التوازن بين العمل والعبادة
الإسلام بتشريعاته المتوازنة وتعاليمه السمحة دين نظام وتوازن وانضباط، بل هو الدين الوسط الذي يجمع بين العلم والعمل، والروح والجسد، والعقل والنقل، والعمل والعبادة، والدنيا والآخرة.
ومتوازنًا في عبادته تعالى فلا إفراط ولا تفريط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا» (1).
وهذه كلها أعمال سماها صلى الله عليه وسلم دينا، والدين والإسلام والإيمان شيء واحد، قال أبو الزناد: والمراد بهذا الحديث الحض على الرفق في العمل (2).
الإسلام دين التوازن بين المادية والروحية وبين الإفراط والتفريط؛ لا يطغى أحدهما على الآخر، بل توسط بين المادية والروحية، وجمع بينهما في توازن واتزان، فلم يبالغ في الجانب المادي كشريعة موسى عليه السلام، التي تتناسب مع طبيعة اليهود آنذاك، ولم يبالغ في الروحية إلى حد الرهبنة في شريعة عيسى عليه السلام، وإنما خاطب العقل والقلب معًا بعد اكتماله بشريعة الإسلام، فلا تقبل المبالغة فيهما؛ فحث على العمل والكسب وجمع المادة، وجعلها عبادة روحية، ما دامت ابتغاء مرضاة الله تعالى (3).
ويتجلى التوازن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه الذين أرادوا أن يسيروا على أسلوب خاص للعبادة يهوونه، ويضيِّقوا على أنفسهم بترك الطيبات، والتشديد عليها: «إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حق حقه» (4).
والحياة في الإسلام تقوم على الجمع بين العمل والعبادة على قاعدتين أساسيتين أولاهما، القاعدة الروحية: وهي صلة العبد بربه وخالقه، لإحياء روحه وقلبه بأشعة الإيمان ونور اليقين، وكشف الغطاء عن فطرته الصافية وإنسانيته النقية، فيعيش في إطار الحب والمراقبة وفي جنبات الطهر والصفاء.
وثانيتهما، القاعدة العملية: وهي عمارة الحياة وإصلاحها واستخراج الرزق من ثناياها، والسير فيها بالحق والخير والعدل والإحسان.
والقاعدة الأولى هي وقود الثانية وميزانها ونورها ودستورها القويم الذي لا تزيغ معه الأهواء ولا تشرد به العقول والأفكار، أو تضل به الخطى والدروب.
والقاعدتان في الفكر الإسلامي تشبع في الإنسان ملكاته ورغباته ونزعاته، وتخاطب فيه قواه الحيوية وتوجهاته البشرية، فيعمل بكل طاقته وينطلق بكل إمكاناته، بغير قصور أو قيود أو سدود أو التواء أو أخطاء.
فلا رهبانية في الإسلام ولا قعود عن جلائل الأعمال أو إهلاك للطاقات الحيوية والابداعية في الفرد، كما أنه لا عبادة للمادة، ولا إهدار للقيم والأخلاق والمثل، ولا مخاطبة للإنسان كحيوان لا يعرف إلا بطنه ولا يهتم إلا بطعامه ولا إطلاق للغرائز بغير قيود أو حدود أو ضوابط.
وإنما توازن يواكب فطرة الإنسان ويحقق رسالته في الحياة ويؤكد خلافته الصالحة فيها، وسطية واعتدال، بدون تفريط في كل ما فيه رفاهية الإنسان وإسعاد حياته: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
وإنما تناسق وتوافق واعتدال في المادة وفي الروح وتعايش بين النوازع والملكات؛ هذا هو ديننا وتلك هي عقيدتنا.
عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروهم كأنهم تقالوها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (5).
