الداعية بين المنطوق والمفهوم
ليس الداعية حكمًا على نفسه، وليس كل ما يقوله يُفهم كما يريد هو؛ فإن اختلاف الأفهام والطباع والعقول والبيئات والثقافات، كل ذلك له شأن كبير في توصيل الرسالة إلى المدعوين، فليست العبرة: ماذا أقول؟ ولكن: ما الذي يُفهم من هذا الكلام؟
فوقوف الداعية مع نفسه قبل إيصال رسالته؛ ليتأمل في مدلولاتها، ويتفكر في مآلاتها، لهو خير دليل على فطنة الداعية وذكائه، وفهمه لما يدعو إليه.
فقد يريد الداعية إيصال رسالة ما، فيفهم منها ما لا يريد توصيله لمن يدعوهم، فقد تكون البيئة على خلاف ما يأمل، أو يحدث فهم مغاير أو معاكس أو مغلوط، ولذلك كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «لا تبشرهم فيتكلوا»(1).
والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»(2).
فمن آداب الكلام أن الإنسان إذا كلم قومًا فإنه يبتغي درجة من الكلام تبلغها عقولهم ويفهمونها، ولا يخاطبهم بالصعب الذي لا يدركون معناه، ولا بغريب الكلام الذي لا يفهمونه، وينتقي من العلم الأشياء الأساسية الواضحة السهلة التي تتقبل، ويترك الأشياء التي قد ينفر منها الناس لغرابتها عندهم، مع أنها قد تكون من الدين، لكن إذا أدى عرضها إلى تكذيب الله ورسوله، كما يفعل بعض العامة إذا عُرِض عليه شيء غريب جدًا قالوا: هذا ليس حديثًا، ولا يمكن أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام كلامًا مثل هذا، فيؤدي به إلى تكذيب الله ورسوله؛ فعليه أن يجتنبها، ولذلك قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكَذَّب اللَّهُ ورسولُه؟وهذا شيء يهم الخطباء والدعاة إلى الله عز وجل(3).
إن المستمع إذا ما تلقى علمًا لا يستوعبه، أو أن حدود تجاربه الحيوية، وطبيعته النفسية والحياتية، وقدراته الفهمية والثقافية، ومدركاته العقلية لا تستطيع إدراكه؛ فإنه يؤدي به إلى عدم التوازن, يقول الغزالي في إحيائه: «أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه؛ فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفر أو يخبط عليه عقله؛ ولذلك قيل: كِلْ (بكسر الكاف) لكل عبد بمعيار عقله، وزِن له بميزان فهمه؛ حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار»(4).
فالأسلوب الذي لا يناسب المستمع والذي ينفره يجعل الداعية يخسر كثيرًا من المدعوين، الذين قد تكون قلوبهم وصدورهم على استعداد لسماع الهداية, والطريقة العلمية المركزة وجمع الأدلة كلها، وسوق التعليقات والردود والشبهات وتفنيدها، وغيره، قد لا يناسب بعض المدعوين؛ بل قد يجر الملل والسأم إليهم، وبالتالي يفقد العلم هيبته.
جاء في عيون الأخبار: «إن العالِم الحكيم يدعو الناس إلى علمه بالعمل والوقار، وإن العالم الأخرق يطرد الناس عن علمه بالهذر والإكثار»(5).
وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وقصة العرنيين هي قصة قوم من عرينة، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم اجتووا المدينة، أي لم يناسبهم جوُّها، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلمإبلًا من إبل الصدقة يشربون ألبانها، ويستشفون بأبوالها، فقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل، فلحق بهم النبي صلى الله عليه وسلمفقطع أيديهم وأرجلهم، وتركهم عطشى في الحرَّة.
ويلاحظ أن تحديث الحَجاج بهذا يحمله على المبالغة في سفك الدماء، كما قال ابن حجر.
عن أم سلمة قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة, فسمع بذلك القوم, فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله, قالت: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم, فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قال: فبلغ القوم رجوعه، قال: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر؛ فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلًا مصدقًا, فسررنا بذلك, وقرت به أعيننا, ثم إنه رجع من بعض الطريق, فخشينا أن يكون ذلك غضبًا من الله ومن رسوله, فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال, وأذن بصلاة العصر; قال: ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6](6).
مُسببِّات سوء الفهم:
إن الدعاة إلى الله إذا لم يجمعوا بين عمق العلم، ولباقة التصرف، وسلامة التحرك، وصحة التجرد، ونبل المقصد، وسمو الغاية، فإن فشلهم محقق لا محالة.
