنه هو الذي يجازيني، ويثيبني عليه (27).
الدعوة الخالصة التي لا يطلب صاحبها أجرًا، ولا يأمر إلا بما يوحي منطق الفطرة القريب.
-------------
(1) دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ (ص: 66).
(2) أخرجه الطبراني (12257).
(3) فيض القدير (1/ 495).
(4) أخرجه البخاري (1469)، ومسلم (1053).
(5) فتح الباري لابن حجر (11/ 305).
(6) تحفة الأحوذي (7/ 37).
(7) أخرجه مسلم (1038).
(8) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1309).
(9) أخرجه الترمذي (681).
(10) شرح المحرر في الحديث (55/ 30).
(11) أخرجه أبو داود (1627).
(12) تفسير القرطبي (3/ 343).
(13) أخرجه الطبراني (1004).
(14) أخرجه ابن ماجه (4102).
(15) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (2/ 535).
(16) أخرجه الطبراني (4278).
(17) حلية الأولياء (3/ 20).
(18) أخرجه الترمذي (2465).
(19) تفسير ابن باديس (ص: 237).
(20) تيسير الكريم الرحمن (ص: 517).
(21) أخرجه مسلم (1043).
(22) شرح النووي على مسلم (7/ 132).
(23) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 147).
(24) جامع العلوم والحكم (2/ 893).
(25) أخرجه النسائي (2209).
(26) فن الاستغناء عن الآخرين/ جريدة الجزيرة.
(27) تفسير الطبري (12/ 384).