أراد هؤلاء الثلاثة القضاء على الحركة الحيوية في الإنسان من ناحيتين خطيرتين، القوى الاقتصادية والبشرية باسم الدين والعقيدة، وفي هذا القضاء على العقيدة نفسها بإضعاف جندها ماديًا وبشريًا، وهذا خطأ سارع الرسول عليه السلام إلى تداركه وتجاوزه، وإقرار القواعد الصحيحة للرسالة السامية والعبادة الصحيحة للمنهج السليم، وقد أشاد الرسول الكريم بالعاملين في حقل الحياة فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة» (6)، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده» (7).
إن هذا الفكر هو الذي صنع الحضارة الإسلامية الزاهية البراقة، وهو الذي هذبها وطوعها في سبيل خير الإنسانية والبشرية، وهو الذي يمدها من جديد بالدفء والحيوية والصلاح.
فليس الثواب مقتصرًا على العباد في المحاريب، وإنما هو في كل مصنع يعطي الإنسانية الخير والسعادة والنفع، وفي كل حقل يمد الناس بالخير والغذاء، وفي كل جهد يعين الناس ويقضي حوائجهم وييسر عليهم حياتهم.
هذا الفكر هو الذي اختلط بالجهد البشري فقضى على غلو المادة وطغيان الشهوات وحب السيطرة والجبروت الذي يرسبه عطاء المادة وقوة الشهوة وتحكم الغرائز.
هذا الفكر هو الذي منع الانحراف في فهم معنى العبادة، وقلل من دعاوي الابتداع فيها، ومن استقرار هذا الابتداع في حياتها وممارستها عن ظهوره أو الجنوح إليه.
نعم إنها الأصول الثابتة للفكر الإسلامي التي ترد الإنسان إلى مساره الصحيح، وتعمل عملها في الحياة (8).
طريق الدنيا والآخرة طريق واحد، وأن طريق العبد في هذه الحياة حتى ولو كان يعمل للدنيا فإنما هو ينظر إلى الآخرة، إذ أن التعارض بين الدنيا والآخرة، والفصل بينهما صار عند كثير من الناس بأسباب متعددة، إذا نظروا في أمر الإسلام والدين، ثم التفتوا إلى أمر دنياهم وأعمالهم ووظائفهم وتجارتهم ودراستهم وجدوا تناقضًا وأحسوا بالإثم، ورأوا تعارضًا بين ما هم فيه من أمور الدنيا وبين القرآن والسنة، وهذا الشعور له مصادر متعددة، فقد يكون نتيجة لتصور خاطئ، وقد يكون نتيجة لممارسة خاطئة وعمل محرم، فالذين يعملون في المحرمات وظيفة وتجارة وتدراسة، شعورهم بالتعارض بين دنياهم وآخرتهم شعور حقيقي وصحيح، ويجب أن يحصل، أن يشعروا أن ما هم فيه من عمل الدنيا يتعارض مع الآخرة تعارضًا واضحًا، لماذا؟ لأنهم يعملون في مجالات محرمة، منافية للدين، وتصير أمور دنياهم في هذه الحالة مخالفة لأحكام دينهم، فيجب على هؤلاء ترك المحرمات التي هم فيها واقعون.
ومن المسلمين طائفة ثانية، تشعر بالتعارض، يشعر بالتعارض لأنه غلَّب جانب الدنيا على جانب الآخرة في الاهتمام والعمل، فشعوره أيضًا شعور صحيح؛ لأنه غبن نفسه وفوت عليها حسنات كثيرة، لو حصلها لارتفع عند الله في الآخرة، ولأنه انشغل بالفاني عن العمل للباقي، وركز جهده في هذه الحياة التي تنتهي، ركز فيها جهده وعمله وجعل الفتات والفضلة من وقته لأمر الآخرة التي لا تنتهي، والتي حياتها في خلود دائم، فهذا مغبون ومسكين؛ لأنه انشغل بما ينتهي عما لا ينتهي، وبالفاني عن الباقي، فينبغي أن يعود ويعدل الميزان، وأن يجعل عمله للآخرة هو الأكثر.