وسلامة السير تكون نتيجة للفهم السليم للدعوة، بمبادئها وأصولها وثوابتها وأهدافها وغاياتها، وكذلك للواقع بطبيعته، ومكوناته، ومؤثراته، وإفرازاته، فضغط الواقع ينبغي أن لا يسوق الدعاة إلى الحلول الخاطئة، والخيارات القاصرة، فمهما طال انتظار الحلول الصحيحة الدائمة، والخيارات العميقة المدروسة، فإنه هو الصواب، وطول الزمن وتسارع الأحداث لا يفقدان الحق أحقيته، وقصر الزمن وضغط الأحداث لا يمنحان الخطأ صفة الصواب، ولا القصور صفة الحكمة.
لذلك، كانت نعمة الفهم السليم مع حسن القصد من أعظم نعم الله على العبد.
قال ابن القيم رحمه الله: «صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده؛ بل ما أعطي عبدٌ عطاء، بعد الإسلام، أفضل ولا أجلّ منهما؛ بل هما ساقا الإسلام، وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أُمِرْنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال، والغي والرشاد، ويمدّه حسن القصد، وتحرّي الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى»(7).
كما أن سوء الفهم أصل كل بلية، يقول ابن القيم كذلك: «سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام؛ بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد»(8).
فالتحرك السليم نتاج الفهم السليم، والتحرك الخاطئ نتاج الفهم الخاطئ، وقد ترفض في كثير من الأحيان أفكار سليمة، ومواقف حكيمة؛ بسبب الفهم الخاطئ والسقيم لها، كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولًا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم
ولكن سوء الفهم ينشأ في التخاطب الاجتماعي, بكل أطيافه وفروعه, وهو علامة عجز عند المرسل, أو المستقبل, أو هو نذير إخفاقٍ لعملية التخاطب؛ هذا إذا لم تكن سببًا لنتائج عكسية ضارة.
فكما يكون سوء الفهم سببًا في اتخاذ العدو صديقًا؛ فإنه كثيرًا ما يفضي إلى تحويل الأخ والصديق إلى عدو، وما هذا دَيْدن العقلاء؛ إذ هم يجتهدون في تكثير الأصدقاء, واستمالة الناس بدلًا من استعدائهم دون سبب.
وليس غريبًا أن يكون سوءُ الفهم مسئولًا عن كثير من النزاعات على الصعيد الفردي, أو الجماعي والدولي؛ لسبب معروف, وهو أن النشاط اللغوي المنطوي على المضامين الفكرية المتنوعة هو من أبرز النشاطات الإنسانية, وعليه الكثيرُ من التعويل في تكوين الرأي عن الآخرين, وتحديد المواقف منهم.
وترتد ظاهرة سوء الفهم إلى أسباب عقلية, أو نفسية, وأحيانًا يمتزجان معًا, ومنها:
1- الآراء المسبقة:
التي تلغي فاعلية الرسالة اللغوية الحاضرة لصالح فهم مسبق مستقر وطاغ ومُعطِّل.
فحين يملك أحدنا آراءً سلبية مسبقة عن الآخرين سيتصرف بلا وعي على تجسيدها وتحقيقها، وكل من يملك شخصية تصادمية أو متشككة يعمل، بلا قصد، على أقلمة الناس حوله للتعامل معه على هذا الأساس.
فآراؤنا المسبقة مسئولة عن تشكيل مواقف الآخرين تجاهنا، وطريقة تعاملهم معنا، فإن أخذت فكرة عن شخص بأنه يحمل فكرًا مغايرًا لك ستعامله على هذا الأساس، وتتصرف معه بوعي وحذر، وحين يشعر بمعاملتك هذه يتصرف معك بنفس الطريقة، فتشعر أن ما افترضته كان صحيحًا منذ البداية، فتستمر بالتعامل معه كالسابق حتى تصلا لنقطة التصادم الحقيقي!
