أخطاء في علاج الأخطاء
على كل واحد منا أن يذكر فلا ينسى أنه لم يخلق ملكًا كريمًا، ولم يخلق بشرًا معصومًا، وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، فتارة يغلب خيره شره فهو خير من الملائكة، وتارة يغلب شره خيره فهو شر من البهائم.
فالذنوب والمعاصي باب كلنا ولجناه، وبحر كلنا سبحنا فيه، ولا ينجو من ذلك إلا المعصومون ممن اصطفاهم الله واجتباهم من الأنبياء والرسل.
فمن الطبيعي أن يخطئ الإنسان، فلا أحد يسلم من الخطأ، فإن كل ابن آدم خطاء، والله عز وجل لم يرد من عباده أن يكونوا ملائكة لا يعصون الله، بل ركب فيهم قابلية المعصية، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدَّر أن عبيده يخطئون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج منه؟
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم»(1).
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد مبرأً لا عيب فيه وهل نار تفوح بلا دخان
عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»(2).
لم يستثن الرسول الكريم فى هذا أحدًا من أبناء آدم، والأنبياء من أولاد آدم بلا شك، وإن كانوا الصفوة المتخيرة من بين هؤلاء الأبناء، وإن كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه صفوة هؤلاء الصفوة!! وأن ما يحسب من ذنوب للمصطفين من عباد الله، هو مما يعد من حسنات غيرهم، كما يقال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [آل عمران: 135- 136].
فبين الله أن من صفات المتقين أنهم إذا فعلوا فاحشة استغفروا وتابوا، فمن المتقين من يقع في الفاحشة لأنه بشر ركبت فيه الشهوة، ثم بين جزاؤهم مغفرة وجنة.
«إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين، ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين {الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}، والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها، من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة، قافلة المؤمنين، إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة، مرتبة «المتقين»، على شرط واحد؛ شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته..
أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء، وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية، فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.
إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانًا إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع، يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه، حين يرتكب الفاحشة، المعصية الكبيرة، وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له ربًا يغفر، وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير، إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر، فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته.
إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه منبوذًا حائرًا في التيه! ولا يدعه مطرودًا خائفًا من المآب، إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين.
شيء واحد يتطلبه: ألا يجف قلبه، وتظلم روحه، فينسى الله، وما دام يذكر الله، ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي، ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي، ما دام في قلبه ذلك الندى البليل، فسيطلع النور في روحه من جديد، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.
إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط- لا سواه- في الدار؛ سيروح آبقًا شاردًا لا يثوب إلى الدار أبدًا، فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدًا حانية، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة، فإنه سيعود! وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه، فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقًا ربانية، فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد؛ ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة!
والإسلام لا يدعو بهذا إلى الترخص، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف «الواقعية»! إنما هو يقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء!
فالمغفرة من الله- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار.
فأما الذين يستهترون ويصرون، فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأسوار! وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها. ويفتح أمامها باب الرجاء أبداً، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها»(3) .
فكل إنسان بفطرته يكره أن يخطئ، ويحب أن يصيب دائمًا وأبدًا، ولكن ما دام أن الخطأ مكتوب على الإنسان لا محالة، وما دام أنك لا يمكن أن تنفك عن الخطأ، سواءً كنتَ فردًا أو جماعةً، أو دولةً أو أمةً، فإن المؤمن يفضل أن يُكاشف بالخطأ الآن ويبين له، وهذا أحب إليه من السكوت الذي تكون عاقبتة سوء عليه في الدنيا وفي الدار الآخرة.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه قال في حديث الرؤيا: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! دعني أعبر هذه الرؤيا، فعبرها أبو بكر، فقال: والله يا رسول الله! لتخبرني أصبت أم أخطأت؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا»(4).
إذًا الخطأ من شيمة الإنسان ومن طبعه، وإن كان قليلًا عند السابقين، فما بالك بأهل هذا الزمن، إنهم معدن الخطأ ومظنته، وليس عجيبًا أن يخطئوا بل العجيب أن لا يخطئوا، إلا من عصم الله عز وجل، فنسأل الله أن يعصمنا من الخطأ والزلل، إنه على كل شيء قدير.
الحق يؤخذ ممن جاء به، والحق لا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، إذًا يجب أن ندرك أن الخطأ من شيمة الإنسان.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتب على ابن آدم حظه من الزنا، فهو مدركه لا محالة: فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه»(5).
ولكن إذا علمه من نفسه أو أعلمه به غيره فينبغي أن يعمل على تصحيح خطئه، ولكن من الملاحظ أننا عند علاج الخطأ قد نقع في أخطاء كثيرة ينبغي التنبه لها والعمل على تداركها:
1- الإفراط في المعاتبة والنظر إلى السلبيات دون الإيجابيات، وترك الاعتذار أو التسامح:
يروى عن رجاء بن حيوة أنّه قال: «من لم يؤاخِ إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرضَ من صديقه إلا بالإخلاص دام سخطه، ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوه»(6).
2- تصيّد الأخطاء:
فإن ذلك يوغر الصدر، وهو مناقض لمقصد النصيحة وحسن الظن، ثم إن «كل ابن آدم خطاء، فخير الخطائين التوابون»، وأيضًا فإن كل متصيد لعيب غيره، غافل عن عيوب نفسه.
3- سوء الظن:
وهو جالب للهم والغم، ومتضمن ظلم المظنون فيه، فكم ظُنّ في رجل سوءٌ، وعومل على أساسه سنوات دون علمه، ومن غير سؤاله والاستفسار منه، ثم تبين خلاف ذلك.
4- إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح:
وهو أسلوب قد يسلكه المرء مع نفسه، فيمارس حيلًا لا شعورية، يتهرب فيها من المسئولية، ويتهرب فيها من تحميل النفس الخطأ، ويرفض أن يواجه بخطئه، ويرفض أن يقال له: أخطأت، فهو يرفض النقد جملة وتفصيلًا، تصريحًا وتلميحًا إشارة أو عبارة.
إنه لا يليق بالمرء أن يرفض المصارحة مع نفسه ومناقشة أخطائه، وأن يتهم النقد الموجه له من الآخرين، وكذلك لا يسوغ لنا أن نرفض المراجعة.
والتهرب من النقد والمراجعة، واتهام من ينتقد إنما يعني الإصرار على الخطأ، واعتقاد العصمة للنفس، فلا بد أن نتربى وأن نربي غيرنا على أن تكون لغة النقد البناء لغة سائدة بين الجميع، وعلى أن يكون الحديث عن الأخطاء حديثًا لا تقف دونه الحواجز ولا العوائق، ما دام ذلك داخلًا في إطار النصيحة.
5-علاج الخطأ بخطأ آخر:
وهذا غالبًا ما ينشأ عن زيادة الحماس لمواجهة هذا الخطأ، فقد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه، وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيح هذا الخطأ فيتعامل مع نفسه بردة فعل، ويتعامل مع هذا الخطأ بخطأ آخر، فربما كلف نفسه ما لا يطيق، وربما وقع في خطأ آخر مقابل لهذا الخطأ.
فقد جاء الأعرابي إلى المسجد وبال فيه، فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالجوا ه