ومن المسلمين من يرى تعارضًا بين الدنيا والآخرة لخطأ في تصور القضية، طريق الدنيا وطريق الدين، فهؤلاء ينبغي أن يبصروا ويفقهوا ليزول اللبس فلا يتعذبون، وليعملوا وهم في راحة.
يصر البعض على زعم أن العبادة تتعارض مع الكسب والعمل في الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، وأن من أراد الآخرة فلا بد أن يطلق الدنيا طلاقًا باتًا حتى يصلح قلبه.
توازن الصحابة:
ويقول بعض هؤلاء من الصوفية وغيرهم: إن الصحابة لم يفتحوا البلدان، ولم يصبحوا في المنزلة العالية من الدين إلا بعد أن تركوا الدنيا وتفرغوا تمامًا للعبادة والجهاد، فما صحة هذا الكلام؟
الجواب: إن هذا الكلام فيه تعسف ومنافاة لمصلحة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وبعيد عن الحكمة والعقل السليم والواقع، وهو مغاير قبل ذلك كله لحال الصحابة رضوان الله عليهم، وللرد على تلك المزاعم نريد إلقاء الضوء على النظرة الشرعية للعمل الدنيوي والكسب أولًا، وكيف طبق الصحابة ذلك في حياتهم ثانيًا.
أما المسألة الأولى: فقد قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ} [القصص: 77].
قال ابن كثير رحمه الله: أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة، {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ} هذه فيها تفسيران، الثاني: أي لا تنسى ما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزورك أي: ضيوفك وزائريك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه (9).
وقال الحسن وقتادة: أي لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه (10).
وهذا مثل قول عبد الله بن عمرو: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا (11).
هذا معنى: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، لا تنس الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.
وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها، فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض، ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها، والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة (12).
ومسألة الكسب مسألة شرعية، تحصيل المال لإنفاقه على النفس وسد الحاجة مطلب شرعي، وليست قضية دنيوية بحتة، يرتبط بتحصيل الكسب للإنفاق على النفس وسد الحاجة يرتبط بها أجر وثواب في الآخرة، فهي ليست قضية دنيوية مجردة، وهذا من الفروق بين المسلمين وبين الكفار، فالكفار لا يحتسبون في عملهم للدنيا في وظائفهم ودراساتهم وأبحاثهم لا يحتسبون أجرًا عند الله، وأما المسلمون فانظر في هذا الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم في الخارج من بيته: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان» (13).
وحتى يكون لدينا مثال آخر في قضية دخول الدنيا في الآخرة لنتأمل في مسألة التجارة في الحج، هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، أباح الشارع الحكيم التجارة فيه لعلمه بحاجات الناس وما يصلحهم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، هذه أسواق في موسم الحج، تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، يعني: في موسم الحج (14).
فكيف إذًا سمح لنا بالتجارة في موسم الحج؟ أعمال الحج ماشية، والحاج يسير في نسكه، ويجوز له أن يتاجر، نعم، لو تفرغ للعبادة كان أفضل، ولكن لا يمنع أن يتاجر في ذلك الموسم، وأن يبيع ويشتري، ماذا يعني هذا؟ مراعاة الشريعة لحال الناس، أن هذا دين يلبي طلبات الناس، وأن من ابتغى بعمله الله تعالى ولو كان عمله دنيويًا أنه يؤجر على ذلك.
يشتكي الآن عدد من المخلصين يقولون: لا نستطيع أن نوفق بين الدنيا وطلب العلم، وبين الدنيا والعبادة، كيف نفعل؟ صحيح أن المجتمع قد تعقد كثيرًا، وأنه قد صارت هناك متطلبات لا توجد في العصر الأول، لكن هناك شيء أساسي مشترك وهو الحاجة الشخصية إلى المال والكسب، ماذا قال عمر رضي الله عنه؟ يعلم ابن عباس قصة المرأتين، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهو من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك (15).