2-التعصب:
الحب الشديد والبغض الشديد الذي يحجب نور العقل، ويعطل فاعلية التفكير في المعطيات الجديدة، أو يمنع من تقبل الحق من غير الجهة التي نحب, أو الجماعة التي إليها ننتمي، كما قال الشاعر:
إنارةُ العقلِ مَكسوفٌ بِطَوْع هوى وعقلُ عاصي الهوى يَزداد تَنويرًا
3- عجز المُرْسِل أو المُخاطِب عن توضيح كلامه:
وإيصال مراميه ومقاصده إلى المتلقي, وهذا يتطلب التزود بالمعارف اللغوية اللازمة, من علوم البلاغة واللغة, وقد يطال هذا العيبُ بعضَ الناس, حتى لو تكلم اللهجة الدارجة؛ إذ قد يكون الخلل ناتجًا عن حاجته إلى تقوية ملكة الكلام والكتابة، كما قد تتطلب معالجةُ هذا القصورِ في التعبير التدرُّبَ؛ لامتلاك مهارات التواصل, وهي تجمع، بالإضافة إلى المعارف اللغوية، مهارات اجتماعية, وقدرات نفسية.
4- سوء التعامل مع الكلام والحديث من جهة المتلقي:
حين يخطئ في إدراك تراكيب اللغة, ومفرداتها, والمعاني التي تحملها؛ لقصور في التلقي اللغوي.
وكثيرًا ما يُؤتى المخاطَب من قلة تفريقه بين مناحي الكلام ومقاصده؛ إذ قد يظن التوصيف والتحليل رأيًا لقائله.
5- التسرع والعجلة:
ما قد يؤثر على دقة الفهم, أو تكوين الفهم قبل انتهاء المتكلم أو المُرسِل من كلامه ورسالته، وهذا قد يشي برفض تقبُّل ما يقوله الآخر؛ إذ يعاجله بفهمٍ يريده المتلقي أو يتوقعه، ويحدث هذا في أثناء النقاشات والجدل؛ إذ ترى الطرف المتلقي, أثناء تكلم المرسِل، يسمع ولا يستمع؛ إذ هو منشغل الذهن في تحضير الجواب لإسكات الخصم أو إفحامه(9).
6- استخدام العبارات الصعبة:
خاصة تلك المفاهيم أو المصطلحات الأدبية أو السياسية المُعَرَّبة من لغات أخرى؛ مثل: التكنوقراط، أو الكنفدرالية، أو الشيوفونية، وأمثالها من المصطلحات أو بعض العبارات الأدبية العميقة، التي لا يفهمها الجميع.
7- مخاطبة الناس على أنهم ذوو مستوى واحد:
سواء كان هذا المستوى المظنون هو مستوى ثقافي مرتفع أو متدن، فالخطاب يجب أن يشمل الجميع؛ لكيلا يحرم من فهمه البعض الآخر.
8- نقص الأدلة:
فالحديث عندما لا يدعم بالأدلة يكون ضعيفًا، وقد لا يفهمه الكثير؛ لأن الناس تختلف في قدراتها على الاستيعاب، والأدلة تأتي لتسهل عملية الفهم عند هذه الفئات؛ لما تجلبه من توضيح للفكرة المطروحة.
9- كراهية السامع للمتحدث:
فالحاجز النفسي من أكبر عوائق الفهم، وما لم يكن المتكلم مقبولًا على الأقل؛ فإن حاجزًا يتكون بين السامع والمتكلم يحول دون الفهم الصحيح؛ لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يختار رسله للملوك والأمراء يختارهم من أجمل الصحابة وجهًا وجسمًا وفصاحة.
10- استعمال العبارات المطاطة:
أو تلك التي تحتمل أكثر من تأويل تجعل المستمع في حيرة من المقصود، وتُحدِث خلافًا بين المستمعين في مقصود المتحدث، وكلما كان الكلام واضحًا والعبارات مباشرة كان الفهم أكبر من جهة المستمع.
11- عدم اختيار الوقت المناسب:
فاختيار الوقت له أكبر الأثر في فهم المستمع، فالحديث في منتصف النهار أو أوله ليس كالحديث في بداية الليل أو منتصفه.
12- مجانبة الإخلاص:
فالعمل لدعوة الله الغاية منه مرضاته عز وجل، والمقصود به وجهه سبحانه، فإن قُصِد به غير ذلك، ودخلت فيه الأهواء الجانحة، والشهوات الخفية، والنزوات الدفينة، أظلمت القلوب، واختلت العقول، وطاشت الأفهام، فينسف عند ذلك الفهم السليم للدعوة، وتتعثر المسيرة، فقد قال ابن الجوزي رحمه الله: «إنما يتعثر من لم يخلص»، وقيل: ما لا يراد به وجه الله يضمحل.
فالقلب القفر من الإخلاص لا ينبت قبولًا؛ كالحجر المكسو بالتراب لا يُخرِج زرعًا.
ونظرًا للعلاقة الوثيقة بين الإخلاص والفهم، كان الصالحون يجزمون بأنه: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية، إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب.