عمر يحتاج إلى العمل، يحتاج لكسب قوته، الصحابة ما كانوا يمدون أيديهم للناس، وهم يستطيعون كسب أقواتهم، عندهم عزة، فهم يعملون لأجل كسبهم، كان بين عمر وشخص آخر صداقة أدت إلى عمل مشترك في زراعة، عمر يعمل يومًا وينزل ذلك الرجل لطلب العلم، والرجل يعمل في اليوم التالي، وعمر ينزل في ذلك اليوم لطلب العلم، ثم يخبر كل واحد منهما الآخر بما حصل في ذلك اليوم من خبر الوحي أو غيره، كما قال عمر، لا يسمع شيئًا إلا حدثه به، ولا يسمع عمر شيئًا إلا حدثه به.
وفي رواية: يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غبت وأحضره إذا غاب، ويخبرني وأخبره.
قال ابن حجر رحمه الله: وفيه: أن طالب العلم يجعل لنفسه وقتًا يتفرغ فيه لأمر معاشه وحال أهله (16).
كيف استطاع ذلك الجيل أن يجمع بين تحصيل الكسب الدنيوي وبين تحصيل العلم؟ إنه لم يطلب العمل يومًا ويتفرغ للدنيا يومًا، ثم يفوت العلم الذي كان في اليوم الذي عمل فيه للدنيا، كلا، إنه كان يحصل العلم بنفسه يومًا، ثم يسمعه من غيره عن اليوم الآخر، من ناحية الفائدة والمعلومات لا يفوته شيء، ولكن لا بد من عمل قد يفوت شيئًا من الفضل والأجر كحضور مجلس العلم، والجلوس عند العلماء، ولكن هكذا فعلوا، هكذا وفقوا بين طلبات الدنيا والطلبات الدينية، بين الحاجات الدينية والحاجات الدنيوية، ما كان الصحابة ممتنعين عن الكسب، هذا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، يقول أبو العالية: وكان له –أي لأنس– بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان كان يجيء منه ريح المسك (17).
وكذلك رعوا الغنم، مع أن رعي الغنم عمل دنيوي، وهكذا حصل لسعد رضي الله عنه في غنم له، فر من الفتن اتخذه خارج المدينة، وقال صلى الله عليه وسلم: «يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة» (18).
إذًا العلم الدنيوي مستمر، لكن إذا جاء وقت الصلاة، أذان وصلاة، ولو كان وحيدًا في فلاة من الأرض، وكذلك المؤمن يرعى حق الله وهو في الوظيفة والدراسة، لكن عندما يقول: الحصة أهم من الصلاة، ولو ضاع وقتها، والتجارة والوظيفة لا تنقطع لأجل العمل، لا تنقطع لأجل الصلاة، فهذا هو المسكين.
التوفيق ممكن، والطريقان واحد، إذا ابتغى الإنسان وجه الله تعالى، هذا البيع قد أحله الله تعالى، وقال عن التجارة العالمية والنقل البحري: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] الآية، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [النحل: 14]، {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء: 66]، ومعنى يزجي أي: يجري وييسر، أكثر البضائع في العالم الآن تنقل عبر الشحن البحري، هذه منة من الله، {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12]، أي: السفن العظيمة تجري في البحار بما ينفع الناس من البضائع والتجارة، {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} فأشار إلى التجارة والابتغاء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الكسب: «بيع مبرور، وعمل الرجل بيده» (19).
لقد قدم لنا الصحابة رضي الله عنه نموذجًا عمليًا لقضية الجمع بين الدنيا والآخرة، كانوا في قمة الدين، وكانوا يحصلون الدنيا أيضًا.
وقال صخر الغامدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»، وكان صخر رجلًا تاجرًا صحابي فاضلًا، وكان إذا بعث تجارة بعثهم من أول النهار، فأثرى وكثر ماله (20).
إن هذه القضية تدل بجلاء على أن الطريقين واحد، وأنه ينبغي علينا أن نبتغي بأعمالنا الحلال وجه الله.