13- الجهل وقلة العلم:
فمن المستحيل أن يفهم الإنسان شيئًا يجهله، أو لا يعلم منه إلا القليل، والجهل بقواعد الدعوة وأصولها وثوابتها وأبجدياتها، قد يؤدي إلى معاداتها والإضرار بها من حيث يراد نفعها، إنْ على مستوى التبليغ والاستيعاب، أو على مستوى النشاط والممارسة؛ لأن من جهل شيئًا عاداه، وقد قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: «ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل»، قيل له: يا أبا محمد، هل تعرف شيئًا أعظم من الجهل؟، قال: «نعم، الجهل بالجهل»(10).
كما أن قلة العلم والفقر المعرفي والثقافي تضيّق مساحة التصور، وتمنع من النظر إلى المسألة أو الموقف أو المشكلة من كل جوانبها، وتحجب الرؤية السليمة والعميقة والمتكاملة، ممّا يؤثر سلبًا على سلامة الفهم وصحته.
14-اتباع الهوى:
فإن غلبة الهوى واتباعه تصدّ عن الحق، بحيث تظهر الأدلة المقنعة والحجج الدامغة، لكن صاحب الهوى لا يقنعه كل ذلك؛ بل يجحده وينكره ويحرّفه ويؤوله تأويلات تبرر هواه، وقد كان أعظم تخوّف الإمام علي رضي الله عنه من ذلك فقال: «إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق».
فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها، مهما تبيّن له وجه الحق في غيرها، وإنما وضع الذات في كفة والحق في كفة، وترجيح الذات على الحق ابتداءً.
15- العجلة وعدم التروي:
فعدم التأني وعدم التريث في التعامل مع الأفكار يفقد الرأي صوابه، وينزل بالفهم إلى مدارك القصور والخلل؛ إذ لا فهم مع العجلة، وقد أوصى أعرابي أولاده قائلًا: إياكم والعجلة، فإنّ أبي كان يسميها (أم الندم).
وقال الآخر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وحول علاقة التثبت بالفهم الصحيح للمواقف والأحداث والمسائل، يقول ابن الجوزي كذلك: «ما اعتمد أحد أمرًا إذا همّ بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم؛ ولهذا أُمِر الإنسان بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يطول تفكيره، فتعرض على نفسه الأحوال وكأنه شاور، وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره، وأشد الناس تفريطًا من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت ولا استشارة»(11).
16- السطحية وعدم التعمٌّق:
وعدم التعمق في فهم الأفكار والمعاني مرض اشتكى منه علماؤنا قديمًا، حيث قال ابن الجوزي رحمه الله: «فأقلُّ موجود في الناس الفهم والغوص في دقائق المعاني».
والسطحية في التعامل مع الأفكار والآراء والمواقف والأحداث تجعل العقل لا يستوعب بالطريقة الصحيحة، ومن ثَم لا تكتمل الصورة لديه، فلا يتعمق ولا يدقّق، فينتج عنها فهم غير سليم وسطحي وقاصر، فيبني عليه مواقف وأحكامًا، تكون عواقبها وخيمة على الفرد والمجموع؛ لأن نسف الفهم نتيجته نسف كل ما يرتبط به ويبنى عليه(12).
وتظل حالات سوء الفهم قائمة ما دمنا بشرًا، ينزغ بيننا الشيطان, ويعتري أحاسيسنا الوهمُ, وتخذلنا قدراتُنا في الربط والإدراك, وتتنازعنا الأهواءُ والعواطف، غير أننا، بالقطع, نستطيع التنبه والاجتهاد, وتلافي ما نستطيعه من أسباب سوء الفهم, أو الحد منها, والله الموفق, وهو الهادي إلى الحكمة والصواب.
__________________
(1) رواه البخاري (2856)، ومسلم (30).
(2) رواه مسلم (1/11).
(3) خاطبوا الناس على قدر عقولهم، الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ محمد صالح المنجد.
(4) إحياء علوم الدين، للغزالي (1/57)
(5) خاطبوا الناس على قدر عقولهم، موقع المسلم.
(6) تفسير الطبري (26/78).
(7) إعلام الموقعين، لابن القيم (1/87).
(8) الروح، لابن القيم، ص58.
(9) في مسببات سوء الفهم، موقع المسلم.
(10) الدعوة قواعد وأصول، جمعة أمين، ص181.
(11) صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص374.
(12) نواسف الفهم السليم، شبكة الحوار نت.