مشروعية العمل والتكسب:
لقد حثت الشريعة على العمل، وذمت البطالة والكسل، وكثير من المسلمين اليوم ما بين انغماس في الدنيا بالكلية، أو بطالة عمياء، يقع شبابهم البطالون يقعون في المعاصي، وهم في الغي سادرون، وقليل منهم من المسلمين من توسط في الأمر وعرف كيف ينتهج النهج الصحيح في هذه الحياة.
لقد باشر الصحابة الأعمال وتاجروا حتى ألصق الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق، ما منعه حبه للنبي صلى الله عليه وسلم من الكسب والتجارة والسفر، فقد سافر إلى بصرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ما منعه من التجارة مع حبه له.
لقد عملوا في الكسب مع أنه قد عرضت عليهم هبات، لكن الكسب من التجارة أولى من الكسب من الهبة، وهذه المسألة التي دل عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه» (21)، تدل على أن قضية الشحاذة والسؤال والطلب مذمومة، ما دام الإنسان قادرًا على العلم، ولم توصد في وجهه الأبواب، ولم تسد السبل، فإنه ينبغي أن يعمل وأن ينوي بعمله هذا وجه الله تعالى.
ضوابط التوازن بين العمل الدنيوي والعمل الأخروي:
ولكن حتى لا يتصور البعض أن القضية إمضاء الوقت في الكسب، والتجارة، والوظائف، والدراسة، لا بد أن نعلم بأن الشريعة قد جعلت ضوابط حتى لا يحصل طغيان ولا اختلال في الميزان، فما هي هذه الضوابط؟
أولًا: ينبغي أن يعمل الإنسان في مجال مباح، فإذا عمل في مجال محرم، أو إجارة محرمة، أو وظيفة محرمة، أو تجارة محرمة، فهو خارج عن هذه المسألة التي ذكرناها خروجًا كليًا، وطريق دنياه توصله إلى جهنم، والأمر واضح وجلي.
المكاسب المحرمة والأعمال المحرمة طريق دنيوي لا يتحد مع طريق الآخرة؛ بل يؤدي إلى جهنم وبئس المصير.
ثانيًا: إنه لا بد من تطبيق أحكام الشريعة في الأمور الدنيوية، وهذه مسألة لافتة للنظر حقًا في هذه الشريعة، أن الشريعة ما جاءت بأحكام في الصلاة والصيام والحج والذكر والدعاء وتلاوة القرآن فقط، وإنما قد جاءت بأحكام متعددة في النكاح والطلاق والحضانة والرضاع والبيع والشراء والوكالة والكفالة والرهن والإجارة والحوالة، وغير ذلك؛ والبناء وأحكام البناء والطرقات في الشريعة الإسلامية، فهذه أمور دنيوية، ولكن جاءت فيها أحكام شرعية؛ لأن الله أعلم بما يصلح الخلق، ليس في آخرتهم فقط، وإنما في دنياهم أيضًا، ولأن الخلق يظلمون، والإنسان ظلوم جهول، فإذا أوكل إلى الإنسان أمر دنياه يشرِّع فيه ما يشاء من القوانين ظلم وبغى، ولذلك جاءت الشريعة بأمور محددة، وتدخلت الشريعة في الأمور الدنيوية، وصار البيع والشراء والاقتصاد والعلاقات منضبطة بالشريعة، في الإسلام الشريعة تضبط هذه الأشياء، فمن عمل في الدنيا، فلا يجوز له أن يعمل في محرم، ولا يبيع محرمًا كخمر وخنزير، ولا يغش ولا يحتكر.
ثالثًا: أن يؤمن الإنسان بحقارة الدنيا وتفاهتها مع عمله فيها وسعيه فيها، «ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم» (22).
ملعونة: أي مبغوضة من الله، استثنى إلا ذكر الله وما والاه وما كان في معناه من أعمال البر والخير، ويدخل في ذلك التكسب للإنفاق على النفس والأولاد، والصدقة من المال المكتسب.
قال: كأنه قيل: الدنيا مذمومة لا يحمد فيها إلا ذكر الله وعالم أو متعلم (23).
رابعًا: عدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة، قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، لم يحرم التجارة ولم يحرم البيع، بل قال: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، لكن ما الذي ذمه؟ ذم الإلهاء ولم يذم التجارة، ذم الإلهاء، وأثنى على عباده الذين {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} [النور: 37]، ليس فقط أن يغلق الدكان للصلاة فقط، لا، {عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ}، وذكر الله أشياء كثيرة، وطلب العلم من ذكر الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، فهؤلاء لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي خالقهم ورازقهم.
عن ابن مسعود أنه رأى قوم من أهل السوق أقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ودخلوا المسجد، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة، قال ابن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه، {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}.
وكذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: فيهم نزلت {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} (24).
قال مطر الوراق: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة، وإذا رفع أحدهم المطرقة فأذن ألقاها خلف ظهره ولم يطرق بها (25).
خامسًا: إخراج حقوق الله من ممتلكاتها، تسليم حق المال، زكاة المال، حق الزرع، {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، إخراج النفقات الواجبة على الزوجة والأولاد والوالدين المحتاجين، والصدقة، {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245]، ثم الالتزام بالأحكام الشرعية في العمل الدنيوي على النحو المتقدم بيانه.
وحسن القصد أن يقصد بتجارته أو عمله وجه الله، لا الأشر ولا البطر، ولا التفاخر، ولا التكاثر، وأن يقصد إعفاف نفسه عن سؤال الناس، والاستغناء عن الخلق، والإنفاق على الأهل، وصلة الرحم، وابتغاء الأجر من الله تعالى (26).
ويجلّي هذه الحقيقة سيد قطب حيث يقول: لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي، وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة، لا يرى أن هنالك سبيلًا للالتقاء بين الطرفين، ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع.
حقيقةً؛ إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تُباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتّم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلّوا عن طريق الآخرة، وأن يضحّوا بالتوجيهات الدينية والمُثُل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحضّ عليه الدين..
كما تحتّم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنّبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مُرْضِيَة لله سبحانه، ولكن تراها ضَرْبَةَ لازِبٍ! ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة.
كلا؛ إنها ليست ضربة لازب، فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل، بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلًا، إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ.
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي، هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية.
ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة.
والمنهج الإسلامي بهذا يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق؛ فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي (27).
____________
(1) أخرجه البخاري (39).
(2) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 96).
(3) التصوير النبوي للقيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف (ص: 146).
(4) أخرجه البخاري (6139).
(5) أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401).
(6) أخرجه البخاري (2320)، ومسلم (1552).
(7) أخرجه البخاري (2072).
(8) توازن الحياة في الإسلام بين العمل والعبادة/ إسلام أون لاين.
(9) تفسير ابن كثير (6/ 253).
(10) تفسير القرطبي (13/ 314).
(11) المطالب العالية (13/ 314).
(12) في ظلال القرآن (5/ 2711).
(13) أخرجه الطبراني (6835).
(14) أخرجه البخاري (2098).
(15) أخرجه البخاري (2468).
(16) فتح الباري لابن حجر (9/ 291).
(17) أخرجه الترمذي (3833).
(18) أخرجه النسائي (666).
(19) أخرجه أحمد (15836).
(20) أخرجه الترمذي (1212).
(21) أخرجه البخاري (2074).
(22) أخرجه الترمذي (2322).
(23) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (8/ 3240).
(24) تفسير ابن كثير (6/ 68).
(25) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2608).
(26) التوفيق بين عمل الدنيا وعمل الآخرة/ دروس للشيخ محمد المنجد، الموسوعة الشاملة.
(27) في ظلال القرآن (2/931 – 934) باختصار.